logo

عوامل الجدية الجماعية


بتاريخ : الجمعة ، 1 جمادى الأول ، 1436 الموافق 20 فبراير 2015
بقلم : عصام خضر
عوامل الجدية الجماعية

ونعني بالجدية: حالة من التيقظ المتواصل المستديم يتيح استغلالاً وافراً لطاقة مجموعة الدعاة في سد الحاجات واستثمار الفرص دون تعطيل شيء منها.

وشرط دوامها: أخذها بلا غلو، فإن الإفراط يؤدي إلى التعب السريع، ولذلك جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم-:«أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل» (1) وكان الرافعي يؤكد: أن روح العمل الدائم تكون فيما يشق بعض المشقة، ولا يبلغ العسر والحرج، كما تكون فيما يسهل بعض السهولة، ولا يبلغ الكسل والإهمال) (2).

ويبدو ساذجا من يظن أن الكلام الحماسي المجرد يبعث هذه الجدية، وإنما هو مفيد وقتياً فحسب، ولكنها تنمو في ظل جملة عوامل تكون بها سمتا يكتسبه الداعية الجديد تلقائياً وذاتياً مع وضع قدمه في طريق العمل الجماعي ومن بين هذه العوامل التي تبعث على الجدية.


1
- وضوح الفكرة:
إن وضوح الفكرة يؤدي إلى شعور الداعية بأنه يحمل فكرة عظيمة يسعى لتحقيقها، ما يتولد لدى الداعية رغبة ملحة في عمل دائب وسعي مستمر ومصارعة للفكر المضاد، من خلال الحركة الجماعية لنصرة الفكرة التي آمن بها ويحملها في عقله وقلبه وهذا الوضوح هو من أهم أسباب نجاح الداعية واستمراره وثباته على الطريق.
إلا أن هذا الوضوح الفكري – سواء فيما يتعلق بالفكرة العامة حول تطبيق الإسلام في واقع المسلمين ، أو في الفكرة حول جمال الإسلام وإتقان الله له، أو الفكرة التي من أجلها أنشئت المؤسسة وانضم للعمل بداخلها - سهل تمنيه، لكنه في التطبيق يمثل جهدًا جماعياً مكثفاً في تثقيف الدعاة من خلال تربية تعليمية طويلة ومطالعة منهجية.
إن التحسن والنجاح في أي جانب من جوانب الخطة الشاملة لهو أكبر دليل لوضوح الفكرة لدى الدعاة إلى الله تعالى.

2- البرمجة الفردية والجماعية:
فنعلم الداعية كيف يبرمج يومه، ونقيد تصرفاته ونشاطه في بعض أيام الأسبوع، لا ندعه فيها حراً، ليتعلم تنظيم الأوقات، ولكن من الضروري أن ندعه في الأيام الأخرى يمارس تجربة ذاتية بغير رقابة، إذ النفس تمل الرقابة الكثيفة.
ونعلمه برمجة أسبوعه، بحيث يخصص بعض الأيام لعمل معين أو لون من النشاط، مع الانتباه إلى تخصيص يوم راحة له مهما بلغت الضرورة لأن الإرهاق يولد الملل ويضاد حقيقة الجدية.
وتزداد أهمية البرمجة الشهرية ثم الفصلية ثم السنوية، فنعلم الداعية أن يضرب لنفسه موعداً منذ الشتاء، أن يعمل كذا وكذا في الصيف، وأن يقرأ كتباً مسماة خلال السنة، ولا يترك همته تحركها الصدف فحسب، أو يطالع ما تقع عليه عينه من الكتب دونما اختيار للأنفع والأهم، بل نلزمه بجدول وخطوات متتالية مدروسة سلفاً.
إن فائدة هذه البرمجة لا تكمن في أنها تمنع من التفلت فقط، بل لها أثر نفسي كبير يؤدي إلى إتقان التنفيذ، إذ الداعية يظل يفكر فيما يتعلق بالأمر الذي سينفذه بعد مدة تفكيراً متواصلاً، ويصطاد الخواطر التي تأتيه حوله، حتى إذا جابهه وبدأ التنفيذ: بدأه بتصور واضح.
وتأتي بعد ذلك: البرمجة الجماعية والخطط التنفيذية مكملة ومستدركة على نقص البرمجة الفردية.
إن نجاح كثير من القادة العسكريين يرجع إلى تمكنهم من إصدار أوامر واضحة مفصلة إلى كل ضابط كل حسب صنفه وموقعه في ساحة المعركة .

