logo

خطورة الخلط بين الأحكام معقولة المعنى وغير معقولة المعنى


بتاريخ : الجمعة ، 20 ذو الحجة ، 1439 الموافق 31 أغسطس 2018
خطورة الخلط بين الأحكام معقولة المعنى وغير معقولة المعنى

الدافع إلى كتابة هذا المقال أني كنت في مجلس نتحدث فيه عن الثورة السورية، وكنت أثني على شجاعة المتظاهرين وبطولاتهم التي أذهلت العالم، وأطالب الجميع بوجوب نصرتهم، وتأييد ثورتهم، ومد يد العون لهم، فإذا بي أفاجأ بأحد الدعاة الحاضرين ينكر علي ويقول: إن هذه الثورات غير شرعية، ومخالفة لمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم. قلت له: وهل منهج الرسول صلى الله عليه وسلم يقبل بالظلم، والخضوع للظالمين، والرضى بالعبودية لغير الله؟ أوليست ضروريات الحياة كلها في أكثر هذه البلدان التي قامت فيها الثورات باتت مهددة بالخطر؟ أولا يجبر الناس على تأليه الحكام وأحزابهم، وعلى ذلك تنشأ أجيال وأجيال؟ فإذا ما هيأ الله لهذه الشعوب فرصة الانعتاق من هذه الأنظمة وقفنا في وجهها مثبطين مخذلين؟

قال لا: ولكن في حالة هذه الشعوب، المنهج الشرعي يوجب عليهم أن يتركوا ديارهم ويهاجروا، كما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وأمر الصحابة بالهجرة إلى الحبشة حين افتتنوا في دينهم. قلت له لكن إلى أين يهاجرون؟ وأي بلاد يهاجر أهلها، وأي بلاد يهاجر إليها، والحكومات متشابهة فيما بينها؟ وأكثر البلاد لا تسمح قوانينها بإقامة غير مواطنيها على أرضها؟ وهل من المعقول أن يهاجر ثلاثة وعشرون مليوناً إلى دولة أخرى؟ وأي دولة بإمكانها استقبال هذا العدد من البشر؟

إن هذا الطرح يدلنا على أن الأخ الداعية ينظر إلى الهجرة التي فعلها الرسول صلى الله عليه وسلم على أنها مقصودة لذاتها، وكأنها عبادة من العبادات المحضة التي يتعبد بها المسلم بصرف النظر عن معناها وعلتها، ولا ينظر إليها على أنها وسيلة من الوسائل التي تستخدم إذا أمكن استخدامها، ورجي منها أن تحقق الغاية والهدف منها، وإلا بحثنا عن وسائل أخرى.

كما أن كلام الأخ مؤشر على أنه يرى أن الوسائل التي اتبعها الرسول صلى الله عليه وسلم لإقامة الدين وتحكيم الشريعة، وسائل توقيفية لا يجوز للمسلم أن يخرج ولا يجوز الزيادة عيها ولا النقصان منها، ويذكرنا كلامه هذا بمن لا يرى طريقاً لإقامة الخلافة الإسلامية إلا طلب النصرة من أصحاب القوة: مسلمين كانوا أو غير مسلمين، على اعتبار أن الرسول صلى الله عليه وسلم طلبها من القبائل العربية، وعبرها قامت دولة الإسلام الأولى في المدينة، ويرى أن طلب النصرة أمر تعبدي لا محيد عن اتباعه، وعلى هذا الأساس يعدون أي سعي لتحكيم الشريعة عن غير طريق طلب النصرة حتى الجهاد في سبيل الله عبث وانحراف عن منهج الرسول صلى الله عليه وسلم،  كما يذكرنا كلامه بمن لا يرى طريقاً لعز الإسلام والمسلمين إلا بالخروج في سبيل الله لدعوة الناس عبر ترتيب معين، على اعتبار أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى الناس في مضاربهم، ويتعرض لهم في أسواقهم وطرقاتهم ويدعوهم إلى الله، ويتعبد أصحاب هذا المنهج ربهم  بذلك ولا يرون للدعوة، بل لإعزاز الإسلام والمسلمين إلا هذا الطريق. ويرى أصحاب هذه المناهج أن كل من لا يرى رؤيتهم وينهج نهجهم مخطئون مخالفون لمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم، وربما عقدوا ولاءهم وبراءهم على هذا الأساس.

والحق أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يلجأ إلى أي من الوسائل السابقة على أنها عبادات محضة يتعبد بها، وحتميات لا خيار للمسلم إلا استخدامها بذاتها، بل يلاحظ المتتبع للآثار النبوية والطرق المصطفوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستعمل في دعوته الوسائل التي كانت متاحة في عصره ومحققة لمصلحة الإسلام والمسلمين، ولو وجد وسيلة أجدى لأخذ بها، لأنها تصرفات معقولة المعنى، معلومة المناسبة والعلة، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.

