التوازن بين العلم وغيره
«ويندر من الخلق من يلهمه الكمال وطلب الأفضل، والجمع بين العلوم والأعمال ومعاملات القلوب، وتتفاوت أرباب هذا الحال»(1).
الإمام ابن الجوزي رحمه الله.
إن المسلم اليوم مطالب بإرجاع أمته إلى سابق مجدها وقديم عزِّها، وسبيله إلى ذلك هو إصلاح نفسه، ثم دعوة غيره.
وإصلاح النفس هدف يرجوه كل مسلم، ولكن دونه عقبات عظيمة، لا سيما في هذا العصر، وأعظم هذه العقبات هي ما كان من داخل الشخص نفسه؛ إذ إن هناك عقبات حسية ومعنوية، ولكن أعظم العقبات قاطبة هو ما يصادم الشخص داخل نفسه، فالنفس أمارة بالسوء، وفيها كِبْر وحسد وحقد وغلّ وبغضاء ورياء وشقاق ونفاق، إلى غير ذلك من المهلكات، فمن وفقه الله للنجاة من هذه الآفات وأمثالها فهو في خير عظيم، وقد تكفّلت كتب كثيرة بشرح سبل السلام من هذه المهلكات شرحًا وافيًا كافيًا.
ثم إن المسلم إذا خلّص دواخله من كل هذا، فجأتْه مجموعة من المطالبات النفسية الداخلية، وهي ما يمكن أن يسمى "النوازع"، أقلقته وعصفت به، ويمكن في كثير من الأحوال أن يقوده عدم تحقيقها إلى اليأس والإحباط إن لم تدركه رحمة مولاه وفضله.
وأعني بهذه النوازع ما تنزع إليه النفس وترغبه وتشتهيه.
ولشرح جانب من هذه النوازع، والتوفيق بين بعضها البعض، والتوازن والترجيح بينها كانت هذه الكلمات.
جوانب التوازن في طلب العلم:
هذا النازع قوي متجذر في نفوس كثير من الملتزمين بالإسلام؛ وذلك لما ورد من نصوص كثيرة في الكتاب والسنة وكلام أئمة السلف تنوِّه بطلب العلم، وتذكر عظم أجره وفضله.
والعلماء العاملون سبب لهداية الناس، وهم الذين يجدّدون الدين، وينقّونه مما عَلق به من البدع والمخالفات، ويصححون مفاهيم العامة وآراءهم، وهم الذين يُستشفى بحديثهم، ويتنزل نصر الله بسببهم.
أولًا: التوازن في طلب العلوم المختلفة، وتفضيل بعضها على بعض:
يحتاج طالب العلم إلى النظر والتخير في العلوم ليعلم بأيها يبدأ، وأيها يؤخر.
قال الإمام يحيى بن عمار السجستاني: »العلوم خمسة: علم هو حياة الدين؛ وهو علم التوحيد، وعلم هو قوت الدين؛ وهو العظة والذكر، وعلم هو دواء الدين؛ وهو الفقه، وعلم هو داء الدين؛ وهو أخبار ما وقع بين السلف، وعلم هو هلاك الدين؛ وهو علم الكلام»(2).
وقيل للإمام مالك: »ما تقول في طلب العلم؟ قال: حسن جميل، ولكن انظر الذي يلزمك من حين تصبح إلى أن تمسي فالزمه»(3).
وقد يحتاج طالب العلم أن يستشير غيره في هذه القضية المهمة، وعلى طالب التفصيل الرجوع إلى الكتب التي تتحدث عن طرق طلب العلم ومراتب العلوم(4).
ثانيًا: التوازن بين طلب العلم وطلب ترقيق القلب:
وهذا من أهم المهمات، فقد حثّ عليه السلف كثيرًا، وحذروا من تركه والتفريط فيه؛ لأن الشخص حال انشغاله في طلب العلم قد ينسى هذا الأمر المهم.
فهذا محمد بن عبادة المعافري يحدث أنه وصحبه كانوا عند أبي شريح المعافري رحمه الله: »فكثرت المسائل فقال: قد دَرنت قلوبكم، فقوموا إلى خالد بن حميد المَهْري استقلُّوا قلوبكم، وتعلموا هذه الرغائب والرقائق فإنّها تجدد العبادة، وتورث الزهادة، وتجرّ الصداقة، وأقلوا المسائل فإنها، في غير ما نزل، تقسي القلب، وتورث العداوة»(5).
