أزمة الثقافة لدى الدعاة
لا يستطيع عاقل أن ينكر أننا اليوم نمر بأزمات عديدة؛ أزمة فكر وثقافة، وأزمة أخلاق وضمير، وأزمة هوية وانتماء، بصرف النظر عن تعدد مشاربنا وتباين مذاهبنا، واختلاف اتجاهاتنا، ولعل أزمة الفكر والثقافة واحدة من تلك الأزمات المتراكبة التي تمر بها الأمم والشعوب، وهي أزمة لها هيئاتها ومُنظِّروها، وتتصل بحركة الأمم وتطور مجتمعاتها وانحطاطها؛ فالفكر، وسبيله العلم، عز ترنو النفوس إليه، وتتصارع الدول النابضة بالحياة أن تكون في عداده؛ فكل عز لا يوطد بعلم فإلى ذل يئول.
أهمية الثقافة للداعية وضوابطها:
1- مراعاة الضوابط الشرعية:
إن العلم الشرعي يمثل العمود الفقري للداعية في دعوته؛ لأن به يميز الأمور، ويحافظ على الأصيل، ويستطيع أن يتعامل مع الجديد وفق الضوابط الشرعية والأصول المرعية، ولذلك تجد كثيرًا من المعاصرين يغرقون في الجوانب الثقافية المذكورة، وأصبحت قراءة كتب الشرق والغرب من أولى أولوياتهم وأكبر اهتماماتهم، حتى إن بعض من يكتب في مثل هذا تجد استشهاده بنظريات الغرب وذكر أسماء منظريهم؛ أكثر من ذكر النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، وأقوال أئمة العلم والدين في القديم والحديث.
ولذلك فإن الخطاب الدعوي في كثير من الجهات مترهل ومهزوز، فالقريحة ترابية، والفكرة ضبابية!! والشعارات تأخذ مساحات كبيرة في ذهن غالب الدعاة أكثر من المبادئ والقواعد والأصول؛ وبسبب هذا تجد الترهل والتقلب سمة بارزة على هذا اللون من المثقفين؛ ولذلك لا بد من معرفة أن ثقافة الداعية تكمن في العلم الشرعي المؤصل، ولا يعني هذا بالضرورة إغفال النظر في باقي الفنون والعلوم، لكن لا يسمح تمريرها إلا عن طريق غربلتها عبر الأدلة الشرعية والقواعد والأصول المرعية(1).
2- البصيرة الدعوية:
إن أول ما يلزم الداعية المسلم من عُدّة فكرية أن يتسلح بثقافة دينية ثابتة الأصول، باسقة الفروع، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، فإن الداعية الذي يدعو إلى الإسلام لا بد أن يعرف ما الإسلام الذي يدعو الناس إليه، ولا بد أن تكون هذه المعرفة معرفة يقينية عميقة لا سطحية مضطربة، ولهذا كان لا بد أن يستمد هذه المعرفة عن الإسلام من مصادره الأصلية، ومن ينابيعه المصفّاة، بعيدًا عن تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
وبهذا يكون الداعية على بينة من ربه، وتكون دعوته على بصيرة، كما عرض الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم ومن تبعه واهتدى بهداه؛ قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، لا بد للداعية إذًا أن يقف على أرض صُلبة من دراسة العلوم الإسلامية، دراسة وعي وهضم وتذوق، ثم يُخرج منها شرابًا مختلفًا ألوانه فيه شفاء للناس(2).
إن مهمة الدعاة إلى الله مهمة صعبة، ورسالة جليلة وعظيمة، توجب على مَن ينزل إلى ساحة الدعوة أن يكون واسعَ الاطلاع، غزير الثقافة، مُحبًا للقراءة، شغوفًا بالمعرفة، يتنقل بين العلوم والمعارف مثل النحلة التي تنتقل من زهرة إلى زهرة، ومن روضة إلى أخرى، تمتص الرحيق وترتشف العبير، لتخرجه عسلًا مصفىً فيه شفاء للناس.