3- التخصص وتوزيع الأعمال:
إذ أن لكل داعية طبيعة وهواية، والمفروض أن القادة يملكون أخباراً وافية عن صفات العاملين معهم، في شبه عملية إحصائية تنتج عن تتابع الجلسات الإدارية والتربوية، تمكنهم من توجيه كل داعية إلى ما يناسب تخصصه.ونضيف هنا أن يكون بصحبة مجموعة مناسبة قريبة في صفاتها منه، فتنشأ عن ذلك عندئذ مجاميع التخصص واللجان الاختصاصية المختلفة وفروعها.

إن علاقة التخصص بالجدية واضحة، لأن المتخصص يعمل في محيط من الرؤساء أو الأقران أو المساعدين الذين يفهمونه، ويحاورهم ويحاورنه على بينة وعن إدراك وفي تجانس فكري وتقارب في الآراء، يشعرونه بأهمية صوابه إن أصاب، فينطلق لزيادة، ويفرح بخير يجري على يديه، وإن هو أخطأ: أعطوه الدليل على ذلك، فيفرح أيضًا بفقه عند إخوانه لم يحوجهم إلى تهجم عليه، وبذلك ينفتح باب واسع للإبداع المتواصل لا يتاح لذي مقدرة مغمور بين إخوة له، يخالفونه في طبيعة الاهتمامات والثقافة، وليس للجدية غاية أبعد من الإبداع.
إن العمل الإسلامي إنما يبني على المشاركات الجماعية، ومن ثم فمن ضروراته تقسيم التخصصات وعمل المجاميع المتعاونة، في البحث العلمي، والتخطيط، والاتصال بالكبار، والعمل الصحفي، والبلاغ العام، والعمل التربوي، وغير ذلك من كافة التخصصات التي يحتاجها العمل الجماعي لنجاحه وإبداعه وبذلك تصبح للداعية همة جماعية لا تدع له فتوراً.
إن من علامة فقه المتخصص لحاجيات الدعوة أن يكون منفذاً للواجبات التي يكلف بها حين الدراسة إزاء أنصار الجماعة ومؤيديها، وفي أن يمتنع ويرضخ طائعاً إذا استأذن بالسفر للدراسة ومنعته الجماعة، أو أجلت الإذن له مراعاة للضرر الذي يصيب الجماعة إذا ترك العمل في وقت غير مناسب، وعلى قلبه أن لا يظل معلقاً بما أراد، فيقل نشاطه ويفتر اندفاعه، وأشد ما يكون من ذلك إذا استأذن أخ له وأجيز وأتاه المنع له فقط، إذ قد يلقي الشيطان في روعه بعض معاني الحسد الرديئة في تلك الأيام، مما لا ينقذه منها إلا الفقه الوافر والإيمان العميق واعتبار هذا التخصص من الواجب والتكليف وليس هو من مصادر الفخر والتشريف، وإنما الفخر في التقوى وفي تمني الخير لجماعة المؤمنين، على أي يد كان تحقق هذا الخير، ويكفيه أنه إن دل عليه فله مثل أجر فاعله.
كما أن من علامة فقه المتخصص لحاجات الدعوة ألا يتنكر للدعوة بعد أن يتعلم منها فإن كتف الدعوة يئن لكثرة الذين تعلموا وفقهوا ثم تنكروا وولوا يقول سفيان الثوري رحمه الله وقد رؤى حزينا يوماً، فقيل له: مالك؟ فقال: صرنا متجرأ لأبناء الدنيا، يلزمنا أحدهم، حتى إذا تعلم: جعل قاضياً أو عاملاً. (3) .
إنها الحقيقة المؤلمة في حياة كثير من الدعاة.

تعلمهم الدعوة الفصاحة واللباقة التي تمكنهم من حيازة فرص جيدة فإذا حازوها: فتروا، أو تفتح لهم الدعوة باب الدراسات العليا، ولربما أعانوه بالمال، فإذا تخرج فتر وفكر في عذر يتملص به من العمل.

فاعقدوا العزم على الوفاء لهذه الدعوة المباركة أيها الدعاة، واجعلوا الشهادة العالية أو التجارة أو المنصب في خدمة الدعوة لا للصيت، وإلا فإن الأمر كما يقول بعض السلف: إنه قل من يسر لنفس الجاه والصيت فأمكنه الخروج منه.


