التخلف التربوي
حينما نتحدث عن التربية فإننا نتحدث عن مستقبل الأمة ورجالاتها القادمين فالجيل الصالح الذي يخضع لتربية حسنة يصنع أمة ذات قيم وأخلاق والجيل الفاسد الذي لا يخضع للتربية أو يخضع لتربية فاسدة يكون نتاجه أمة مهزوزة فاسدة تعاني من التخلف التربوي الذي يفسد جذوتها.
وينشأ ناشئ الفتيان فينا * على ما كان عوّده أبوه
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما نحل والد ولده أفضل من أدب حسن) ويقول أيضًا صلى الله عليه وسلم: (لأن يؤدب الرجل ولده خير له من أن يتصدق بصاع).
الفرق بين التربية والرعاية:
إن معظم أسرنا العربية اليوم لا تربي، ولكنها ترعى، والفرق كبير بين الاثنين، فالتربية مهمة عظيمة لغرس المبادئ والقيم والثقافات وتعديل السلوك، أما الرعاية فهي الاهتمام بالجوانب المادية كالملبس والمأكل والمسكن والواجبات المدرسية والمهارات والقدوات والاهتمامات … ولا شك أن تربية الجسم مهمة لكنها لا تعني شيئا أمام تربية النفس والعقل والروح.
فأين أسرنا من غرس العقيدة وبناء المواطن الصالح؟
أقبل إلى النفس فاستكمل فضائلها فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان.
أهمية التربية:
ينظر البعض إلى الأطفال على أن عقولهم صغيرة وأنهم لا يفهمون، مما ولّد كثيرًا من الإهمال لهم ولتربيتهم.
وغاب عن هؤلاء أن أهم مراحل بناء الشخصية وتثبيت القيم هي مرحلة الطفولة والتي تحتاج إلى تربية مستمرة وجادة ومدروسة ذلك أن الطفل يتلقف كل ما يصله ويحاول تخزينه.
ويكفي أن نعلم أن الطفل في عامه السادس يتعلم 5000 مفردة سنويًا في حين أن الشخص البالغ يتعلم 150 مفردة جديدة فقط!
مظاهر التخلف التربوي:
1- سوء الأدب عند الصغار والمراهقين:
ويبدأ بعقوق الأبناء لآبائهم ثم بعدم احترام الأخ الصغير لأخيه الكبير ثم بتمرد المراهقين على كل من حولهم وعدم استجابتهم لأي نصيحة.
بل ربما تعدى الأمر ذلك فترى الصغير يهين من هو أكبر منه ولا يقيم له وزنا بل وربما يناله بالسب والشتم والضرب!!
وقد روى لنا الإمام البخاري حديثا عظيما في أدب ابن عمر رضي الله عنهما وهو صغير يقول ابن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما لأصحابه: إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وإنها مثل المؤمن فحدثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي (أي بدءوا بذكر الأشجار التي في الصحراء).
قال عبد الله ووقع في نفسي أنها النخلة ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان فكرهت أن أتكلم أو أقول شيئًا فقال عمر (لما عرف فيما بعد أن ابنه قد عرف الشجرة ولم يتكلم أدبًا): (لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا).
فانظر إلى أدب ابن عمر رضي الله عنه وهو صغير مع أبيه ومع كبار الصحابة رضوان الله عليهم.
2- الانشغال بالتوافه واللهو:
ليس معيبًا أن يلهو الأطفال أو المراهقون فهذا حقهم الطبيعي، لكن أن يكون هذا معظم همهم وألا يجهد آباؤهم وأمهاتهم بربطهم ببعض المهام والأهداف النافعة فهنا تكمن المشكلة.
بل إن بعض الآباء والأمهات هو من يشغل ابنه بمثل هذه التوافه حتى يصل إلى سن متقدمة، ويفعل بعض الآباء والأمهات ذلك تهربا من الانشغال بأولادهم، ونسوا أن هذه هي أعظم مهامهم في الحياة.