ونجد طعم ورائحة العسل يحمل بين مذاقه نوعَ الزهر والعبير الذي أخذت عصارته، وكذلك القارئ وطالب الثقافة؛ يظهر بين ثنايا عقله وأطراف لسانه معالمُ وملامحُ ما قرأه وتثقف به، ويصبح ذلك من مكونات شخصيته، فإن سلامة الفكر، وصحة الاعتقاد، وحسن المنطق، وروعة الأداء؛ هي دعائم الداعي إلى الله.
4- القدرة على الإقناع:
إن التأثير في جمهور المسلمين وغيرهم، واستمالتهم وإقناعهم، له أساليب متعددة من القول، وفنون مختلفة من البيان وحُسن الاطلاع، ولا سيما في هذا العصر الذي تكاثرت وتضاربت فيه الآراء والأفكار، وتنوعت فيه الحضارات والثقافات، وغدا كل صاحب فكر يبذل قصارى جهده لنشر معتقده؛ ولو كان باطلًا أو منحرفًا، وأصبحت السيطرة على الرأي العام وتوجيهه لرأي معين؛ من فوق المنابر، وفي المحافل، وعبر أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة؛ يحظى باهتمام علماء النفس والتربية والاجتماع، وصار فن التوجيه والإرشاد علمًا له أصول وقواعد، يتسلح بالتقنية العلمية العالية، وبأحدث أساليب التكنولوجيا الحديثة؛ مما يجعل موقف الدعاة إلى الله وسط هذه الأمواج العاتية من الأفكار صعبًا للغاية، فإن لم يُعِدُّوا أنفسهم علميًا وثقافيًا، وإن لم يتمرسوا على كل وسائل الإقناع، وإن لم يتزودوا بشتى أنواع العلوم والمعارف، فإن زمام التوجيه سيُفلت من أيديهم، ويتولاه قومٌ تربوا على الثقافة والفكر الغربي، ورضعوا لِبان العلمانية والإلحاد، فأضاعوا البلاد وأفسدوا العباد.
ولهذا قيل عن ثقافة الدعاة، وعن جوب الاهتمام بتكوينهم لمواجهة كل ألوان الغزو الفكري: إن الداعي يبدأ من حيث تنتهي كل التخصصات؛ ولذا فإن تنمية عقله، وغذاء فكره، وتكوين شخصيته، وبلوغ الغاية المرجوة من دعوته ترتكز وتؤسس على مصادر الثقافة الإسلامية، التي تنفرد بالتكامل والإحاطة والشمول، وتتميز بالاستقلال التام عن روافد الثقافات الأخرى، التي انقطعت صِلتُها بوحي السماء ورسالات الأنبياء(3).
5- تباين المدعوين:
وحالة المدعو هي التي تفرض النوعية المطلوبة من ثقافة الداعية وخطابه وأسلوب تعامله؛ وأحوال المدعوين متباينة تباينًا كبيرًا، ومع أن هناك قاسمًا مشتركًا بينهم جميعًا إلا أن التفوق في الأداء الدعوي يتطلب التدقيق في التفاصيل، ومراعاة المعطيات الجزئية، والمسافات الفاصلة؛ بين دعوة الشباب، ودعوة المراهقين، ودعوة النساء، ودعوة الصفوة والمثقفين، ودعوة العمال، ودعوة التجار، ودعوة العاملين في الحقل الطبي، ودعوة غير المسلمين، ودعوة المنحرفين ومدمني المخدرات، ودعوة المساجين، ودعوة طلاب الجامعات، ودعوة المعاقين وذوي الاحتياجات الخاصة.
6- الاستفادة من تجارب السابقين:
فمن الأمور الهامة للداعية أن يكون واسع الاطلاع، كثير القراءة، يبحث عن كل جديد، ومن ذلك الكتب الجديدة والنشرات الخاصة بالدعوة، فإن الاطلاع على الكتب، وخاصة كتب العلماء الذين لهم باع طويل وتجربة مديدة في الدعوة؛ جديرة بالقراءة والاستفادة منها، فسيجد فيها القارئ بغيته وضالته، وسيجد بعض الحلول لمشاكله وتساؤلاته، كما أنه سيجد فيها الأسلوب الأمثل والطريقة الصحيحة للدعوة، وخاصة إذا كانت هذه الكتب قد صدرت من عالِم موثوق بعلمه وعقيدته، كما أنه لا بد من الاطلاع على كل ما يصدر من الجهات المسئولة عن أمور الدعوة والوعظ والإرشاد، بين فترة وأخرى، من تعاليم ونشرات وبحوث ومجلات وكتيبات، وتعليمات خاصة بالدعوة والدعاة، أو من جهات موثوقة معروفة بسلامة منهجها، واعتدالها واقتفائها لأثر السلف الصالح.