4- منع الهجرة، حفاظًا على تكامل أدوار الدعاة في كل جيل منهم:
فإن المتأمل في المجتمعات والتجمعات الدعوية يستطيع أن تتولد لديه مقدرة على رؤية حكمة ربانية تتمثل في ظاهرة اجتماعية يبدو بها كل جيل من الدعاة في كل مدينة متكاملاً تكاملاً ذاتياً، بحيث جعلته أيام العمل ونتائج التربية متوازناً تلقائياً توزعت فيه أدوار أفراده دونما تكلف لتؤدي مجتمعة إلى حالة من العمل الدعوي التام الشامل والجدية الجماعية، فتجد في كل جيل من هو قيادي ومن هو منفذ، وتجد المربي، والكاتب، والقدوة في العبادة، والممول لحاجات أقرانه المقرض لهم، والمتكفل بتزويجهم، وخليفتهم في أهليهم عند السفر، وحلال المشاكل العائلية عند حدوثها بينهم، ومن يحمل إخوانه على أداء الواجبات العائلية عند حدوثها بينهما، ومن يحمل إخوانه على أداء الواجبات الاجتماعية في التهنئة أو التعزية ويذكرهم بها ويصطحبهم معه، ومن يتسوق لهم ويدلهم على البضاعة الجيدة الرخيصة، أو يشفع لهم، أو يساعد على علاجهم، وأمثال ذلك، بحيث تتكامل مصالحهم ويتراكب بعضها على بعض، حتى أن بعض أصحاب العقلية التقليدية هم أبرع في التنفيذ التبعي وأصبر على شظفه، ولو حل القيادي المجتهد محلهم لكان أقل براعة منهم في التنفيذ ولأسرع إليه الملل، أو إنهم لو افتقدوا المتعبد لحلت القسوة في قلوبهم وأحاطتهم الغفلة مهما كان المنهج التربوي جيدًا، أو لو أن المتكفل بتزويجهم غاب عنهم لأخطأ بعضهم في اختيار الزوجات، فما بين مطلق متعب أو تارك للدعوة تابع لزوجته.
إنها علاقات متنوعة يكيف لها كل جيل نفسه تبعا لحاجاته، وتزداد إتقاناً مع مرور السنين، حتى أن جملة صغيرة من النصيحة من أحدهم لبقية جيله الذي يألف كلامه لتغني عن مقال من غيره، وحتى أن خاطرة ترد إلى ذهن أحدهم يبثها لإخوانه يكون لها من الأثر ما ليس لخطة تحريك فصلية، بما نشأ له معهم من تاريخ مشترك، ولد تجانسا قلبيا، امتزجت به الأرواح.
إنه توازن يأتي بحكمة ربانية وقدر مقدور خفي، ووجهه الظاهر كامن في التربية المتبادلة، بمعناها التأثيري الواسع، لا من المربي الأعلى إلى تلامذة في الأسفل فقط، بل هي تأثيرات منسابة تتردد بين الأقران تنتجها طباعهم وهواياتهم وميولهم، فهم قد يطيعون مسؤولاً لهم ويحبونه، لكنهم في نفس الوقت يذهبون إلى غيره في أمورهم الحيوية، فيفتيهم بالأصلح فيها، ويتبعون قوله، فيتئد أحدهم في زواج قد يكون فاشلاً، ويرجع عن طلاق قد يكون به ظالماً، أو صفقة تجارية قد يكون بها خاسراً، وبذلك يبعدون عن المشاكل القاتلة للمعنويات، وتتسق حياتهم المعاشية أيضاً لا الحياة التنظيمية فقط، وتقام علاقات صحيحة سائرة بلا اضطراب ولا ثلمات، وتحوطهم سعادة يسهل معها الحفاظ على سمت الجدية.
وفي نطاق المجاميع المختصة تبرز هذه الظاهرة بشكل أوضح، فإن مجموعة العمل الصحفي مثلاً تتجانس مع الأيام، ويكون أحدهم أعرف بالاصطلاحات المتوافقة مع الشرع، والأساليب والمعاني التي لا تتنافى مع المنهج ويفهمها الناس ولا تولد حرجاً، فإذا تبدلت عناصر هذه المجموعة: اضطرت لتجديد التجربة وتكررت الأخطاء.
هذه الحقائق تفرض علينا حرصًا على تواجد الأجيال كاملة، بمنع الهجرة من البلد إلا في أحوال الضرورة أو المصلحة التي تقدرها القيادات، وما مصاعب العمل الإسلامي في كثير من البلدان إلا نتيجة لاختلال هذا التكامل وكثرة هجرة الدعاة، وكاد أثرها أن يكون أكبر من المحن، لأن السجين يمد إخوانه الطلقاء بمعنوية تثير فيهم معنى الثبات والوفاء للدعوة، ولكن الهجرة ذات أثر عكسي، إذ ربما أثارت في الأقران معاني التنافس الدنيوي، فوق ما تسببه من انثلام أو فقدان التوازن ونشوء ظروف تسهل فيها الفتن الجماعية أو الفردية.