3- غياب القيم والمبادئ عند الصغار والمراهقين:
وذلك أنهم لم يتلقوا ولم يتربوا عليها فترى الأب والأم يلاحظون على ابنهم الكذب ثم لا يؤنبه ويجدونه يخلف المواعيد والوعود ولا يردعوه بجد، بل قد يكذب الأب أو تكذب الأم أو يدخن الأب أمام أبنائه فيا ترى ما هي القدوة التي ستزرع فيهم.
4 - ضعف معنى العزة عند المراهقين
من واجب الآباء والأمهات أن يزرعوا معاني القوة والعزة في نفوس أبنائهم ويربوهم على ذلك، ويبنوا فيهم شخصية قوية وشجاعة بحيث لا يتأثروا بالأفعال السيئة ممن حولهم.
لكن ما نشاهده من كثير من الشباب والمراهقين هو جرأة على المعصية وخور وضعف في موطن الشجاعة والفتوة.
ولعل ظاهرة المتشبهين بالجنس الآخر ليست بغائبة عن مجتمعنا وهم ما يسمون بالجنس الثالث والرابع، بل أصبحت لهم تجمعات وما يشبه الرابطات والعياذ بالله.
حتى قيل: قد جاء يختال مزهوا بمشيته! قومي اسأليه أأنثى أنت أم ذكر؟!
أسباب التخلف التربوي:
لا شك بأن العملية التربوية عملية أصبحت معقدة في زمان العولمة وانفتاح الثقافات والعلوم وتشابك الأدوار، لكننا رصدنا أهم الأسباب التي ساهمت في تخلف التربية في مجتمعنا حسب رؤيتنا، ومن هذه الأسباب:
1-انشغال الآباء والأمهات وتخليهم عن دورهم التربوي: وهذه حقيقة واقعة ومؤسفة فالكثير من الآباء والأمهات لا يجلسون مع أولادهم ربما إلا مرة كل أيام عدة، وحتى في هذه الجلسات السريعة لا يحاولون غرس أي قيمة أو مبدأ في نفوس أبنائهم، ولعل تعقيدات الحياة وصعوبة تأمين الحياة الكريمة شغلت الناس أكثر من ذي قبل لكن هذا أبدا لا يعفيهم من التخلي عن مسؤولياتهم.
ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة وخلّفاه ذليلا
إن اليتيم هو الذي تلقى له أما تخلت أو أبا مشغولا
2-غياب القدوة في البيت: بعض الآباء والأمهات ينهون ابنهم عن التدخين وابنهم ينظر إلى علبة السجائر في جيب والده! فكيف لهذا الابن أن يقلع عن التدخين؟
حينما يسمع ويرى الابن والطفل أباه أو أمه يكذبان ويسبان الناس فهل نرجو من هذا الابن أن يكون صادقًا أو أن يكون مؤدبًا في كلامه؟
وانظر إلى أحد الأمراء حينما قال للمؤدب الذي يؤدب أولاده: (ليكن أول ما تبدأ به من صلاح بنيّ إصلاح نفسك فإن أعينهم معقودة بعينك فالحسن عندهم ما استحسنت والقبيح عندهم ما استقبحت).
3 -الإعلام: سواء الفضائيات أو الانترنت أو حتى ألعاب الفيديو والتي تحمل في طياتها معاني العنف والعلاقات المحرمة وكذلك أفلام العنف وأفلام الفكاهة وغيرها والتي تنشر التحلل الخلقي.
وقد أثبتت دراسة حديثة أن الطفل يقضي سنويا 1023 ساعة أمام التلفاز!
وهذا الوقت كافي لتدمير أخلاقه إذا لم تكن هناك متابعة لما يشاهده ويتلقّنه.
4 -انتشار الطلاق: والذي أخذ يتزايد سنة بعد سنة، ولسنا الآن في معرض الحديث عن أسباب انتشاره لكنه بلا شك أحد أسباب التخلف التربوي الذي نعيشه فحينما يبعد أحد الأبوين عن الأطفال ويكون الثاني مشتتا تصعب لديه السيطرة على تربيتهم.
وفي إحصائية لعام 2005 تقول بأن نسبة الطلاق من عدد الزيجات في المملكة العربية السعودية إلى 46% كما هي في دولة الإمارات، في حين أنها في قطر 38% بينما النسبة حتى الآن في عام 2007 في الكويت زادت عن 50% وهذه نسب مرتفعة جدًا.