وقال شعبة: »إن هذا الحديث يصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة وعن صلة الرحم، فهل أنتم منتهون»(6).
يعني أن كثرة طلب الحديث قد تؤدي إلى ما ذكره إذا لم يُجمع بينه وبين قراءة الرقائق والمرغبات والمزهِّدات.
»وذُكر معروف الكَرخي عند الإمام أحمد، فقيل: قصير العلم، فقال: أمسك، وهل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف»(7).
وذكر الإمام ابن الجوزي رحمه الله أمر الموازنة بين العلم وطلب ترقيق القلب، فقال: »تأملت العلم والميل إليه والتشاغل به، فإذا هو يقوي القلب قوة يميل به إلى نوع قساوة، ولولا قوة القلب وطول الأمل لم يقع التشاغل به، فإني أكتب الحديث أرجو أن أرويه، وأبتدئ بالتصنيف أرجو أن أتمه، فإذا تأملت إلى باب المعاملات قلّ الأمل، ورقّ القلب، وجاءت الدموع، وطابت المناجاة، وغشيت السكينة...، إلا أن العلم أفضل، وأقوى حجة، وأعلى مرتبة، وإن حدث منه ما شكوت منه، والمعاملة، وإن كثرت الفوائد التي أشرت إليها منها، فإنها قريبة إلى أحوال الجبان الكسلان، الذي قد اقتنع بصلاح نفسه عن هداية غيره، وانفراد بعزلته عن اجتذاب الخلق إلى ربهم، فالصواب العكوف على العلم مع تلذيع النفس بأسباب المرقِّقات تلذيعًا لا يقدح في كمال التشاغل بالعلم»(8).
وقول الإمام ابن الجوزي: «فالصواب العكوف على العلم، مع تلذيع النفس بأسباب المرققات...»، يُعد من القواعد الجامعة المُثلى في هذا الباب.
والناظر اليوم لحال طلبة العلم يعرف أن أكثرهم قد قست قلوبهم، وجمدت عيونهم، وانصرفوا عن الرقائق، وطلب بعضهم الدنيا بعلمه؛ وذلك لأن القلب ليس متوجهًا إلى الله عز وجل، ولا اللسان بمخلص في دعواه، وهذا من عوامل تأخر النصر، وقلة التوفيق، وندرة البركة في الأعمار والأوقات، والله المستعان.
ثالثًا: التوازن بين طلب العلم وحقوق الأهل والأولاد:
إذ إن حب العلم للعلم أعظم من حب الناس للمال والنساء، وطالب العلم إن لم يواز بين الحقوق المختلفة يضعف عن إكمال مسيرته.
وقد يقول قائل: إن السلف كانوا يطلبون العلم ولا يفكرون في غيره من الأمور المذكورة، وأقول لمن يقول ذلك: هات نساءً كنساء السلف، وهات معيشة كمعيشتهم، ثم يصح لك بعد ذلك قياسك.
وهاك أمثلة توضح مدى انشغال طالب العلم به، فقد قال سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى: »لا تدخل هذه المحابر بيت رجل إلا أشقى أهله وولده»(9)؛ أي: أشقاهم بكثرة انشغاله عنهم، وانشغاله عن طلب الرزق.
وسأل رحمه الله رجلًا: ما حرفتك؟ قال: طلب الحديث، فقال له: «بشِّر أهلك بالإفلاس»(10)، أي أنه لأجل حرفته هذه لن يطلب عملًا دنيويًا يُغني به أهله.
وقالت بنت أخت الزبير بن بكار لزوجه: »خالي خير رجل لأهل؛ لا يتخذ ضرَّة ولا سُرِّية»، فقالت المرأة: «والله هذه الكتب أشد عليّ من ثلاث ضرائر»(11).
ونحن اليوم بين مُفْرط ومُفَرِّط، بين قابع في بيته لا يخرج بدعوى الحفاظ على حقوق الأهل والأولاد، وبين مضيع لهم لا يعرف لهم حقًا ولا واجبًا، وقليل من التزم الجادة وأعطى كل ذي حق حقه، والطريقة المثلى في ذلك ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
رابعًا: التوازن بين طلب العلم وفعل التطوعات:
هذه مسألة مهمة طالما أرَّقت طالب العلم الجادَّ، حيث إنه يفضل طلب العلم على فعل التطوع، ويظل هذا الأمر يحوك في صدره زمانًا طويلًا، خاصة عند قراءة سير العابدين الزاهدين.