نعم، نحن لا ننفي مصاعب العيش التي تضطر بعض الدعاة إلى الهجرة، وطلب اليسار والغنى وازع وغريزة، ولكن تربيتنا مكلفة بأن تحمل الدعاة على شد ركبهم والأخذ بالعزيمة وتكلف الصبر على الفقر، وأن تشعرهم بحلاوة الجزاء الأخروي ولذة النجاح في تحقيق التأثير الفكري الإسلامي والأخلاقي في الناس.
وقد وصف البعض البلدان التي يهاجر إليها الدعاة بأنها مقابر لهم، وإنهم يتحولون فيها إلى أصفار على الشمال، ذلك أن الأرض كما أنها لا تقدس أحداً ولا تشرفه فإنها لا تعقله أو تأسره، وصاحب النشاط هو هو أينما ذهب، ولكن استجابة المجتمع الغريب له تكون ضعيفة جدًا، فلربما مال إلى يأس، ونظرة الانصاف تريك أنواعا من الفوائد قدمها المهاجرون، وإنما ندعو إلى موازنة مصلحية كمية لسنا نجد كبير عناء لاكتشاف رجحان مقدار نفع الداعية في بلده وبين أقرانه وأهله على مقدار نفعه في الخارج، ومن هنا كانت وصية الجاسوس الأميركي إلى رؤسائه بحمل الدول النفطية على إيجاد فرص عمل للدعاة جيدة، وهي الوصية المشهورة في الوثيقة الخطيرة التي فضحتها مجلة الدعوة.
وأكثر المهاجرين إنما هم ضحايا تصورات خاطئة كونوها لأنفسهم قبل رحيلهم، فإنهم لا يزيدون في هجرتهم على أن يستبدلوا متاعب الحاجة المادية بمتاعب أخرى من نوع جديد تنغص عليهم حياتهم أيما تنغيص.
فالمهاجر إن أحسن في المجتمع الغريب لا يشكروه، وإن أخطأ لا يعذروه، ويظل يعيش عن أهل البلد بمعزل، ومع بقية المهاجرين في تنافس وتتوالى التهم عليه عند أدنى خلاف أو سوء تفاهم دونما حماية من أحد يستجير به، وتتراكب على عاتقه كل أمور بيته ولا معين له من أقاربه أو أصحابه فتبدأ الانتكاسات النفسية تترى عليه وعلى زوجه وأولاده، ويتأسف على أيام كان يسير فيها في بلده مرفوع الرأس، عزيزاً بين معارفه، مهما ظلمه المتجبرون، أو أرهقه العوز، ويبدأ يحس أن الناس يعاملونه نفس معاملة أي صعلوك لمجرد انتسابهما إلى بلد واحد، ويفتقد الأيام التي كان يمشي بها بين الناس بمفاخره وتاريخه ونسبه ومناقب أهله، إذ كل ذلك مهدر في المجتمع الغريب مجهول، ولا يمنع من هذا وجود طائفة تحسن إلى من أتى إليهم مهاجراً للعمل لكننا نتكلم عن القاعدة العامة.
إن في هذه الحقائق ما يجعل من منع الهجرة عاملاً مهماً من عوامل الحفاظ على الجدية الجماعية، إلا هجرة مضطر يخاف أن يهدر دمه أو يطول سجنه أو تنتزع الأسرار منه بتعذيب، أو هجرة بعثة دراسية موقوته، أو هجرة قيادي يربي ويخطط.


5- تهيئة الأجواء والظروف المساندة لكل عمل مهم أو انعطاف خططي:
إن نظرية إيجاد البيئة المناسبة والمناخ الملائم ما زالت من أهم أركان إحلال الجدية في كل عمل سياسي أو تربوي، و إن ما نقوم به من أعمال لا بد لها من مجهود مساند وخلفية إرتكاز حتى يتسنى لها النجاح.


