logo

التكاليف بلا تكلف


بتاريخ : السبت ، 17 جمادى الأول ، 1447 الموافق 08 نوفمبر 2025
بقلم : تيار الإصلاح
التكاليف بلا تكلف

جاءت التكاليف الشرعية متوافقة مع الطبيعة البشرية والفطرة الربانية التي فطر الله الناس عليها، ومُوجّهة لها ومعدلة لما يطرأ عليها من خلل أو نقص أو اضطراب، ومعالجة لما يحدث لها من خطأ أو انحراف، فعن عياض بن حمار المجاشعي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ذات يوم في خطبته: «وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا» (1).

والمعنى ما أحد يولد إلا على هذا الأمر الذي هو تمكن الناس من الهدى في أصل الجبلة، والتهيؤ لقبول الدين، فلو ترك على تمكنه، وتهيؤه المذكورين لاستمر على الهدى والدين، ولم يفارقه إلى غيره لأن حسنه ركز في النفوس فلم يقع لها عدول عنه إلا لآفة بشرية، أو تقليد للغير (2).

والتكليف بقدر الطاقة سلوك عامّ في الإسلام، تآزرت عليه آيات القرآن الكريم -بصِيَغ مُتعدّدة-، وأحاديث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فما يَقدر عليه فرد قد يَعجز عنه آخر، فيُطالَب من الأداء بقَدْر طاقته.

والتكلف: معالجة الكلفة، وهي ما يشق على المرء عمله والتزامه لكونه يحرجه أو يشق عليه، ومادة التفعل تدل على معالجة ما ليس بسهل، فالمتكلف هو الذي يتطلب ما ليس له أو يدعي علم ما لا يعلمه (3).

قال تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86]، أي: وما أزيد على ما أرسلني الله به، ولا أبتغي زيادة عليه بل ما أمرت به أديته لا أزيد عليه ولا أنقص منه؛ وإنما أبتغي بذلك وجه الله عز وجل والدار الآخرة (4).

قال الرازي: أي لست متكلفًا فيما يظهر لكم من أخلاقي لأن المتكلف لا يدوم أمره طويلًا بل يرجع إلى الطبع (5).

وأخذ من قوله: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} أن ما جاء به من الدين لا تكلف فيه، أي لا مشقة في تكاليفه وهو معنى سماحة الإسلام، وهذا استرواح مبني على أن من حكمة الله أن يجعل بين طبع الرسول صلى الله عليه وسلم وبين روح شريعته تناسبًا ليكون إقباله على تنفيذ شرعه بشراشره لأن ذلك أنفى للحرج عنه في القيام بتنفيذ ما أمر به (6).

إن من أعظم ما امتازت به شريعة الإسلام أنها شريعة اليسر والسهولة، وأنها جاءت لتراعي طاقات البشر وقدراتهم، فلا تكلّف نفسًا فوق وسعها، ولا تفرض عليها ما لا تحتمل، ومن أعظم ما يغرسه هذا الأصل في القلب: الطمأنينة والرضا بالله، فلا ينظر المسلم إلى الشريعة على أنها مشقّة، بل يجدها رحمة، وحين يعلم أن الله لا يكلِّفه إلا وسعه، يزداد محبة لله وثقة بحكمته، أكد الرازي في مفاتح الغيب أن الوسع دون الجهد والمشقة، فقال: والوسع ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه ولا يحرج فيه، قال الفراء: هو اسم كالوجد والجهد، وقال بعضهم: الوسع دون المجهود في المشقة، وهو ما يتسع له قدرة الإنسان (7)، وهو ما أكده البغوي في معالم التنزيل فقال: والوسع: اسم لما يسع الإِنسان ولا يضيق عليه (8)، وجاء في محاسن التأويل للقاسمي: {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] أي: لا يحملها إلا ما تسعه وتطيقه ولا تعجز عنه (9).

أما السيوطي فقد أكد أن الوسع يعني القدرة فقال في الجلالين: {لَا يُكَلّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} أي ما تسعه قدرتها (10)، وتحديد الوسع بالقدرة أقرب للفهم والعمل لدى عموم المسلمين، والخلاصة في أقوال المفسرين أعلاه، هي أن الوسع هو: ما تتسع له القدرة، ما دون مدى الطاقة، والمجهود في المشقة، ما يتيسر على المرء ويطيقه، ولا يضيق عليه، ولا يعجزه.

عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة» (11)، أي ميسر مسهل في عقائده وأخلاقه وأعماله، وفي أفعاله وتُروكه.

وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وهذه هي القاعدة الكبرى في تكاليف هذه العقيدة كلها، فهي ميسرة لا عسر فيها، وهي توحي للقلب الذي يتذوقها، بالسهولة واليسر في أخذ الحياة كلها، وتطبع نفس المسلم بطابع خاص من السماحة التي لا تكلف فيها ولا تعقيد، سماحة تؤدى معها كل التكاليف وكل الفرائض وكل نشاط الحياة الجادة وكأنما هي مسيل الماء الجاري، ونمو الشجرة الصاعدة في طمأنينة وثقة ورضاء، مع الشعور الدائم برحمة الله وإرادته اليسر لا العسر بعباده المؤمنين (12).

وقال سبحانه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» (13).

قال ابن تيمية: قوله إياكم والغلو في الدين عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال، والغلو مجاوزة الحد بأن يزاد في مدح الشيء أو ذمه على ما يستحق، ونحو ذلك (14).

ورغم أن الأصوليين يُعبِّرون عن عبادات الفعل والترك بـ«التكاليف»؛ إلا أنها في واقعها لا تتجاوز حدود الطاقة والإمكان بلا عسر؛ {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: ١٨٥]، فضلًا عن ارتقاء فئة من المؤمنين إلى درجة الاستمتاع والتلذذ بالعبادة -التي ربما استثقلها غيرهم-؛ لما يجدون من فَيْضها عليهم طمأنينةَ نفسٍ، وراحةَ بالٍ، ورضوانًا من الله وبركات، رائدهم في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ القائل: «يا بلالُ، أقِمِ الصَّلاةَ، أرِحْنا بها» (15)، أي نستريح بأدائها من شغل القلب بها وقيل كان اشتغاله بالصلاة راحة له فإنه كان يعد غيرها من الأعمال الدنيوية تعبا فكان يستريح بالصلاة لما فيها من مناجاة الله تعالى، والقائل: «وجُعِلَت قُرّة عيني في الصلاة» (16) وخصها لكونها محل المناجاة ومعدن المصافاة، وليس للقلوب سرور ولا لذة تامة إلا في محبة الله والتقرب إليه بما يحبه ولا تمكن محبته إلا بالإعراض عن كل محبوب سواه (17).

فالعبادات تتماشى مع الفطرة والـ(بساطة) وتتقبّلها، ولا تتلاءم مع الميكنة والتقنين والتعقيد -وإن كانت تؤدي الغاية منها بكفاءة مع كافة الظروف-، لكن دون قصد للتكلُّف أو اتخاذه هدفًا يُربط به تنفيذ العبادة؛ فهذا عمران بن حصين رضي الله عنه يقول: كانت بي بواسير، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة، فقال: «صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب» (18).

وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فَزِعًا خائفًا، يقول: يا رسول الله، هلكت -فقد وقع على امرأته في نهار رمضان، ووجبت عليه الكفارة المغلظة-، فتدرَّج معه النبي صلى الله عليه وسلم نزولًا في سُلّم الاستطاعة؛ مِن عتق رقبة، إلى صيام شهرين متتابعين، إلى إطعام ستين مسكينًا، إلى أن دفَع إليه النبي صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ (مكتل) فيه تَمر ليتصدق به، فيقول الرجل: أعلى أفقر منّي يا رسول الله؟ فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: «أطْعِمْه أهلك» (19).

وأعظم مؤتمرات الدنيا انعقد في الصحراء تحت شجرة؛ {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: ١٨]، ولعل من أسباب ذِكْر الشجرة -رغم عدم أثرها في موضوع البيعة نفسه- بيان فطرية العبادات، وسهولة وسائلها، وعدم التكلف في الاستعدادات لها، والشجرة نفسها أصبحت ذات قيمة معنوية كبيرة.

وأعظم خُطَب التاريخ كانت تُلْقَى بجوار جذع نخلة، في أشرف مسجد.

ومُتّكأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومستندُه في مسجده كان جذعَ نخلة، وصلواته كانت في مسجد صغير المساحة، وفرشه الحصباء، وأعمدته جذوع النخل، وسقفه من جريدها، إذا نزل مطر وَكَفَ على مَن فيه؛ قال الإمام البخاري رحمه الله: باب: بُنْيَان المسجد، وقال أبو سعيد: كان سقف المسجد من ‌‌جَرِيد النخل.

إنها صورة تختصر التواضع والبركة، وتذكِّر بأن العظمة ليست في زخرف المكان ولا فخامته، بل في صدق الكلمة، وحرارة الإيمان، ونور الحق.

إن البركة في التواضع، وأن الجلال في الصدق، وأن المكان يكتسب شرفه بمَن يقف عليه وبما يُقال فيه، لا بزخرفته وذروته.

فكثيرًا ما يُفتتن الناس بهيئة الخطباء أو زخارف المنابر، ويُعجبون بفصاحة الألسن ورنين العبارات، وينسون أن أعظم ما يُحرِّك القلوب ويحيي النفوس هو صدق الكلمة، وحرارة الإيمان، ونور الحق الذي يشعُّ من قلب المتكلم قبل لسانه.

وهنا مسألتان ينبغي بيانهما لكونهما تختلطان أو تغيبان عمن يتصدون للقضايا المعاصرة، لا سيما الصعوبات والعقبات التي تواجه المسلمين عند التقيد بالأحكام الشرعية.

علاقة التكليف بقدرة المكلَّف، وبالرّخص الشرعية:

القدرة: من المقرر في أصول الفقه أن القدرة شرط من شروط التكليف، تمامًا كالعقل والبلوغ، وهو من المسائل الثابتة في كتب أصول الفقه تحت مباحث الحاكم والمحكوم فيه والمحكوم عليه ...، فالقدرة على الأداء شرط في وقوع التكليف كالقدرة على فهم الخطاب.

الرخص الشرعية: أن ما نزل من أحكام وتشريعات تكليفية من التحليل والوجوب والتحريم، لا بدّ أنها تقع ضمن قدرة الإنسان وطاقته العادية، بتفاوت بين اليسر والمشقة غير العادية، وهي لا تخرج عن ذلك إلا في حالات وأسباب شُرعت لها رُخَص وأحكام خصصت الحكم التكليفي العام، من مثل العجز المقعد، والاضطرار الملجئ {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173]، والإكراه «إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه» (20).

التكاليف والمفاهيم الشرعية:

 يتعين علينا وضع مفهوم التكليف في سياقه الصحيح في دين الإسلام وشريعته من حيث العبودية لصاحب الشريعة ومُصدِر التكليف، وهو الله سبحانه وتعالى.

التكليف والمنفعة: لقد سيطر مفهوم النفعية والمصلحة الشخصية والظواهر المادية على كثير من المسلمين، حتى المتدينين، بل وسيطرت هذه المفاهيم المناقضة لنصوص القرآن والسنة على خطاب الكثير من الوعاظ وما يُطلق عليه "الدعاة الجدد" الذين يتوسّلون في مقارباتهم بربط التكاليف الشرعية بالفوائد والمصالح والمنافع كوسيلة للجذب والإقناع، ليس في أحكام المعاملات فحسب، بل حتى في أحكام العبادات والأخلاق.

وهو ما جعل طاعة الله في أوامره ونواهيه، وحلاله وحرامه وقفًا على ما يراه الفرد، رجلًا أو امرأة، الشاب أو الفتاة، من منافع وفوائد يحققها لهم الحكم الشرعي، وأدى إلى تغييب المفاهيم الشرعية الأساسية من تسليم وطاعة ورضى وانقياد لله سبحانه ولرسوله صلى الله عليه وسلم.

ونتج عن ذلك أن تركز في أذهان عامة المسلمين أن الشرع لا يتعارض مع مصلحة الشخص، طبعًا كما يراها هو، لا كما شرعها علام الغيوب، الحكيم العليم، اللطيف الخبير.  

تحديد التكليف عمليًا: من المعلوم أن استنباط الأحكام الشرعية بما فيها التكاليف، منوط بالمجتهدين ممن توفرت لديهم أدوات الاجتهاد وعلومه اللغوية والشرعية، كما أن تنزيل الأحكام على واقع المسائل والمكلفين منوط بالفقهاء، وبمن تولى القضاء من المجتهدين والفقهاء.

