الأشهر الحرم بين الممنوع والمرغوب

الأشهر الحرم كانت معظمة في شريعة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، واستمر تعظيمها في ذريتهما من بعدهما، فكان العرب يعظمونها ويحرمون القتال فيها، فلما جاء الإسلام أقر تعظيمها وتحريم القتال فيها، فقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217].
قال ابن عاشور: وتحريم هذه الأشهر الأربعة مما شرعه الله لإبراهيم عليه السلام لمصلحة الناس، وإقامة الحج، كما قال تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ والشَّهْرَ الحَرَامَ} [المائدة: 97] (1).
عن ابن مسعود: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية، وكانوا سبعة نفر، عليهم عبد الله بن جحش الأسدي، وفيهم عمار بن ياسر، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وسعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان السلمي -حليف لبني نوفل -وسهيل بن بيضاء، وعامر بن فهيرة، وواقد بن عبد الله اليربوعي، حليف لعمر بن الخطاب.
وكتب لابن جحش كتابًا، وأمره ألا يقرأه حتى ينزل بطن ملل، فلما نزل بطن ملل فتح الكتاب، فإذا فيه: أن سر حتى تنزل بطن نخلة، فقال لأصحابه: من كان يريد الموت فليمض وليوص، فإنني موص وماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فسار، فتخلف عنه سعد بن أبي وقاص، وعتبة، وأضلا راحلة لهما فأتيا بحران يطلبانها، وسار ابن جحش إلى بطن نخلة، فإذا هو بالحكم بن كيسان، والمغيرة بن عثمان، وعمرو بن الحضرمي، وعبد الله بن المغيرة، وانفلت ابن المغيرة، فأسروا الحكم بن كيسان والمغيرة، وقتل عمرو، قتله واقد بن عبد الله. فكانت أول غنيمة غنمها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
فلما رجعوا إلى المدينة بالأسيرين وما أصابوا المال، أراد أهل مكة أن يفادوا الأسيرين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «حتى ننظر ما فعل صاحبانا» فلما رجع سعد وصاحبه، فادى بالأسيرين، ففجر عليه المشركون وقالوا: إن محمدًا يزعم أنه يتبع طاعة الله، وهو أول من استحل الشهر الحرام، وقتل صاحبنا في رجب.
فقال المسلمون: إنما قتلناه في جمادى -وقيل: في أول رجب، وآخر ليلة من جمادى -وغمد المسلمون سيوفهم حين دخل شهر رجب، فأنزل الله يعير أهل مكة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} لا يحل، وما صنعتم أنتم يا معشر المشركين أكبر من القتل في الشهر الحرام، حين كفرتم بالله، وصددتم عنه محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وإخراج أهل المسجد الحرام منه، حين أخرجوا محمدًا صلى الله عليه وسلم أكبر من القتل عند الله (2).
وعن ابن عباس: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} وذلك أن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وردوه عن المسجد الحرام في شهر حرام، ففتح الله على نبيه في شهر حرام من العام المقبل، فعاب المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم القتال في شهر حرام.
وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم بعث سرية فلقوا عمرو بن الحضرمي، وهو مقبل من الطائف في آخر ليلة من جمادى، وأول ليلة من رجب.
وأن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يظنون أن تلك الليلة من جمادى، وكانت أول رجب ولم يشعروا، فقتله رجل منهم وأخذوا ما كان معه، وأن المشركين أرسلوا يعيرونه بذلك، فقال الله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} وغير ذلك أكبر منه: صد عن سبيل الله، وكفر به والمسجد الحرام، وإخراج أهله منه، إخراج أهل المسجد الحرام أكبر من الذي أصاب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، والشرك أشد منه (3).
قوله تعالى: {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} أي: إن أي قتال فيه وإن كان صغيرًا في نفسه أمر كبير مستنكر وقوعه فيه لعظم حرمته، وقال بعضهم: معناه ذنب كبير، وهذا تقرير لحرمة القتال في الشهر الحرام، قال ابن جريج: حلف لي عطاء بالله أنه لا يحل للناس الغزو في الحرم ولا في الأشهر الحرم إلا على سبيل الدفع، وإن هذا حكم باق إلى يوم القيامة (4).