7- التطور والتجديد:
فعمل الدعوة متجدد مع تجدد الزمن وتغير الوسائل وتعدد الطرق باختلاف المكان والزمان، فلكل زمان طرقه ووسائله وأساليبه، ولكل مكان الطرق والوسائل والأساليب الخاصة به، فما يحصل في زمان لا يحصل في زمان آخر، وما يصلح في بلد قد لا يصلح في البلد الآخر؛ إذ إن الوسائل متجددة بتجدد الاختراعات والصناعات، فلا بد للدعاة أن يواكبوا ذلك التجديد، ويستخدموا الوسائل الحديثة، ويسخروها في مصلحة الدعوة، كما هو حاصل الآن من وسائل الإعلام، وسرعة الاتصال وسهولته، حيث إنك تستطيع إيصال صوتك أو رسالتك إلى أي مكان في العالم.
والداعية عليه أن يدخل الميادين التي فيها خدمة للدعوة، ويتعرف على ما جد من طرق وأساليب جديدة في مجال الدعوة، كما أنه ينبغي للداعية أن يكون على اطلاع ومتابعة لما يعمله أعداء الإسلام ضد هذا الدين، وما يحيكونه من مؤامرات في مؤتمراتهم وخلواتهم؛ حتى لا يخدع، وحتى يقابل هذه المخططات وهذا الهجوم الشرس على الإسلام بصده والوقوف ضده؛ بل إننا نأمل أن تدخل الدعوة الإسلامية جميع بلدانهم؛ بل بيوتهم وقراهم، حتى يدخل الناس في دين الله أفواجًا، وتشرق الأرض بنور ربها، وما ذلك على الله بعزيز.
والداعية من أحوج الناس إلى رفع مستواه الثقافي والعلمي، وتنمية مواهبه المهارية، وزيادة معارفه ومعلوماته الخاصة والعامة، وذك بتعاهد القرآن الكريم وعلومه، والسنة المطهرة وما يتعلق بها، والاطلاع على أمهات الكتب والمراجع، وخاصة ما يتعلق بأمور العقيدة، ومصنفات الفقه والتاريخ والسير المعتمدة، والمصنفات المأمونة، والرجوع إليها عند الحاجة، وخاصة عند ورود سؤال على الداعية لا يجد له جوابًا، أو عند إرادة إعداد بحث لبعض الأمور الخلافية والتحقيق فيها، والتأكد من القول الصحيح المسند بالدليل من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة، فإن السائل أو القارئ غالبًا لا يقتنع إلا إذا سمع الدليل، وأي قول أو تحقيق يخلو من الدليل فهو مردود على قائله.
الأمة بحاجة إليك:
الداعية ثقافته تختلف عن غيره، فهو يقرأ بعمق لا للاطلاع فقط، يقرأ ليستفيد ويفيد، ويغذي ثقافته ومعارفه العامة، حتى يفيد نفسه أولًا ثم ينقل هذه الفائدة إلى غيره، فهو يأخذ ويعطي، فالعبرة من القراءة هي الاستفادة من الكتاب لا بعدد الصفحات ولا بعدد الكتب التي تنهيها دون أن تستفيد منها، والقراءة المفيدة هي التي يصاحبها ارتياح نفسي وحضور قلب، ورغبة أكيدة وجو مناسب خال من الإزعاج.
إذًا لا بد من الحرص على القراءة والاطلاع ولا سيما الدعاة، فهم أحوج الناس إلى أن يتزودوا بالعلم النافع والعمل الصالح، ويتسلحوا بالصبر والإيمان؛ {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197].