إن عدم التسليم بهذه الحقيقة أدى في وقتنا المعاصر ويؤدي إلى نتائج كارثية، وأحدث فرقة وشرذمة وشتاتاً عظيماً في الصف الإسلامي، وبين أبناء المنهج الواحد، وكان له أسوأ الأثر على الدعوة بشكل عام، وما أكثر القضايا التي فرقت صفوف المسلمين بسبب الخلط بين الأحكام معقولة المعنى وغير معقولة المعنى. فلأن البعض لم يلتفت إلى المقصد من شرعية الجهاد في سبيل الله وأن الجهاد في الشريعة ليس غاية بذاته، بل هو وسيلة إلى غاية عظيمة هي إقامة الدين وعبادة الله سبحانه وتعالى.  قال تعالى: ﴿وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركوا بي شيئاً.  ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون﴾.  وأن للجهاد شروطاً وضوابطاً، فإذا غلب على ظن أهل الحل والعقد إن إعلان الجهاد لا يحقق هذه الغاية ولا يحقق رفعة الدين ونصرة أهله، بل يترتب على إعلانه الإضرار بالدعوة وتأخير لها وتسليط للأعداء على أهل الدين، لم يجز الإقدام على ذلك

لأنهم لم يدركوا ذلك وظنوا أن الجهاد عبادة محضة يتقرب بها المسلم إلى ربه في كل زمان ومكان وحال، فقد ورطوا الأمة في أزمات ونكبات لا طائل من ورائها، وجلبوا لها الخراب والدماء.

ولأن البعض غاب عن ذهنه تغليظ تحريم الإسلام للظلم، وانتهاك الحقوق، وأن أكثر من عُشر النصوص القرآنية والنبوية، تحذّر من الظلم، ومن الركون إلى الظالمين، وتبيّن عواقبه الوخيمة، ومصائبه العميمة، وأنّه مبيد النعـم، وجالب البلايـا والنقـم، فقد دفعوا في وجه الثائرين على الظلم والظالمين بأحاديث الصبر على جور الحاكم والسكوت على جرائمه حتى لو أكل المال وجلد الظهر وسفك الدم وانتهك العرض، وصوروا للناس أن السكوت على ظلم الحاكم قربة يتقرب بها المسلم إلى ربه فأظهروا الشريعة في صورة من يغطي الظلم، ويسوِّغ انتهاك الحقوق، بينما بينما يُسوق للقانون الوضعـي على أنه عنوان العدل، والحقوق ، والكرامة !!!

وفاتهم أنَّ هذه الأحاديث الشريفة، داخلة فحسب في قاعدة دفع أعظم المفسدتين بتحمـّل أدناهما. وذلك إذا كان درء مفسدة الظلم الواقع على آحاد الناس من السلطة، سيترتب عليه مفسدة أعظـم، فتقـع فتـنةٌ، تُسفك فيها الدماء المعصومة، وتُغتصـب الأمـوال أكثـر، وتُمزَّق وحدة المجـتمع، فحينئـذٍ تُقـدم أخفُّ المفسدتين على أشدّهـما، فيُتحمَّـل الظلم الجزئيّ الواقع من السلطة، لئلا تقع الفتن العامة، والظلم الشامل، حتّى يجعـل الله للناس فرجـاً ومخرجـاً. وليس في تلـك الأحاديث، ولا تدل بمنطوقها، ولا بمفهومها، ولا بمعقولها، أنه إذا أمكن المظلوم أن يدفع عن نفسه ظلم ذوي السلطة بما تمكِّنه به نُظـُم السلطة نفسها من وسائل يستطيع بها أن يَستردَّ بها حقـَّه، ثـم يعاقب ظالمه حتى لو كان من الشـُّرَط، أو غيرهم من موظفي السلطة، مهما كان منصبه، ليس فيها ما يدل من قريب ولا من بعيـد، أنـَّه يحرم عليه استعمال تلك الوسائل!.

ولهذا توجب الشريعة الإسلامية أخذ القصاص حتى من السلطة إذا تعدّت على الحقوق، ولايُستنثى أحـدٌ البتة في الشريعة الإسلامية من وجوب أخذ الحق منه، أو إقامة الحكم عليه، كما في الصحيح: (إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيـم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعـت يدهـا).

وقد قام النبيُّ صلى الله عليه وسلم بتطبيق هذا المبدأ على نفسه، مع أنه _ حاشاه صلى الله عليه وسلم من الظلم فقد ذكر ابن اسحاق في السيرة: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، عدّل صفوف أصحابه يوم بدر، وفي يده قدح يعدل به القوم، فمر بسواد بن غزية _ حليف بني عدي بن النجار _ وهو مستنتل من الصف، فطعن في بطنه بالقدح، وقال: استو يا سواد، فقال: يا رسول الله! أوجعتني وقد بعثك الله بالحق، والعدل؛ فأقدني، قال: فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه، وقال: استقد، قال: فاعتنقه فقبل بطنه، فقال: ما حملك على هذا يا سواد؟ قال: يا رسول الله!   حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك: أن يمس جلدي جلدك! فدعا له رسول الله صلّى الله عليه وسلم بخيـر".

وعلى هذا الدرب سار صحابته ومن بعده رضوان الله عليهم والأمثلة على هذا كثيرة.

والخلاصة أن النظر إلى مقاصد الشريعة من تشريع الأحكام، والتفريق بين العبادات المحضة غير معقولة المعنى، والعادات والتصرفات معقولة المعنى، من أوجب الواجبات على من يتصدر للفتيا وتوجيه الناس خاصة في قضايا المسلمين الكبرى، وهو من أعظم السبل لتوحيد كلمة المسلمين، وتأليف القلوب، وعلى أقل تقدير إعذار المخالف، وحفظ حق الأخوة له، وحمل كلامه ومواقفه على أفضل المحامل.

عدنان أمامة

ــــــــــــــــــــــــ

المصدر: موقع المسلم