وهي ذات ثلاث مراحل:

* مرحلة الأوليات الممهدة قبل البدء بالعمل، وقد تشمل تحضير الأجواء النفسية، بالتفهيم الجيد لأبعاد العمل المراد تنفيذه من خلال دراسات وصفية وشروح وإقناع بجدواه وأسبابه، ويدخل في معني هذه المرحلة أيضًا: أسلوب التدرج في التنفيذ، ترفقاً بالعاملين ومنعاً للإرهاق، ذلك أن بعض النفوس تنكسر إذا وضعناها في العمل الجدي مباشرة وبخطوة واحدة.
وتساهم البحوث الميدانية بدور كبير في إتقان التمهيد، ولها أثر واضح في اكتشاف الحلول الملائمة لكثير من المشاكل التربوية والصعوبة التنظيمية، لما فيها من استقصاء الواقع وجرده جرداً دقيقاً يتيح للمخطط صواب التشخيص.

* ثم تأتي ثانياً مرحلة تكوين الظروف المساعدة أثناء القيام بالعمل، تضارعه، وتقترن به.

* ثم مرحلة لاحقة لتوليد زخم الدفع الذي يديم الجهد الأولي المبذول وينميه ويطوره ويخرجه عن حد الفورة بوضع مشرف مراقب مثلاً يختص بذلك العمل، أو عقد مؤتمر لتقويم نتائج التنفيذ الأولية.


6- ضبط حقوق وواجبات الدعاة بنظام داخلي صريح:
وهذا أيضاً من أهم العوامل التي تبعث على الجدية، فإن ترك العلاقات لأحكام الأعراف يجعلها واهية غير حاسمة ويقل الوضوح فيها، مما يوجد مجالاً لاختلاف التفسير أو افتيات أحد الطرفين على الآخر، القائد، والتابع.
إن أهمية الحريات داخل الجماعة أو المؤسسة تماثل أهمية الحريات العامة في المجتمع، وتكون سبباً في إطلاق الطاقات وتحفيزها وتنميتها، وعلى أساسها يغرس الشعور بالمسؤولية، وكما أن الحكم المستبد يقتل الكفايات ويضطرها إلى التواري والانعزال، أو إلى الهجرة والرحيل، فإن تفرد القيادة يؤدي أيضًا إلى ضمور الولاء لها في نفوس أتباعها وتجعله يتضاءل إلى حده الأدنى، وإذا وجدت قيادة لا تشاور، وتتجاوز، وتضييق ذرعاً بالنقد: عمت النجوى، واحتبست الآراء في صدور أصحابها، وصار التفتيش عن مسارب التملص.
ولا نستبعد أن يستغل بعض ذوي الأغراض أو الجدد الذين لم يستكملوا الوعي هذه الحريات في الجماعة الإسلامية استغلالاً سيئا يولد الضرر، ولكن المصالح الكامنة في هذه الحريات تبقى هي الراجحة، وما من إيجاب إلا وله صور ناقضة من السلب، ولا صفاء إلا وتعكره بعض الشوائب، مهما قلت، وكل سوء وانحراف يعالج بما يناسبه.
وقد تحتاج بعض المراحل أو بعض قطاعات التنظيم إلى حزم مضاعف يقتضي تضييق هذه الحريات، ولكن هذا التضييق يليق كاستثناء توجبه الضرورة، ويأتي قصير الوقت أو محدود النطاق، وتبقى أيام العمل الأخرى على طبيعتها حرة، مليئة بالتشاور.
وتبدو إتاحة حرية القول سمة بارزة في هذه الحقوق التي يكسبها الدعاة وتأتي في صورتين مهمتين:
الأولى: صورة إطالة النفس القيادي في الاستماع لرأي المخالف، وعقد الاجتماع معه، مع توقع صوابه، وعقد النية على التواضع للحق إذا أقام الدليل عليه أو أورد من القرائن ما يقنع، ويظل هذا النفس طويلاً ما دام المخالف ملتزماً أدب القول والجندية، مهذباً، بريئاً من التحدي، بعيدًا عن ولوج الجيوب.
الثانية: تكونها كثرة اجتماعات أشبه بمؤتمرات التي يسبقها تحضير جيد وتضبط بجدول أعمال مسبق، يستقصي الاقتراحات من خلال استنطاق الدعاة لتبادل الرأي، وتعليل المواقف، وبيان فقه الخطوات، قبل أن تكون مجالاً للتخطئة، وإظهار الخلاف.
ولعل من أهم معالم الأنظمة الداخلية للمؤسسة التي ينبغي أن تكون واضحة للعاملين هو النص على وجوب توقيت المسئولية وتحديد مدة ممارسة القيادة بسنوات معينة وجعلها مشروطة بشروط تمليها طبيعة المرحلة، أو شخصية القائد، يتم الاتفاق عليها قبل الانتخاب، ذلك أن في هذا التحديد والاشتراط ضمانات عديدة لجعل عملية تغيير القيادة عند عجزها أو عند تباين وجهات نظرها مع نظرات الأتباع عملية طبيعية، ينتظر لها الجميع أوان انتهاء المدة دونما حاجة لعصيان، كما تكفل- وهو ما لا يحسن منعه إذا كانت الانتخابات جادة ولا يدخلها سيف الحياء أو أية ضغوط– إعادة انتخاب القائد الناجح إذا أراده الناخبون، ولا يمنع تولي القيادة مهما تكرر اختياره وقد تم بشروطه الصحيحة المشار إليها دون أية شبهة، لاسيما والأصل في الإسلام أن العزل يكون لسبب لا لغير سبب.
أما أن تكون المسئولية مدى الحياة فنرى فيها إلغاء لدور عقول الدعاة ليس غير الله يعلم ما يحصل من تقلب في أفكار واجتهادات المجموعة العاملة خلالها.