لماذا سُميت الأشهر الحرم بهذا الاسم؟
سُميت الأشهر الحرم بهذا الاسم لعدة أسباب تتعلق بمكانتها وحرمتها في الإسلام:
1- تحريم القتال فيها: جاء في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36]، أن القتال في هذه الأشهر محرم، وهو حكم ثابت منذ الجاهلية وأقره الإسلام.
2- تعظيمها الخاص: حرمتها تجعلها مميزة عن باقي الشهور، إذ تتضاعف فيها الحسنات كما تتعاظم السيئات.
3- دعوة للسلام والتفرغ للعبادة: في هذه الأشهر، يُشجع المسلمون على إصلاح علاقاتهم وتكثيف العبادة، بعيدًا عن الصراعات والعداوات.
وقال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36].
عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض؛ السنة اثنا عشر شهرًا منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» (5)، وهذا يدل على استمرار تحريمها إلى آخر وقت كما هو مذهب طائفة من السلف.
هذا الحديث قاله صلى الله عليه وسلم في خطبته العظيمة يوم النحر، في حجة الوداع، وفي هذا الحديث بيان وجوب الاجتماع على الحق، والاعتصام بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعظم حرمة دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، ووجوب سلوك طريقه صلى الله عليه وسلم، وبيان أن الله تعالى أتم عليهم نعمته بنبيه، وأخذهم بما جاء به.
وحذرهم من ترك هذا الهدى والرجوع إلى الضلال وكفر النعمة والفرقة الداعية إلى التصارم والقتال، فإن ذلك من الكفر.
وبين أن الزمان قد عاد كما خلقه الله، بعد تبديل المشركين الشهور المحرمة بالتقديم والتأخير حسب أهوائهم، حتى يستحلوا القتال في الأشهر الحرم.
وفيه بيان تأكد حرمة الأشهر الحرم التي حرمها الله يوم خلق السماوات والأرض، وحرمة مكة، وأن هذا التحريم مستمر إلى يوم القيامة لا يستحله إلا من جانب طريق الرسل، وأحل شعائر الله والشهر الحرم والبلد الحرام، وذلك من العظائم.
قوله: «الزمان قد استدار، كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض»، كان المشركون لا يستحلون القتال في الأشهر الحرم، ولما كان منها ثلاثة متواليات، طالت عليهم، فتحيلوا على تأخير المحرم وتقديم صفر مكانه، فيحلون المحرم عامًا ويحرمون صفر بدله ويحرمونه عاماً، فيجعلون المحرم هو صفر في هذا العام مثلًا، وفي العام الآخر يبقون المحرم وصفر على ما هما عليه، يفعلون ذلك تحيلًا على استحلال القتال، كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 37].
فيستحلون القتال في الشهر الحرام، ويسمونه بغير اسمه، ويحرمون في الشهر الحلال ويسمونه محرمًا؛ ليتفق ذلك مع عدة ما حرم الله تعالى من الأشهر؛ لأن توالى ثلاثة شهور محرمة يطول عليهم، ففعلوا ذلك لأجل قتال أعدائهم، ولغير ذلك من أغراضهم.
وفي السَّنة التي حج فيها النبي صلى الله عليه وسلم اتفق أن الأشهر الثلاثة كلها محرمة، لأنها السَّنة التي كانوا يحرمون القتال في محرم على ما هو عليه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض» أي: رجع تحريم الأشهر الحرم في حساب المشركين وعملهم متفقًا مع حكم الله وشرعه، فقد جعل الله السَّنة اثني عشر شهرًا، منها أربعة حرم، يحرم القتال فيها، والظلم فيها أعظم منه في غيرها.
قال علي بن أبي طلحة: عن ابن عباس، كان جنادة بن عوف بن أمية الكناني، يوافي الموسم في كل عام، وكان يُكْنَى أبا ثمامة، فينادي: ألا إن أبا ثمامة لا يجاب ولا يعاب، ألا إن محرم العام الأول هذا العام حلال، فيحله الناس، فيحرم صفر عامًا ويحرم المحرم عامًا (6).
قال الخطابي: كانوا يخالفون بين أشهر السنة بالتحليل والتحريم والتقديم والتأخير؛ لأسباب تعرض لهم.
