الانضباط الذاتي
د. عبد الكريم بكار
تقدُّم أمة الإسلام، واحتلالها المكانة التي تليق بها بين الأمم مرتهن بحصول تقدُّم على صعيد الحياة الشخصية لشريحة واسعة من أبنائها، وبناتها. وهذا التقدم ملموس اليوم لكنه بطيء للغاية، وضيق النطاق، والسبب في هذا ربما كان كامناً في عدم امتلاكنا تقاليد ثقافية تمجد العمل الشاق، وتُعلي من شأن الإنجاز وتأجيل الرغبات. والمشكل أن كثيرين منا غرقوا في حياة، يُقضى الكثير من متطلباتها عن طريق لمس الأزرار، مما جعلهم يعتقدون بضرورة الحصول على الأشياء بطرق سهلة وعاجلة.
إن هذه الفئة من الناس، تتعامل مع الشدائد والضغوط بوضعية يسودها الكثير من الكسل والفوضى واللامبالاة، ويتعاملون مع الوفرة والرخاء والجدة بالاستمتاع والإسراف والتبذير؛ وما تتم التضحية به في كلتا الحالتين هو صلابة الشخصية والانضباط الذاتي.
حين نتحدث عن مسألة الانضباط الذاتي؛ فإن قسماً من الناس يعتقدون أننا نتحدث عن شيء يتصل بمعاقبة الذات أو تقييدها أو تجاهل حقوقها. وبعضهم ينظر إلى الانضباط الذاتي على أنه نوع من الحرفية أو الجمود والتكلس أو النقص في المرونة. وهذا كله غير دقيق، ولا يعبر عن جوهر هذا المصطلح. إذن ما الذي نريده منه، وما أهمية اكتساب هذا المعنى في حياتنا الشخصية؟
لعلِّي في الإجابة على هذا التساؤل أجلو الملامح الآتية:
1 - إن التدين الحق يرسم صورة زاهية وبليغة للانضباط الذاتي، إنه يجعل المسلم يقوم بالكثير من الأشياء، ويكف أيضاً عن كثير من الأمور في المنشط والمكره والرخاء، وتطبيق السُّنة في حياة المسلم يعني يقظة الوعي نحو التفاصيل، والقدرة على السيطرة على الأهواء والرغبات. لكن مشكلة كثير من الملتزمين أنهم لم يستطيعوا تعميم هذا المعنى على حركتهم اليومية؛ حيث إنهم كثيراً ما يجدون أنفسهم بعيدين عن الإنجاز العالمي وعن المثابرة على أداء العمل الشاق، وهذا أدى بالطبع إلى انخفاض إنتاجية الإنسان المسلم على نحو مخيف، إن الناتج القومي لليابان يشكّل أربعة أضعاف ناتج العالم الإسلامي برمته؛ وإذا عرفنا أن عدد المسلمين يساوي عشرة أمثال سكان اليابان ظهر لنا أن متوسط إنتاج الفرد الياباني يساوي إنتاج أربعين من المسلمين؛ أليس هذا من الأمور المحزنة؟
2 - يعني الانضباط الذاتي فيما يعنيه تنظيم الذات؛ حيث وضوح الأهداف واستمرار البرامج وتأجيل الرغبات. إن الشخص المنضبط يتحمل بعض الآلام، إنه يعمل وينتج ويقاوم المشتهيات؛ إذ يستسلم غيره للنزوة ويدمن الاسترخاء. وقد تبين أن حفز الذات على العمل يظل بعيد المنال ما لم يكن للإنسان أهداف مرحلية واضحة، لو تأملت في حياة كثيرين منا لوجدت أنهم يعانون من الفَوْضى الشخصية والنقص في التركيز؛ وهذان الأمران هما العدوان اللدودان للانضباط الشخصي. جرب واسأل عينة ممن حولك عما يحاولون إنجازه خلال عام، وما الخطوات التي يتبعونها في سبيل بلوغ ذلك؟ سل من حولك عن الأشياء التي يعدها أولوية في حياته خلال العام الحالي؟ ولماذا هي أولوية؟ وكيف يعبر سلوكياً عن نظرته إليها؟ إن معظم الناس لن يجدوا شيئاً يقولونه، أو أنهم سيحدثونك عن أشياء لا معنى لها.
3 - المنضبط ذاتياً يشعر أنه يدرِّب نفسه شيئاً فشيئاً على إنجاز الأمور. وهو إلى جانب ذلك يطور خطته للإنجاز، ويتابع تنفيذ العهود التي قطعها على نفسه. إنه يعرف أن تحرير الإرادة يشكل أكبر علامات النصر على طريق طويل، وفي معركة حاسمة، ويدرك أن تحرير الإرادة يكون شيئاً مجوفاً وفارغ المضمون إذا لم يجد المرء نفسه قادراً على أداء الأعمال المهمة وإن كان يفقد الرغبة للقيام بها. وقد سألت غير واحد ممن يشتغل بالبحث العلمي عن جوهر ما يقوم به، وكان الجواب هو حب التسلي وشغل الوقت بشيء قد يكون مفيداً.
وهذا الفريق من الناس ليس ضئيلاً؛ فهو يشكل شريحة واسعة بين أولئك الذين لا يؤمنون بأهمية ما يقومون به، كما لا يعرفون بالضبط الجهة التي ستستفيد من مجهوداتهم.
4 - حين نشعر بالمسؤولية الشرعية والأخلاقية والأدبية عن أعمارنا وعن الإمكانات التي أتاحها الله ـ جل وعلا ـ لنا، فإننا سنضبط إيقاع حركتنا، وسنتعلم الاقتصاد في الجهد وفِقْه الخطوة المناسبة، وسنحاول باستمرار اكتساب العادات الجيدة. وهل السلوك الحسن سوى عدد جيد من العادات الحسنة؟ وسوف نقوم بتكرار الأعمال المثمرة والصغيرة؛ لأن ذلك يعبر عن بعض وجوه الاستقامة، كما يدل على تحلينا بفضيلة الإصرار على التقدم.
مفتاح خلاص الأمة مما هي فيه شيء كامن في عقولنا ونفوسنا، حيث تدور أشرس المعارك وأنبلها، والبحث عنه في أي مكان آخر سيكون من هدر الوقت. فهل اتضحت معالم الميدان؟ وهل آن أوان التحرير؟ هذا ما أرجوه.
المصدر: مجلة البيان (العدد: 215).