إن من أهم أسباب تأخر أمة من الأمم هجرها للقراءة، فهي مصدر الوعي في المجتمعات، وهي نماء العقول، وإبصار للأعمى، ومجالسة للعلماء والفضلاء، وبها تعرف أخبار السالفين، ومنها تعلم أحوال المعاصرين.
إن من أفضل ما يعمر به المرء ساعات ليله ونهاره عبادة ربه جل وعلا، فهي العمر الحقيقي للإنسان الذي سيجني ثماره بعد الممات، وإن من أفضل العبادات وأجل القربات طلب العلم وتحصيله بنية خالصة.
أخي على طريق الدعوة، إن العلم ثروة وثمرة يجب أن تحفظه، وتحافظ عليه من النسيان، فهو بمثابة الشجرة؛ إن تعاهدتها بالسقي والإصلاح والعناية، وإزالة الشوائب والحشائش نمت واخضرت، وآتت ثمارها يانعة، وإن أهملتها ولم تسقها جفت ويبست وتكسرت، كما أن العلم كذلك، وهو مثل الماء المغمور المجتمع في بئر، فإن نزحته وأخرجت من مائه باستمرار صفا وتجدد، وإن تركته دون تحريك أسن وفسد.
واعلم أن الأمة بحاجتك، وأن الرب قد كلفك بالدعوة، وسوف يحاسبك ويجازيك على ذلك، فلا تجهل بعد العلم، ولا تقصر بعد الجد، ولا تتوقف بعد المسير، ولا تقعد بعد الانطلاق، فإن فعلت فهو نكوص وانتكاسه، {فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68]، والداعية في هذا العصر في أمس الحاجة إلى التميز علمًا ودينًا وخلقًا، وأن يكون واسع الاطلاع، عميق العلم، قوي الدين، دمث الخلق، له اهتمام بحفظ المتون، وعناية بسائر العلوم والفنون، وأن يتجه الداعية إلى التأصيل العلمي والشرعي، والفهم المبني على الكتاب والسنة، وأقوال السلف الصالح، والتزام منهجهم في المعتقد والعبادة والدعوة، وأن يسعى جاهدًا إلى معرفة أحوال الإسلام والمسلمين في كافة أنحاء العالم، وخاصة الأقليات المسلمة، من أجل تقديم العقيدة الإسلامية الصحيحة لهم أو الدفاع عنها، وتعزيز الدعوة الإسلامية، ومساندة الأقليات والجاليات الإسلامية في تلك الديار(4).
آفة الأديان من جهل الدعاة:
ما زال الصحابة والتابعون، والأئمة من بعدهم يكرهون التحديث بما يكون مثار فتن وقلاقل؛ بسبب قصور بعض الناس في الفهم، أو استغلال أصحاب الأهواء والسلاطين ظاهر النصوص لتأييد بدعهم، وتسويغ ظلمهم وغشمهم، ولقد أنكر الحسن البصري تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين؛ لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان يفعله من المبالغة في سفك الدماء، ولا حجة له في ذلك سوى تأويلاته الواهية.
وهذا أبو يوسف يكره التحديث بالغرائب، وكان ذلك منهم رضي الله عنهم محافظة على سلامة الدين من أصحاب الأهواء، وسلامة الأمة من أهل الشغب والفتن، فكثيرًا ما تعلل المبطلون والإباحيون بظواهر أحاديث، فتحللوا من أحكام الإسلام، وخرجوا إلى صريح الكفر من حيث يشعرون أو لا يشعرون، وكثيرًا ما يوجد ذلك في أقوام ينصبون أنفسهم دعاة للدين، سواء أكانوا مغرضين أم غير مغرضين(5).
لذلك أمسك الصحابة عن التحديث بما يكون ذريعة للتقصير، والتهاون بسبب قصور النظر، أو يكون سلمًا لأهل الأهواء والبدع، ومن هو على شاكلتهم حتى لا تكون فتنة في الأرض وفساد كبير(6).