منها: استعجال الحرب، فيستحلون الشهر الحرام، ثم يحرمون بدله شهرًا غيره، فتتحول بذلك السنة وتتبدل، فإذا أتى عدة من السنين استدار الزمان، وعاد الأمر إلى أصله، فاتفق وقوع حجة النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك (7).
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» وإنما قيده هذا التقييد مبالغة في إيضاحه وإزالة للبس عنه، قالوا: وقد كان بين بني مضر وبين ربيعة اختلاف في رجب، فكانت مضر تجعل رجبًا هذا الشهر المعروف الآن، وهو الذي بين جمادى وشعبان، وكانت ربيعة تجعله رمضان، فلهذا أضافه النبي صلى الله عليه وسلم إلى مضر، وقيل: لأنهم كانوا يعظمونه أكثر من غيرهم، وقيل: إن العرب كانت تسمي رجبًا وشعبان الرجبين، وقيل: كانت تسمي جمادى ورجبًا جمادين وتسمي شعبان رجبًا (8).
وبقيت الأشهر الحرم معظمة في الإسلام، فينبغي للمسلم أن يتقرب فيها إلى الله تعالى بما استطاع من صيام النوافل وأعمال الخير، وأن يبتعد عما حرم الله تعالى كما قال تعالى: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36]، وإن كان هذا منهيًا عنه في غيرها، ولكن فيها آكد لشدة حرمتها وعظمها.
قال قتادة: إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرًا، من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيمًا، ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء.
قال: إن الله اصطفى صفايا من خلقه، اصطفى من الملائكة رسلًا ومن الناس رسلًا، واصطفى من الكلام ذكره، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر، فعظموا ما عظم الله، فإنما تعظم الأمور بما عظمها الله به عند أهل الفهم وأهل العقل (9).
وقال محمد بن إسحاق: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} أي: لا تجعلوا حرامها حلالًا ولا حلالها حرامًا، كما فعل أهل الشرك، فإنما النسيء الذي كانوا يصنعون من ذلك، زيادة في الكفر {يُضَلُ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية [التوبة: 37]، وهذا القول اختيار ابن جرير (10).
قال الماوردي: {فَلَا تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} فيه أربعة أوجه: أحدها: فلا تظلموها بمعاصي الله تعالى في الشهور الاثني عشر كلها، قاله ابن عباس، والثاني: فلا تظلموها بمعاصي الله في الأربعة الأشهر، قاله قتادة، والثالث: فلا تظلموا أنفسكم في الأربعة الأشهر الحرم بإحلالها بعد تحريم الله تعالى لها، قاله الحسن وابن إسحاق، والرابع: فلا تظلموا فيها أنفسكم أي تتركوا فيها قتال عدوكم (11).
أما النهي عن القتال فيها فذهب جمهور أهل العلم إلى أنه منسوخ بقول الله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36].
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى تغليظ الدية إذا وقع القتل في الأشهر الحرم، ولذلك فتعظيم هذه الأشهر باق وإنما نسخ النهي عن القتال فيها.
يقول الحق جل وعلا في محكم كتابه: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36].
وفي الآية بيان مكانة الأشهر الحرم، وحرمتها، وعلى اختصاصها بمضاعفة الثواب والعقاب، كما ذهب إلى ذلك جمع من أهل العلم.
قال الإمام القرطبي رحمه الله: كما يضاعف الثواب بالعمل الصالح، فإن من أطاع الله في الشهر الحرام في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام، إلى أن قال: وقد أشار الله إلى هذا بقوله: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [الأحزاب: 30] (12).
وقال الامام ابن كثير: كما أن المعاصي في البلد الحرام تضاعف، فكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الآثام.
واختلف المفسرون رحمهم الله في المراد بالظلم المنهي عنه هنا، وهل هو عام في سائر الشهور، أم خاص في الحُرم منها فقط؟ على قولين.
قال الامام ابن العربي: قوله تعالى: {فَلَا تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} فيه قولان: أحدهما: لا تظلموا أنفسكم في الشهور كلها، وقيل: المراد بذلك الأشهر الحرم.
واختار البغوي رحمه الله، أن ذلك ينصرف إلى جميع شهور السنة، ونقل ذلك عن ابن عباس (13).