يقول الإمام الذهبي رحمه الله شارحًا المراد: »هذه مسألة مختلف فيها: هل طلب العلم أفضل أو صلاة النافلة والتلاوة والذكر؟، فأما من كان مخلصًا لله في طلب العلم وذهنه جيد فالعلم أولى، ولكن مع حظٍّ من صلاة وتعبد، فإن رأيته مجدًا في طلب العلم لا حظ له في القربات فهذا كسلان مهين، وليس هو بصادق في حسن نيته، وأما من كان طلبه الحديثَ والفقه غيَّةً ومحبة نفسانيّة فالعبادة في حقّه أفضل؛ بل ما بينها أفعل تفضيل، وهذا تقسيم في الجملة، فقَلّ، والله، من رأيته مخلصًا في طلب العلم»(12).
وقال في موضع آخر معلقًا على قول ابن المبارك:» ما رأيت أحدًا ارتفع مثل مالك، ليس له كثير صلاة ولا صيام إلا أن تكون له سريرة«، فقال رحمه الله: »ما كان عليه من العلم ونشره أفضل من نوافل الصوم والصلاة لمن أراد به اللهَ»(13).
فحاصل كلام الإمام الذهبي رحمه الله تعالى هو وجوب التوازن بين العلم والعبادات التطوعية لتحقيق الكمال المنشود، وإن كان، الذهبي رحمه الله، يفضل العلم على النوافل مثل كثير من السلف.
خامسًا: التوازن بين طلب العلم الشرعي وبين طلب الثقافة الإسلامية والواقعية:
كثير من إخواننا الصالحين المعتكفين على العلم الشرعي قد قصروا أنفسهم عليه، أو على جانب منه، ولم يهتموا بما يُثري ثقافتهم الإسلامية، أو بمعرفة واقعهم الذي يعيشونه، فترى كثيرًا منهم لا يفقهون أحوال إخوانهم المسلمين، ولا يهتمون بما آل إليه حال الأقليات، ولا يطّلعون على شبهات الكافرين والضالين ... إلخ.
وهذا الأمر، لا شك، عيب في العالِم أو طالب العلم المتصدِّر لإرشاد الناس؛ إذ معرفة أحوال الناس أمر لا غنى عنه لفهم مشاكلهم، والعمل على حلها.
والعجيب أن بعض الناس اليوم يستهزئ بأمر معرفة الواقع، ويعده من الفضول؛ بل علامة على خسارة الشخص المشتغل به، وهذا والله عجيب عجيب؛ إذ كيف يريدون أن يعيش الناس، ويواجهوا أعداءهم، أبجهل واقع الأعداء والغفلة عن شأنهم؟!.
نحن بحاجة ماسة لمعرفة الواقع العقدي، والفكري، والثقافي، والفني، والسياسي، والاقتصادي، والاجتماعي لكل الأمم المحيطة بنا ممن تتربص بنا الدوائر، وتعمل على حربنا بشتى الوسائل، وإن لم نفعل ذلك فنحن غارقون في الغفلة والسذاجة.
هذه بعض جوانب التوازن في طلب العلم التي لا مناص لطالب العلم من مراعاتها؛ حتى لا يضل الطريق السوي أو ينقطع.
________________
(1) صيد الخاطر، لابن الجوزي (262).
(2) نزهة الفضلاء تهذيب سير أعلام النبلاء، لمحمد بن حسن بن عقيل موسى الشريف (3/1231).
(3) المصدر السابق (2/621).
(4) من تلك الكتب: (تذكرة السامع والمتكلم)، للشيخ ابن جماعة رحمه الله، و(تعليم المتعلم طرق التعلم)، لبرهان الدين الزَّرْنُوجي، و(الحث على طلب العلم)، لأبي هلال العسكري، وغيرها.
(5) نزهة الفضلاء (1/ 579-580).
(6) المصدر السابق (1/581).
(7) المصدر السابق (2/714).
(8) صيد الخاطر (141).
(9) نزهة الفضلاء (2/671).
(10) المصدر السابق.
(11) المصدر السابق (2/892).
(12) المصدر السابق (1/578).
(13) المصدر السابق (2/621-622).
المصدر: كتاب (التنازع والتوازن)، للدكتور محمد بن حسن بن عقيل موسى الشريف، بتصرف.