قال ابن القيم رحمه الله: «وأما القول على الله بلا علم فهو أشد هذه المحرمات تحريمًا، وأعظمها إثمًا، ولهذا ذكر في المرتبة الرابعة من المحرمات التي اتفقت عليها الشرائع والأديان، ولا تباح بحال؛ بل لا تكون إلا محرمة، وليست كالميتة والدم ولحم الخنزير، الذي يباح في حال دون حال، فإن المحرمات نوعان:
- محرم لذاته لا يباح بحال.
- ومحرم تحريمًا عارضًا في وقت دون وقت.
قال الله تعالى في المحرم لذاته: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}، ثم انتقل منه إلى ما هو أعظم منه فقال: {وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ}، ثم انتقل منه إلى ما هو أعظم منه فقال: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} ثم انتقل منه إلى ما هو أعظم فقال: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]، فهذا أعظم المحرمات عند الله وأشدها إثمًا، فإنه يتضمن الكذب على الله، ونسبته إلى ما لا يليق به، وتغيير دينه، ونفي ما أثبته وإثبات ما نفاه، وتحقيق ما أبطله وإبطال ما حققه، وعداوة من والاه وموالاة من عاداه، وحب ما أبغضه وبغض ما أحبه، ووصفه بما لا يليق به في ذاته وصفاته وأقواله وأفعاله.
فليس من أجناس المحرمات أعظم عند الله منه ولا أشد إثمًا، وهو أصل الشرك والكفر، وعليه أسست البدع والضلالات، فكل بدعة مضلة في الدين أساسها القول على الله بلا علم.
ولهذا اشتد نكير السلف والأئمة لها، وصاحوا بأهلها من أقطار الأرض، وحذَّروا فتنتهم أشد تحذير، وبالغوا في ذلك ما لم يبالغوا في إنكار الفواحش والظلم والعدوان؛ إذ مضرة البدع وهدمها للدين ومنافاتها له أشد»(7).
وكان مالك رحمه الله تعالى يقول: «من سئل عن مسألة فينبغي له قبل أن يجيب فيها أن يعرض نفسه على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة، ثم يجيب فيها»(8).
وسئل عن مسألة فقال: «لا أدري»، فقيل له: «إنها مسألة خفيفة سهلة»، فغضب وقال: «ليس في العلم شيء خفيف، أما سمعت الله يقول: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5]، فالعلم كله ثقيل، وخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة»، وقال: «ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك»(9).
ومن القول على الله بلا علمٍ تفسيرُ القرآن بغير معناه، والاستدلال به على غير المراد به، استنادًا إلى الآراء والأهواء والشهوات، وهذا يفعله كثير من الجهلة الغوغاء، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قال في القرآن برأيه، أو بما لا يعلم، فليتبوأ مقعده من النار»(10)، وفي رواية «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ»(11).
وقال أبو بكر الصديق لما سئل عن قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس:31]، فقال: «أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم»(12)، وعن عمر رضي الله عنه قال: «ما أخاف على هذه الأمة من مؤمن ينهاه إيمانه، ولا فاسق بين فسقه، ولكن أخاف عليها رجلًا قرأ القرآن، حتى أذلقه بلسانه، ثم تأوله على غير تأويله»(13).
فالواجب على طالب الحق، إذا أشكل عليه شيء، سؤال العلماء، والرجوع إليهم في الأحكام الشرعية، قال الله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث أن من اتخذ رءوسًا جهالًا فسألهم، فأفتوه بغير علم فقد ضلوا وأضلوه، وفي حديث صاحب الشجة: «ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال»(14)، وقال بعض السلف: «إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم»(15).
إنه من الخطورة بمكان على المسلم أن يصدّر نفسه للقول في دين الله بما لا يعلم، أو متتبعًا للرخص الباطلة، أو مجادلًا في دين الله تعالى بغير حجة ولا برهان، ومن هذا الباب نشأت الفرق الضالة، ومن أسهل الأمور أن يقول الإنسان الكلمة، ومن أصعبها الرجوع عنها، وليت المسألة تقف عند قولها ثم الرجوع عنها، ولكن ما يدري القائل في دين الله بلا علم أن يأخذ بقوله جاهل أو صاحب هوى، فيطير قوله في الآفاق، وعند هذا يكون هذا القائل على الله بلا علم ارتكب محاذير عدة، منها:
(1) أنه سن في الإسلام سنة سيئة.
