يحبون لغاتهم ونتمعر من لغتنا!
شواهد التخلف في مجتمعنا وبني قومنا كثيرة، ونماذج الانحطاط تتأبى على الحصر، من أبشعها وأوقحها أن يأنف امرؤ من لغته، ويستنكف عن عربيته، ويختار غيرها يرطن بها مفاخرًا.
وما فتئت الشعوب الأصيلة تتمسك بلغاتها وتعض عليها بالنواجذ، لا تبغي بها عوضًا ولا بديلًا، ليس ما يدفعها إلى ذلك سوى عدُّ لغاتها من أصول وطنيتها، التي لا يقبلون التفريط فيها أو التخاذل عنها، مع أن لغاتهم لا تعدو أن تكون لغة وطنية أو قومية فحسب، لا وشيجة لها بدين به يدينون، أو كتاب به يهتدون.
ورغم أن العربية، مثل أخواتها من الألسن، لغة وطنية وقومية معًا، إلا أنها فوق ذلك لغة الكتاب العزيز الذي هو دستور المسلمين، وهو الصراط المستقيم والحق المبين؛ إذ لم يختر له رب العزة سوى العربية لسانًا فصيحًا مبينًا، وفي ذلك شرف لها كما لا يخفى.
ومع ما للغتنا العربية من قدسية ورمزية، وما تتميز به من خصائص عذوبة الجرس، وثراء الكلم، وتفنن الأسلوب، إلا أنها تعاني في وطنها العربي الإقصاءَ والازدراءَ والاستهزاءَ، ولها في مغربنا الحبيب من كل ذلك نصيب.
وحسبي أن أسوق في هذا المقام أنموذجين بديعين في حب الأمم، من غير العرب، لغاتهم، وغضبِهم لها إذا ما رأوها قد أقصيت أو أهينت، وهما في الآن نفسه درسان بليغان لكثير منا من ذوي النفوس المفعمة بالهزيمة الحضارية، وتحقير الذات أمام الآخر الذي يُنظر إليه بعين التفخيم والتعظيم.
المثال الأول، تحدثنا به مي زيادة عن إحدى اللبنانيات المدافعات عن العربية؛ حيث دخلت مكتبة بإيطاليا لتبتاع لنفسها كتبًا لـ (جبرائيل دانو نتزيو)، وكانت تحدِّث صاحب المكتبة بالفرنسية، فسألها إن كانت تعرف الإيطالية، فلما أجابت بالإيجاب صار يحدثها بها، وقال متوسلًا، فيما ترويه مي: «لماذا لا تتكلمينها إذًا؟ أعلم أن الفرنساوية أكثر شيوعًا في هذه الديار، ولكن ماذا يمنعك عن استعمال لغتنا مع أبنائها؟ الفرنساوية جميلة، ولكن آهٍ، ما أجمل الإيطالية! هي لغة الموسيقى والفن والقلب والشباب والربيع، وكل لفظة من ألفاظها تستحضر شواطئ إيطاليا وآكامها وخضرتها وأزهارها، وألواح متاحفها، ولياليها الغريدة، وقلبها الخصيب...»(1).
أما المثال الثاني، فيعود بنا إلى أكتوبر 2004م ببروكسل؛ حيث أقيمت قمة أوربية، شهدت عرضًا لرئيس المصرف المركزي الأوروبي، الذي ألقى تقريرًا اقتصاديًا تحدث فيه بالإنجليزية، وكان فرنسيًا، فما كان من جاك شيراك، الرئيس الفرنسي آنذاك، إلا أن خاطبه محتدًا محتجًا: «لماذا، بحق السماء، تتكلم الإنجليزية؟»، ثم خرج غير راض على إهانة الفرنسية، وصحبه وزيراه في الخارجية والمالية(2).
غير خاف ما في المثالين من دلالات عميقة؛ فقد رافع قيِّم المكتبة مرافعة متميزة عن لغته الإيطالية، وهو ما ينم عن غيرة بَــيِّـنَـةٍ عليها؛ فقد بالغ الرجل في تَعداد محاسنها، وغالى في إثبات قدرتها على استيعاب مباهج الحياة وملاذِّها، وليس ذلك فحسب؛ بل حض محاوِرَته على التحدث بها في توسل عجيب، أما صنيع شيراك ووزيريه فمثال راقٍ لغيرة متقلدي المسئولية على لغة بلدهم؛ ذلك أنه رفض أن يتحدث فرنسي بغير لغته، رغم أنه في محفل فيه غير الفرنسيين، معتبرًا ذلك احتقارًا لها وإهانة.
ولنسْعَ الساعةَ إلى المقارنة، باختصار، بيننا وبينهم في مستوى الاعتزاز باللغة الوطنية، على ضوء المثالين الآنفي الذكر.
إن آحاد الناس عندنا لا يَرْغَبون في عربيتهم، ولا يُرغِّبون فيها أبناءهم، ولذلك تجد من أهم أسباب الزج بالأبناء إلى أتون التعليم الخصوصي رغبة الآباء في أن يكون لأبنائهم مستوى جيد في اللغات، خاصة الفرنسية، دون أدنى اكتراث للغة العربية.
آحاد الناس عندنا، في الغالب الأعم، يرقعون كلامهم بألفاظ فرنسية، ظانين ذلك من التحضر!
من آحاد الناس عندنا من يجعل المتحدث باللغة العربية موضع تندر وتهكم، وبإزاء ذلك ينظر بإكبار وإجلال إلى المستعيض عنها بغيرها، أما بعض (المثقفين) ممن التقموا أثداء غربية، ورضعوا ألبانًا غير عربية، فما يفتئون يرمون العربية بأبشع التهم؛ فتارة يرمونها بالتخلف والعجز عن مواكبة التقدم العلمي والتقني، وأخرى يدعون إلى استبدالها باللهجات العامية، وغير ذلك من الدعوات المشبوهة والدعاوى الزائفة، التي أثبت بطلانها التاريخ والواقع كلاهما.
