إضاءات تربوية من القرآن الكريم والسنة النبوية
طرح الأسئلة وتوجيها
محمد عزت مصطفى
من مهارات الدرس الجيد والخطبة الممتازة أن تتنوع فيها الأسئلة، وتجود صياغتها بحيث تستثير الذهن، وتنمي الفكر، وتقيم الحجة وتلفت النظر، والمعلم البارع والداعية الفذ هو من يمتلك هذه المهارة بل يجيدها، وعلى قدر جودة صياغة الأسئلة تكون الفائدة منها، ويشترط لجودة صياغة الأسئلة:
♦ أن تثير مستويات التفكير العليا.
♦ أن يكون مختصرًا معبرًا عن الهدف منه.
♦ أن يكون واضحًا سليمًا في صياغته.
♦ أن يكون السؤال ذا هدف: إيصال فكرة أو إثارتها لدى المستمع أو معلومة أو إثبات قاعدة أو نظرية أو نحو ذلك.
♦ أن يقدم السؤال جديدًا للمستمع أو المتعلم، فتكراره بما لا يفيد من فضلة الكلام، يصيب بالملل وليس من بلاغة الكلام ولا فصاحته.
♦ أن يقدم السؤال في الوقت المناسب له؛ سواءً لإثارة الانتباه والتفكير في البداية أو لإظهار الحجة أو إيصال الفكرة أثناء الحوار أو الدرس أو للتأكيد على معلومة أو الفكرة في نهايته.
وإن من أجمل المشاهد التي تبدو فيها مهارة صياغة الأسئلة وطرحها واضحة جلية في القرآن الكريم والسنة النبوية، ما نراه في الموضعين التاليين:
أولًا: حوار موسى عليه السلام وأخوه هارون مع فرعون:
قال الله - تعالى-: ﴿قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى * قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى﴾ [طه: 49- 52]، وإنك لتلاحظ في الآية وتفسيرها جملة من الأسئلة الرائعة في صياغتها، والجيدة في مدلولها، ولنا معها وقفات ألخصها فيما يلي:
♦ ينبغي أن يكون السؤال - عند طرحه - للجميع، فذلك أدعى لإثارة الذهن ولفت الانتباه، وفرعون يوجه السؤال للحاضرين: هارون وموسى، حيث قال فمن ربكما بألف الاثنين، إشارة إليهما.
♦ لا مانع أن تخص بعد ذلك توجيه السؤال إلى من ترغب في تحديده، وفرعون يخص موسى بالسؤال لكونه صاحب الرسالة، ولكونه يغني عن أخيه الرسول.
♦ كلما كان السؤال مختصرًا معبرًا جامعًا كان أجود وأكثر تركيزًا، قال فرعون: -: ﴿قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى﴾ [طه: 49] والسؤال يحمل معاني التعجب والإنكار ويحمل بين حروفه معاني التهكم والاستهزاء، ومن ثم جاء جوابه على نحو من البلاغة وقوة الحجة ما يفوق سؤال فرعون: ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ﴾ [طه: 50]؛ ذكر القرطبي في "تفسيره": « قال موسى: ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه أي أنه يعرف بصفاته، وليس له اسم علم حتى يقال فلان بل هو خالق العالم، والذي خص كل مخلوق بهيئة وصورة، ولو كان الخطاب معهما لقالا: قالا ربنا..... »[1].
♦ كلما كان هدف السؤال إبداعيًا متميزًا يثير الانتباه ويبعث على التفكير، أصاب الهدف وجاء الجواب على قدره، سأل فرعونُ موسى رغبة منه أن يسكته ويفحمه، قال: ﴿قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَىٰ﴾ [طه: 51] ظنًا منه أن موسى سيحار بحثًا عن إجابة له، فجاء الجواب أبلغ من سؤاله: ﴿قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى﴾ [طه: 52] ذكر القرطبي في "تفسيره": قوله تعالى: ﴿ قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأولى ﴾: قال ﴿ فَمَا بَالُ ﴾ البال: الحال؛ أي وما حالها وما شأنها، فأعلمه أن علمها عند الله -تعالى- أي إن هذا من علم الغيب الذي سألت عنه، وهو مما استأثر الله تعالى به لا يعلمه إلا هو، وما أنا إلا عبد مثلك لا أعلم إلا ما أخبرني به علام الغيوب... [2].
وثمة إضاءة أخرى من السنة النبوية: تتمثل فيما رُوِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ»"[3].
في بداية الحديث الشريف: طرح النبي -صلى الله عليه وسلم- على أصحابه - رضوان الله عليهم - سؤالًا، يثير به انتباههم ويشوقهم إلى ما سيلقيه عليهم من موعظة، فقال: (أتدرون من المفلس؟) وهو يعلم إجابتهم مسبقًا، ولكنه -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يثير انتباههم إلى مشهد صعب من مشاهد يوم القيامة، حيث يأتي الرجل حاملًا صلاته، وصيامه، وزكاته، ظنًّا منه أنها وحدها تدخله الجنة، وتبعده عن النار، فإذا بها كلها توزع على من أساء إليهم، وألحق الأذى بهم، بل إنها إن لم تكفهم لقضاء حقوقهم منه أخذ من سيئاتهم وطرحت عليه، فألقــــــي به في النار! [4] تلاحظ جودة السؤال الذي طرحه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من عدة وجوه:
♦ فهو قد طرح السؤال قبل أن يعين المسؤول ليتشارك الجميع في التفكير وليكون أدعى إلى إثارة الانتباه.
♦ لم يحقر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجوبة الصحابة ولم يسفه شيئًا منها، فلم يقل مثلًا: خطأ أو لا.... أو أي استجابة من شأنها تقلل من شأن ما قالوا، بل عمد إلى تصحيح المفهوم وتقديم الجواب....
♦ التشاركية في الإجابة، قالوا: المفلس فينا.... ولم يقل راوي الحديث مثلًا: فقال أحدهم....
♦ السؤال مختصر، وبصياغة رائعة، فاستخدام كلمة المفلس - وهي جديدة على أسماع الصحابة – من حيث دلالتها، أثار اهتمام المتلقين وانتباههم فراحوا يجتهدون ويجيبون وفق معرفتهم....
وفي القرآن الكريم وأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العديد منها مما تجود فيه الأسئلة، والتي تأتي على أروع ما تكون من حسن الصياغة وجميل البيان، نكتفي بهذا القدر منها في هذا المقال، وصلِّ اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
[1] تفسير القرطبي - 314.
[2] تفسير القرطبي - 315.
[3] صحيح مسلم: 4806
[4] من البلاغة النبوية: المفلس يوم القيامة - د: حسن إسماعيل عبد الرازق.
المصدر: موقع الألوكة