(2) أنه شرع في الدين ما لم يأذن به الله.
(3) أنه معول هدم للشريعة ومفتاح شر.
(4) أنه يُخشى عليه من الدخول في الوعيد المترتب على الكاذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث: «من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار»(16).
(5) الخصومة في الدين، وكثرة الجدال بغير مصلحة شرعية، وهذا باب شر على مريد الحق، لا سيما إذا كان جاهلًا، قليل البضاعة من العلم الشرعي، فقد ثبت عن بعض السلف رحمهم الله قول: «من عرض نفسه للخصومات أكثر التنقل»(17).
وهذا بين واضح، فمن أعظم أبواب القول على الله بلا علم الخصومات والجدال في الدين، فمن دخل فيها وليس معه علم شرعي كاف، أو كان جاهلًا فإنه سرعان ما يتنقل من قول إلى قول، وسينشئ أقوالًا لا دليل عليها، وربما تتبع أقوالًا مهجورة، وشذوذات في بطون الكتب مطمورة، وذلك كله ليغلب خصمًا.
ولهذا فإن الواجب على مريد الحق الكف عن الخصومات والجدال في الدين ما لم يكن معه حجة ودليل صالح للاستدلال، وليدع ما لم يعلم لمن يعلم، وليتق الله أن يَضل أو يُضل.
إن من يتأمل أحوال هؤلاء الناس الذين يتصدرون في دين الله بغير علم يجد الواحد منهم لا يخلو من إحدى ست خصال أو من كلها:
1- يحاول أن يظهر التعالم بين الناس، فما يكاد من حوله يثيرون مسألة أو يتكلمون في مبهمة إلا ويتفيهق ويتشدق؛ ليظهر نفسه أمامهم في مظهر المثقف العارف المتعلم.
2- قليل الاستشهاد في كلامه بالنصوص الشرعية، من كتاب أو سنة، وأكثر كلامه في الدين برأيه وفكره ومزاجه وذوقه، دون تدليل وبرهان شرعي، وما ذاك إلا أنه قد قعدت به همته عن طلب العلم، وحفظ الآيات والأحاديث، والأمر كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: «إياكم والرأي، فإن أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يعوها، وتفلتت منهم أن يحفظوها، فقالوا في الدين برأيهم».
3- قليل الرجوع إلى العلماء، فهو كثيرًا ما يفتي نفسه بنفسه، وسبحان ربي العظيم، لو نزل بهذا الرجل مرض لما اجتهد رأيه في أخذ الدواء؛ بل يبحث عن الطبيب الناصح ليسأله في مرضه، أما دينه فلا يحتاط له هذه الحيطة.
4- مستكبرًا عن قبول الحق، وقليل الرجوع عن قوله أو رأيه.
5- يحب الظهور والشهرة.
6- متعصب لرأيه، يرى أنه دائمًا على الصواب وغيره على الخطأ.
ألا فليكن الواحد منا أحرص على فتواه منه على درهمه، وليعلم أن علماء كبارًا تهيبوا عن الكلام في الدين والتوقيع عن رب العالمين، جاء رجل إلى القاسم بن محمد بن أبي بكر فسأله عن شيء فقال: «لا أحسنه»، فقال السائل: «إني جئت إليك لا أعرف غيرك»، فقال القاسم: «لا تنظر إلى طول لحيتي وكثرة الناس حولي، والله، ما أحسنه، والله، لأن يقطع لساني أحب إلي من أن أتكلم بما لا علم لي».
وسئل الشعبي عن شيء فقال: «لا أدري»، فقيل له: «ألا تستحي من قولك: لا أدري، وأنت فقيه أهل العراق؟»، فقال: «لكن الملائكة لم تستح حين قالت: لا علم لنا إلا ما علمتنا».
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: لا ينبغي للرجل أن يعرض نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال:
الأولى: أن تكون له نية صالحة، وهي أن يخلص لله تعالى في كلامه، ولا يقصد تصورًا ولا ظهورًا ولا مدحًا أو ثناءً؛ بل يقصد بذلك تبليغ دين الله للناس، وتعليمهم ورفع الجهل عنهم.