ورجح الحافظ ابن كثير رحمه الله ان هذا النهي خاص بالأشهر الحرم ثم علل قوله هذا بقوله: لأنه –أي الظلم- آكد وأبلغ في الإثم من غيرها14).
ولعل هذا القول هو الأقرب للصواب، لأن الأشهر الحرم أقرب مذكور يمكن حمل الضمير عليه، كما هو مقرر عند أهل اللغة.
واختلف في المراد بالظلم المنهي عنه فيها، فقيل: سائر المعاصي والسيئات، وقيل: هو استحلال الحرام فيهن وتحريم الحلال.
ولعل الأقرب أن عموم الظلم هو المراد، اذ ان تخصيصه بنوع دون آخر، يفتقر الى دليل، ولأنه لا دليل لمدع التخصيص، فيكون حمله على العموم هو الأولى، فكل ما عصي الله به يتأكد تحريمه في هذه الأيام المباركة، وأعظم الظلم ما كان ذنبه أشد، ووزره أكبر، كالشرك بالله وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، ثم ما يليهما حتى أدنى المعاصي.
وأما القتال فيها فاتفق عامة أهلم العلم على جواز دفع العدو وقتاله إذا قاتلنا في الشهر الحرام، واختلفوا رحمهم الله في تحريم الابتداء به.
قال الامام ابن مفلح رحمه الله في الفروع: ويجوز القتال في الشهر الحرام دفعًا، إجماعًا (15).
واختار الإمام القرطبي رحمه الله وجماعة من أهل العلم أن النهي عن قتال المشركين والكفار فيها منسوخ بقوله تعالى: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَـٰتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36].
فيجوز ابتداء قتالهم في الأشهر الحرم كما في سائر الشهور استنادًا إلى هذه الآية.
قال الطبري: لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه غزَا هوازن بحُنين وثقيفًا بالطائف، وأرسل أبا عامر إلى أوْطاس لحرب من بها من المشركين، في الأشهر الحرُم، وذلك في شوال وبعض ذي القعدة، وهو من الأشهر الحرم، فكان معلومًا بذلك أنه لو كان القتالُ فيهن حرامًا وفيه معصية، كان أبعد الناس من فعله صلى الله عليه وسلم (16).
وذهب آخرون من أهل العلم إلى عدم النسخ وأن ابتداء القتال فيها حرام ولا يجوز، لقوله تعالى: {لَا تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ وَلًا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} [المائدة: 2]، ولقوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَـاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194].
وهذا ما اختاره الإمام الشوكاني رحمه الله، ورجحه، وأجاب على من ذهب الى النسخ بقوله: الأمر بقتل المشركين ومقاتلتهم مقيد بانسلاخ الأشهر الحرم، كما في الآية المذكورة، فتكون سائر الآيات المتضمنة للأمر بالقتال مقيدة بما ورد في تحريم القتال في الأشهر الحرم، كما هي مقيدة بتحريم القتال في الحرم للأدلة الواردة في تحريم القتال فيه، وأما ما استدلوا به من أنه صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف في شهر حرام وهو ذو القعدة كما ثبت في الصحيحين وغيرهما، فقد أجيب عنه أنه لم يبتدأ محاصرتهم في ذي القعدة بل في شوال، والمحرم إنما هو ابتداء القتال في الأشهر الحرم لا إتمامه وبهذا يحصل الجمع، انتهى كلامه، ولعل ما ذهب إليه رحمه الله هو الراجح، وهو اختيار الشيخين: ابن باز، وابن عثيمين رحمهما الله (17).
وما ورد في الندب من صيام الأشهر الحرم من الأحاديث، فضعيف أو مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ذهب جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية، وبعض الحنابلة إلى استحباب صيام الأشهر الحرم، واستدلوا لذلك ببعض الأحاديث الواردة، منها قوله صلى الله عليه وسلم -حين سئل عن سبب صومه شهر شعبان-: «ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان» (18)، وهو صحيح.
قالوا: دل هذا الحديث على أن شهري رجب ورمضان شهرا عبادة وطاعة لا يغفل الناس عنها، ولأن العمل الصالح يضاعف فيها، فيشرع الصيام لتحصيل الثواب المضاعف.
قال النووي رحمه الله في المجموع: قال أصحابنا: ومن الصوم المستحب صوم الأشهر الحرم، وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، وأفضلها المحرم (19).