5 -بعد العلماء عن دورهم:
إن كثيراً من اللوم يقع على عاتق علماء الأمة، ولا يؤاخذني بالنقد من لا يلامس الحقيقة بيديه، نعم علماؤنا اشتغلوا بأنفسهم وخاصة أمرهم، وابتعدوا عن عامة الناس الذين هم أساس المجتمع وقاعدته الرئيسية.
لماذا ينحصر دور العلماء في الاهتمام بفئة خاصة وضيقة من الشباب من رواد المساجد والمحافظين على الصلاة؟!
ولماذا لا ينطلقون إلى المجتمع وينزلون إلى عموم الشباب يوجهون ويرشدون وينصحون ويلقون المحاضرات شرقًا وغربًا وينقدون وينفتحون على مستحدثات الأمور!؟
لماذا لا ينظرون إلى حاجة المجتمع إلى تبسيط العلوم وتقريبها إلى الناس بدلًا من الانكباب على الكتب القديمة وحصرها بالخاصة من الناس؟
لماذا لا تستفيد منهم الأمة ومن علمهم ومن خبراتهم الطويلة في الحياة!؟
وأحب هنا أن أقدم التحية لإخواني الدعاة والعلماء الذين هم استثناء من هذه القاعدة فخالطوا الشباب بل ألقى بعضهم المحاضرات في الأسواق العامة، فهذا النموذج الذي نبحث عنه.
6 - انتشار ظاهرة الخدم: فكثير من الآباء والأمهات يوكل أمر تربية أبنائهم لهؤلاء الخدم والذين ندعو إلى حسن معاملتهم لكنهم في أغلب الأحوال ليسوا أهلا ولا مؤهلين ليقوموا بهذه العملية الجليلة وإن كان ثمة حاجة لوجودهم بل يقتصر عملهم على الخدمات في المنزل ولنتجنب إشراكهم في عملية التربية التي هي واجب الأبوين.
7 -ضعف دور المدرسين والمعلمين: إحدى الدراسات الحديثة تقول إن الطفل يقضي 900 ساعة سنويا في المدرسة وهو وقت طويل وكبير جدًا يستدعي أن يراعى فيه الجانب التربوي كما يراعى فيه الجانب العلمي لكن ما يحصل أن المعلمين أصبحوا مجرد ملقنين لا غير.
8 -ضعف الرادع وغياب العقوبة: كثير من الآباء والأمهات يتركون أولادهم حرية التصرف ويرونه ويسمعونه يرتكب المعاصي والرذائل ويخترق القيم والمبادئ ثم تكون ردة فعلهم ضعيفة أو معدومة وقديما قالوا (من أمن العقوبة أساء الأدب)، والبعض يفعل هذا بحجة أنه صغير وسيكبر ويعقل، ويا لها من حجة واهية فالتربية إنما تكون في الصغر وليس الكبر.
9 -ضعف اللغة العربية: فهي الرابط الذي يربط حاضرنا بماضينا ويجعلنا نرتبط بالقيم الإسلامية والعربية الأصيلة من خلال قراءة وسماع المواقف التربوية للنبي صلى الله عليه وسلم، ودروس التاريخ والأدب والحكمة،
كما أن تعلمها والغوص فيها يغرس معاني الرجولة والقوة عند الأطفال ويؤسس لهم هويتهم فاللغة وعاء الهوية.
10- الانتقال من السلطة إلى التسلط: هناك من الآباء والأمهات من لا يستخدم سلطته على أنها مسؤولية؛ بل يستخدمها ليتسلط على أبنائه ويقوم بدور المرعب والسجان، بدل من أن يسمع لهم ويشاركهم فيتعلمون منهم الحكمة والأدب وفن اتخاذ القرار.
لعل هذه بعض أبرز أسباب التخلف التربوي والتي ما ذكرناها احصيناها إلا لنضع يدنا على الجرح ثم نلتمس الدواء بعد ذلك وفي الحلقات القادمة سنواصل بإذن الله تعالى تشخيص بعض مشاكل الأمة قبل الشروع في اقتراح الحلول لها وتسعدني متابعتكم.
المصدر: موقع د. طارق السويدان