والثانية: أن يكون له حلم ووقار، وألَّا يتعجل الجواب وإن كان صحيحًا؛ لأن الفتيا أمر عظيم، قال أبو بكر الخطيب رحمه الله: «قلَّ من حرص على الفتوى وسابق إليها وثابر عليها إلا قل توفيقه واضطرب في أمره»، وقال الخليل بن أحمد: «إن الرجل ليسأل عن المسألة قد يعجل في الجواب فيصيب فأذُمَّه، ويسأل عن مسألة فيثبت في الجواب فيخطئ فأحمده».
الثالثة: أن يكون على علم ومعرفة لما سئل عنه، وإلا عرض نفسه لخطر عظيم، وإذا سئل عن مسألة لا يعلمها فليتذكر بالحصن الحصين: لا أدري، ولا يستحي من قولها.
الرابعة: الكفاية، هي ألَّا يسأل الناس ما في أيديهم.
الخامسة: معرفته بالناس، وأن يكون بصيرًا بمكرهم وخداعهم لئلا يوقعوه في مكروه(18).
أما قلة العلم وظهور الجهل فبسبب التفقه للدنيا، وهذا إخبار بمقدمة أنتجتها الفتيا بغير علم، حسبما جاء في الحديث الصحيح: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس» إلى آخره(19)، وذلك أن الناس لا بد لهم من قائد يقودهم في الدين بجرائمهم، وإلا وقع الهرج وفسد النظام، فيضطرون إلى الخروج إلى من انتصب لهم منصب الهداية، وهو الذي يسمونه عالمًا، فلا بد أن يحملهم على رأيه في الدين؛ لأن الفرض أنه جاهل، فيضلهم عن الصراط المستقيم؛ كما أنه ضال عنه، وهذا عين الابتداع، لأنه التشريع بغير أصل من كتاب ولا سنة، ودل هذا الحديث على أنه لا يؤتى الناس قط من قِبَل العلماء، وإنما يؤتون من قبل أنه إذا مات علماؤهم أفتى من ليس بعالم، فيؤتى الناس من قبله.
والمرء إذا قل علمه وضعفت معرفته اشتبهت عليه الأمور، واختلطت عليه الأوراق، ولم يميز بين الحق والباطل، فربما أدخل الشيطان عليه التعلق والعشق وألبسه ثوب الحب في الله، والأمر على خلاف ذلك تمامًا.
عن زياد بن لبيد رضي الله عنه قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا، فقال: «ذاك أوانُ ذَهاب العلم»، قلت: يا رسول الله، وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن، ونُقرئه أبناءنا، وُيقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟ قال: «ثكلتك أمك يا زياد، إن كنتُ لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أَوَليس اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل لا يعملون بشيء مما فيهما؟»(20).
وعن أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعًا: «خذوا العلم قبل أن يذهب»، قالوا: وكيف يذهب العلم يا نبي الله وفينا كتاب الله؟ قال: فغضب، ثم قال: «ثكلتكم أمهاتكم، أَلم تكن التوراة والإنجيل في بني إسرائيل فلم يغنيا عنهم شيئًا؟! إن ذَهاب العلم أنْ يذهب حَمَلَتُه»(21).
أخطار غياب الثقافة:
وقلة العلم والثقافة قتل للإبداع، وحصر للفكر، وتسبب الرتابة في العمل، والانزواء في الأفكار، وهي بالضرورة ستؤدي إلى أخطاء جسيمة، منها:
1- قراءة الواقع قراءة سلبية تؤدي بالداعية للإحباط واليأس، فيترك طريق الدعوة.
2- عدم القناعة الكافية بطريق الدعوة.
3- الأمراض النفسية؛ كالعجب والغرور والحسد وغيرها.
4- الحيل النفسية، وهي كثيرة، منها: احتقار الداعية لنفسه، أو الخوف الموهوم، أو الخجل المذموم أو غيرها.
5- غياب الأهداف الرئيسة للدعوة الإسلامية.
6- جهل الواقع والبعد عن فقهه، فلا يستطيع التعرف على مشكلات مجتمعه وواقعه.