فإذا قورن هؤلاء وأولئك بالإيطالي صاحب المكتبة، بان الفرق كبيرًا، والبون شاسعًا، فشتان بين الناس في بلدنا، الذين يتنكرون للغتهم فيما بينهم، أمَّا أمام الأجنبي فيبذلون طاقتهم ليثبتوا له أنهم يتحدثون مثله! وبين امرئ متحمس للغته، محب لها، يترجى بكثير من التوسل امرأة تحدثه بالفرنسية، وهو يفهمها، ولكنه يـجهد نفسه لإقناعها أن تتحدث الإيطالية.
أما بعض المسئولين عندنا فلا تصح مقارنتهم بشيراك ووزيره؛ إذ لا قياس مع الفارق؛ فقد أهان مسئولونا لغتنا أكثر من مرة، أكثرهم يرتقي المنصات فلا يتحدث العربية؛ بل الفرنسية، حتى وإن لم يكن بين الحضور فرنسي واحد، وكذلك قُل عن كثير من التصريحات التلفزية والإذاعية التي لا يحلو لأصحابها إلا أن تكون بلغة المحتل، وأقبح من ذلك وأنكى أن بعضًا من وزرائنا يسيء إلى العربية متعمدًا؛ ولست أقصد هنا اللحن الممجوج والأسلوب الركيك؛ بل أقصد احتقارهم الصريح للغة العربية.
لم ينس المغاربة إحدى الوزيرات، بضحكاتها البلهاء، وهي تقول، بكل وقاحة، إن حديثها بالعربية يسبب لها الحمى، وهل أتاك نبأ الوزير الذي قال إنه لا يعرف العربية لمَّا سألته قناة فرنسية تريد منه تصريحًا بلغة الضاد، رغم أنه لا يجد أدنى حرج في الحديث بلغات أخرى، وآخر صيحات موضة ازدراء العربية ما قاله وزير سابق وزعيمُ حزبٍ مترهلٍ، لما دعا إلى التدريس بلغات غير العربية التي زعم أنها تخرج (الفقهاء)(3).
إن هذه نماذج مستعجلة لم أقصد فيها إلى التقصي بقدر ما رميت إلى التمثيل، وستفضي بنا مقارنتها بموقف شيراك ووزيره إلى إحساس مثير للاشمئزاز والقرف! كيف يحرص غيرنا على لغاتهم التي ليس لها كبير مكانة في دنيا اللغات، ويزهد بعضنا في لغته العربية مع فضلها وشرفها؟
إن تلك المواقف، مع ما فيها من تجنٍّ على اللغة الرسمية للبلد، وإهانة لكرامة أهله، وضرب لثوابته، باعتبار العربية إحدى ركائز هويته، فإنها تنم عن استلاب فكري مهول، وهزيمة نفسية بليغة، وولع بتقليد الغير قبيح.
وختامًا، يطيب لي أن أشفع ما قيل آنفًا بكلام للدكتور الكبير عبد القادر الفاسي الفهري، تتبناه الأغلبية الصامتة، وتعاكسه الأقلية الهادرة، يقول: «إذا كانت مسألة اللغة مسألة هوية وتماسك مجتمعي وتراث حضاري، ورمز سيادة تاريخية وحاضرة، وتحرر من اللغات المهيمنة، فهي بجانب ذلك مسألة تنموية وفكرية واقتصادية، فاللغة الرسمية يجب أن تتاح لها حقوقها وفرصها، والمواطن يجب أن يتمتع بحقوقه اللغوية كاملة، وضمنها حقه في لغته الرسمية، ومن حق اللغة الرسمية ألَّا تعاني من حملة عدائية مستمرة ومتعددة المصادر.
هذه الحملة العدائية تذكيها وتغذيها نخبة نفوذ، لا تعير اللغة الرسمية حقوقها وفرصها، ولا تريد أن تفيد من فرص التعدد اللغوي المتزن؛ بل تسعى إلى محاولة إحلال اللغة الأجنبية محل اللغة الرسمية»(4).
__________________
(1) بين الجزر والمد، مي زيادة، ص81-82، كتاب الدوحة رقم:56، يناير، 2016م.
(2) اللغة هوية ناطقة، عبد الله البريدي، ص37، كتاب المجلة العربية، رقم:197، أبريل، 2013م.
(3) اصطلاح (الفقيه) موسوم بالنقص والازدراء في الاستعمال العامي عند المغاربة، وحتى عند بعض النخبة، يقول عباس الجراري عن فقهاء المالكية، الذين زخر بهم العصر المرابطي: «الذي يجب التنبيه له هو أنهم لم يكونوا فقهاء بالمعنى التنقيصي الذي يتبادر إلى ذهننا بعد أن مسخ لقب الفقيه؛ بل كانوا علماء كأوسع ما يعطيهم الوصف، ليس في الفقه وما يتصل به فقط؛ بل في جميع فنون العلم والثقافة المعروفة لوقتهم»، ونقل الجراري كلامًا للمقري في (النفح) أن المغاربة في عصره يدعون الكاتب والنحوي واللغوي فقيهًا (ينظر: الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه، عباس الجراري، ص89-90، مكتبة المعارف، الرباط، ط3، 1406ه/1986م).
(4) أزمة اللغة العربية في المغرب بين اختلالات التعددية وتعثرات الترجمة، عبد القادر الفاسي الفهري، منشورات زاوية للفن والثقافة، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، ط1، 2005م.