وذلك لأن جلّ الأحكام تستنبط بالدلالات والقرائن اللغوية الشرعية، ويكاد يلزم فيها كلها الجمع بين نصوص المسألة الواحدة في الكتاب والسنة، وإعمال قواعد التفسير وعلوم الحديث وعلوم اللغة، وعلوم الأصول كالإجماع والقياس.

وكل ذلك لا يتأتى للمسلم العادي، أي من ينطبق عليه وصف المقلد العامي.

التكليف ودار العمل: في خضم هذه الحياة يغيب عنا، في الفكر والهم والعمل والمكابدة، أن الحياة هي عرض زائل مؤقت، بأزمانها ومتاعها وهمومها وأفراحها وسكانها وكل ما فيها، والسبب بسيط وعميق؛ أن الحياة الدنيا دار عمل وهي في حقيقتها منزل عارض ومتاع ومعبر وممر، وأن الآخرة هي دار الجزاء والنعيم الدائم والمستقر، {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)} [الحديد: 20- 21]، إلا أننا نغتر بطول الأمل فنفقد البوصلة، وتنقلب الوسائل عندنا إلى غايات، ويختلط الجوهر بالمظهر، فنؤخّر المُقدَّم ونقدّم المؤخّر.

وهذا المفهوم هو أمر عقدي أساسي في إيماننا وليس أمرًا جزئيًا أو ثانويًا؛ بل هو عماد الإيمان بالدار الآخرة الذي هو أسّ العقيدة، ومن شأن الاستحضار الدائم لهذا الأمر الإيماني أن يجعل كل تكليف مهما بلغت مشقته وآلامه وتكلفته -النفسية والبدنية والمالية- أمرًا زائلًا ومؤقتًا، ومقدورًا عليه.

التكليف والصبر: التكليف، كما مرّ معنا أعلاه، فيه شيء من المشقة والعناء والجهد، ولذلك كان طبيعيًا أن يشدد القرآن في مواضع كثيرة على الصبر، وهو حبس النفس على ما تكره أو عما تحب، لما له من أهمية مركزية في حياة الإنسان لكي يواظب على تحمل التكاليف، {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]، وإن كانت في نطاق الوسع أصلًا، إلا أن تنوعها وتغير أوضاع الحياة وأحوال المكلَّف قد يتطلب مشقة فوق العادة، ويستدعي من المكلَّف سلاحًا عقديًا ونفسيًا وجلادة بدنية عمادها التربية والرياضة والتدريب.

ويكفي أن نتلو قوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]، وقوله تعالى: {وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146]، لنعلم أهمية الصبر ومكانته في ترسيخ الإيمان وتثبيت العمل، سواء في العبادات كالصوم والحج والجهاد، أو في المعاملات كالتجارة والمظالم والخصومات.

على أن الصبر تأكد في القرآن بالتكاليف الشاقة والخطرة كالجهاد من جهة، وبالعقيدة كدخول الجنة والفلاح في الآخرة من ناحية أخرى؛ قال تعالى في سورة آل عمران {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142]، والصبر والجلادة هو من القيم والخصال الأساسية في حياة الناس، وهو في الإسلام ولدى المسلم له شأن كبير لا يصح ولا يجوز فصله عن الحياة اليومية العملية.

بل هو منبع للطاقة الروحية والمعنوية التي مكنت الرعيل الأول من المسلمين من الثبات والتضحية ومهدت لانتصار الإسلام في مهده، وإلا فما معنى قول النبي عليه السلام، المؤيد بوحي ربه، لآل ياسر وهم يتألمون تحت التعذيب بسبب التكليف الأول وهو الأيمان: «صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة» (21).

التكليف والابتلاء: الابتلاء هو الاختبار، ولا يتنافى التكليف بالوسع مع الاختبار والتعرض للفتن {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ} حيث قال: أي نبتليكم بالشر والخير فتنة بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال (22).

فهو ليس فقط ابتلاء يتسق ويتناسق مع التكليف، بل هو فرصة لتحقيق الإيمان في مواطن التكليف الخطِر، وتصديق إيمان القول بالفعل ظاهرًا يقينيًا لا تردد فيه، ولو ترتب عليه الموت المحقق.