7- الإغراق في الجدل العقيم مع أصحاب الأهواء، وإضاعة الوقت في ذلك؛ مما يضعف الهمة، وقد يتأثر بهم ويسقط معهم.
8- غياب فقه المصالح والمفاسد، وإدراك ظروف المرحلة التي تعيشها الدعوة، فيقدم المفضول على الفاضل، وهكذا.
9- عدم الصبر عند وقوع الابتلاء والأذى في سبيل الله.
10- عدم التدرج في الدعوة؛ فيبدأ بأعمال غير مؤهَّل لها، فيصاب بشيء من الضعف نتيجةً لذلك.
11- استعجال الثمرة واعتقاد قربها، وضعف اليقين بنصر الله لعباده المؤمنين، قال تعالى: {إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ويَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51].
12- قلة الاهتمام بالجانب العبادي لدى الداعية؛ كقيام الليل والأذكار اليومية.
13- ضعف شخصية الداعية؛ فيسهل التأثير عليها بأي شيء.
14- عدم التنظيم للعمل الدعوي، وقلة التخطيط السليم.
15- العاطفة الزائدة، والحماس المفرط الذي قد يؤدي للغلو، ومن ثم يجد نفسه متراجعًا عن كل عمل دعوي(22).
ثمرات تثقيف الداعية:
أ- مراعاة الطبائع: إن الناس يختلف بعضهم عن بعض في علمهم وفهمهم وطبائعهم الشخصية وعاداتهم الاجتماعية، ومن الناس من طبعه الحدة والسرعة في الانفعال، ومنهم من يميل إلى السكينة وطول البال؛ وكلٌ له مدخل وأسلوب يناسبه.
ب- مراعاة الأفهام: تفاوت الأفهام أمر معروف وله أسبابه من قلة العلم، أو اختلاف البيئة، أو استحكام العادات ونحو ذلك.
ج- مراعاة المقاصد والنيات: قد يتفق اثنان في عمل مَّا، ومع ذلك يختلف الحكم عليهما باختلاف النوايا؛ فهناك من يفعل الفعل ناسيًا، أو جاهلًا بحرمته، أو متأولًا فيه، أو مكرهًا عليه.
د- مراعاة الأصول الخاصة: وذلك واضح في تعدد الجواب من الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يُسأل عن أفضل عمل مثلًا، أو عن الوصية والنصيحة.
هـ- مراعاة الأعراف والعادات العامة: إن لكل بلد أعرافها، وكل بيئة لها عاداتها، ومراعاة ذلك بالضوابط الشرعية من ضروب الحكمة وموافقة جوهر الشريعة(23).
______________________
(1) البصيرة في الدعوة إلى الله، عزيز بن فرحان العنزي، ص38.
(2) أصول الدعوة، جامعة المدينة، ص273.
(3) أصول الدعوة وطرقها-2، جامعة المدينة، ص81.
(4) دليل الداعية، ناجي بن دايل السلطان، ص159-171، بتصرف واختصار شديد.
(5) الحديث والمحدثون، محمد محمد أبو زهو، ص74.
(6) فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر (1/ 160).
(7) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لابن القيم (2/ 372).
(8) ترتيب المدارك وتقريب المسالك، للقاضي عياض (1/ 144).
(9) صفة الفتوى والمفتي، أحمد بن حمدان الحراني، ص80.
(10) رواه النسائي (8031).
(11) رواه الترمذي (2952).
(12) المعجم الأوسط، للطبراني (3845).
(13) جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر (2368).
(14) رواه أبو داود (336).
(15) مقدمة صحيح مسلم (1/14).
(16) رواه البخاري (110).
(17) فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب، محمد نصر الدين محمد عويضة (9/ 513).
(18) المصدر السابق (9/516).
(19) رواه البخاري (100)، ومسلم (2673).
(20) رواه ابن ماجه (3272).
(21) رواه الطبراني في الكبير (7906).
(22) من أسباب تساقط الشباب، أحمد العميرة، مجلة البيان.
(23) مراعاة الأحوال في الدعوة، سليمان بن محمد النصيان، مجلة البيان.