وقال الحافظ ابن رجب في لطائفه رحمه الله: وقد كان بعض السلف يصوم الأشهر الحرم كلّها، منهم ابن عمر، والحسن البصري، وأبو إسحاق السبيعي، وقال الثوري: الأشهر الحرم أحبُّ إليَّ أن أصوم فيها (20).
والأولى لمن أراد صيامها ان لا يتم شهرًا منها، لأن ذلك إنما يكون في شهر رمضان، ولحديث عائشة كما في الصحيحين: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر قط أكثر صيامًا منه في شعبان» (21).
والذي يظهر أن سائر الطاعات تدخل مع الصيام في الفضل، إذا تقرب العبد بها الى ربه في هذه الاشهر المباركة.
ما ينبغي على المسلم خلال الأشهر الحرم عمله من الطاعات:
- الإكثار من العمل الصالح، والاجتهاد في الطاعات، والمبادرة إليها والمواظبة عليها ليكون ذلك داعيًا لفعل الطاعات في باقي الشهور.
- أن يغتنمَ المؤمنُ العبادةَ في هذه الأشهر التي فيها العديد من العبادات الموسمية كالحج، وصيام يوم عرفة، وصيام يوم عاشوراء.
- أن يترك الظلم في هذه الأشهر لعظم منزلتها عند الله، وخاصة ظلم الإنسان لنفسه بحرمانها من نفحات الأيام الفاضلة، وحتى يكُفَّ عن الظلم في باقي الشهور.
- الابتعاد عن المعاصي: تجنب الظلم والعدوان، مع الحرص على كف الأذى عن الآخرين.
- إصلاح العلاقات: استغلال هذه الأشهر لتصفية القلوب وحل الخلافات بين الناس.
- التوبة والاستغفار: فرصة عظيمة لمراجعة النفس والعودة إلى الله.
- الإكثار من الصيام.
أخيرًا:
الأشهر الحرم ليست مجرد شهور عادية في التقويم الإسلامي، بل هي أوقات مقدسة تُضاعف فيها الحسنات وتتجنب فيها السيئات، هذه الأشهر هي دعوة للتأمل، والإصلاح، والعودة إلى الله، لذا، ينبغي للمسلمين أن يغتنموها بكل جد واجتهاد لتعزيز تقواهم وتحقيق السكينة الروحية.
الأشهر الحرم هي دعوة مفتوحة لكل مسلم للبدء بصفحة جديدة مع الله ومع الآخرين.
إنها فرصة عظيمة للتقرب من الله بالعمل الصالح، وترك الذنوب، وتعزيز قيم الخير والسلام في المجتمع.
وينبغي على المسلم مراعاة حُرمة هذه الأشهر التي عظّمها الله سبحانه وأن يعرف قدرها، وأن يحرص كلّ الحرص على حُسْن استغلال هذه الأوقات الشريفة، لا سيما في هذا الزمان الذي غفل كثيرٌ من الناس فيه عن حُرمة هذه الأشهر ومكانتها، فأعظم العبادات ما قام بها العبد وقت غفلة الناس وانشغالهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «العبادة في الهرج كهجرة إليَّ» (22).
---------------
(1) التحرير والتنوير (10/ 184).
(2) تفسير ابن كثير (1/ 574).
(3) المصدر السابق (1/ 575).
(4) تفسير المنار (2/ 251).
(5) أخرجه ابن حبان (5974).
(6) شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (2/ 172).
(7) فتح الباري (8/ 325).
(8) شرح النووي على مسلم (11/ 168).
(9) تفسير ابن كثير (4/ 148- 149).
(10) نفس المصدر.
(11) النكت والعيون (2/ 360).
(12) تفسير القرطبي (8/ 135).
(13) تفسير البغوي (4/ 44).
(14) (تفسير ابن كثير (4/ 148).
(15) الفروع وتصحيح الفروع (10/ 47).
(16) جامع البيان (4/ 314).
(17) انظر: فتح القدير للشوكاني (2/ 359).
(18) أخرجه النسائي (2357)
(19) المجموع شرح المهذب (6/ 386).
(20) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 119).
(21) أخرجه أحمد (24757).
(22) أخرجه مسلم (2948).