ماذا لو فهم الصحابة "الوسع" بالمفهوم الشائع اليوم؟ فهل كان أبو بكر رضي الله عنه، سيسحق تمرد قبائل العرب من المرتدين ومانعي الزكاة، وينفّذ في الوقت ذاته جيش أسامة لحرب الروم في الشام؟

ماذا لو فسر سلاطين آل عثمان "الوسع" في سياق الجهاد كما يفسره علماء اليوم، هل كانوا سيفتحون القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية ويجتاحون أوروبا الشرقية ويحاصرون فيينا؟

ماذا لو تأول قادة الأيوبيون "الوسع" كما يتأوله خطباء اليوم، فهل كانوا سيخوضون معركة حطين بقيادة صلاح الدين، ويحررون بيت المقدس ويطردون الصليبيين من بلاد الشام؟

وماذا لو فهم قادة المماليك "الوسع" كما يفهمه فقهاء اليوم، فهل كانوا سيسحقون المغول في عين جالوت ويردوا المغول عن بلاد المسلمين خائبين؟

الله العليم الخبير، الذي أحاط بعلمه كل الوجود، الإنسان والزمان والمكان، فلا يخفى عليه حال الإنسان في أي زمان ومكان، فلا يشرّع له ما ليس في وسعه أي طاقته وقدرته، فثبوت التكليف تشريعيًا هو بذاته دليل على وجود الوسع، وقد جاءت أحكام الرخص والتخصيص والاستثناء تأكيدًا على هذه الحقيقة (23).

الشريعة من حيث العموم والإجمال قد وضعت على خلاف داعية الهوى، فإذا التبس عليك أمر فانظر إلى الهوى أين يتجه؟ فغالبًا تجد أن حكم الشريعة مخالف لداعية الهوى؛ لأن الشريعة إنما وضعت لانتشال المكلف وانتزاعه ورفعه من داعية هواه ليتخلَّص من رقِّ الهوى، ومن عبادة النفس والشيطان إلى عبادة الملك الديَّان، فإذا كان الإنسان متتبِّعًا للرُّخَص فهو في الواقع يدور مع هواه حيث دار، وصار مخالفًا لقصد الشارع بوضع الشريعة، وبتكليفه بها.

يقول الإمام إسماعيل القاضي المالكي: دخلت على المعتضد فدفع إليَّ كتابًا، فنظرت فيه وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء وما احتج به كل منهم، فقلت: مصنف هذا زنديق، فقال: لم تصح هذه الأحاديث؟ قلت: الأحاديث على ما رويت ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح المسكر، وما من عالم إلا وله زلة، ومن جمع زلل العلماء، ثم أخذ بها ذهب دينه، فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب (24).

على العبد إذا اختلفت أمامه الأقوال أن يكثر من التضرع إلى الله تبارك وتعالى ويكثر من سؤال ربه جل وعلا أن يهديه إلى الصواب، فيما اختلف فيه بإذنه، ويدعو بهذا الدعاء الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: «اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» (25).

***

------------

(1) أخرجه مسلم (2865).

(2) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (1/ 163).

(3) التحرير والتنوير (23/ 309).

(4) تفسير ابن كثير (7/ 82).

(5) مفاتيح الغيب (30/ 601).

(6) التحرير والتنوير (23/ 309).

(7) مفاتيح الغيب (7/ 116).

(8) تفسير البغوي (1/ 357).

(9) محاسن التأويل (2/ 241).

(10) تفسير الجلالين (ص: 64).

(11) أخرجه البخاري (39).

(12) في ظلال القرآن (1/ 172).

(13) أخرجه ابن ماجه (3029).

(14) فيض القدير (3/ 126).

(15) أخرجه أبو داود (4985).

(16) أخرجه النسائي (3940).

(17) مجموع الفتاوى (28/ 32).

(18) أخرجه البخاري (1117).

(19) أخرجه البخاري (1936).

(20) أخرجه ابن ماجه (2043).

(21) أخرجه الحاكم (5646).

(22) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (4/ 147).

(23) لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها: دعاوى التفلّت من التكاليف الشرعية/ طريق الإسلام.

(24) تاريخ الخلفاء (ص: 268).

(25) أخرجه مسلم (770).