7- اتخاذ احتياطات قيادية تدرأ الفتن:
فإن كثير من التنظيمات الجديدة لم تراهق بعد، فيظن من فيها أنهم أجادوا التربية فانتفت ظواهر الخلاف والتطرف والتساقط بين إخوانهم.
وذاك نوع من الاعتداد لا تصدقه سنن تطور الجماعات العاملة، فإن من شأن البداية الهادئة أن لا يختلف في حيثيات خطتها البسيطة اثنان، ومن شأن المجموعة الصغيرة أن لا يكثر المتطلعون للصدارة فيها، ومن شأن الترغيب والترهيب أن لا يصرعا صرعاهما من بعيد.
أما حين يتقادم عهد التنظيم وتكون له بعض القوة فإنه يبدأ مرحلة مراهقة صعبة، إذ تكثر المواقف تجاه الأحداث والحكومات والأحزاب، فتتعدد الاجتهادات، ويأتي احتمال الخلاف في ثنايا هذا التعدد. كما أن اتساع المجموعة يبرز رؤوساً قيادية متعددة، أيضًا بحكم مركزها التنظيمي، أو بحكم قابلياتها العالية التي تشد قلوب الآخرين إلى تبعيتها، ومع هذا التعدد احتمالات لخلافات أخرى، مبعثها الاجتهاد المتباين أو الغرور وروح التزعم، كما أن الترغيب إذا اقترب تكون همسته الخافتة في الأذن أقوى من ندائه العالي عن بعد.
والعلاج يكمن في أن تتوقع القيادات هذه الصعوبات منذ البداية، وأن لا تبني أمرها على وداعة تراها تغمر سنوات العمل الأولى، بل تشرع في تربية تقلل الخلاف المحتمل وفي توعية تضعف أسبابه، وأما القضاء عليه وعلى أسباب فنحسبه مستحيلاً.

وكأن أسباب الفتن تتقاسمها طبيعتان:

طبيعة النفس: بغرورها وكبرها وتطلعها للصدارة وحبها للجدل واحتكامها إلى الهوى، وتتكفل المواعظ والاطلاع على ما كتب في هذا الباب كالعوائق وغيره ما يدرء هذه الأسباب.

طبيعة الأحكام الضابطة للعلاقات التنظيمية: والمفروض أن نحاول إبعاد هذه الأحكام عن الجمود وجعلها ذات مرونة كافية تسمح ببعض التنازلات القيادية من أجل فسح المجال لبقاء العنصر المخالف في رحاب التنظيم مطيعاً، أو في رحاب المودة محباً.

وليس هناك حصر للأنواع المناسبة لدرء الفتن من هذه الأحكام، ولكن التفرس في تاريخ الجماعة ورؤية الخط البياني لسيرة أكثر من داعية يرينا أمثلة منها لا دليل على وجوبها غير الفراسة وحديث القلب.
*فمن ذلك: قبول استقالة الداعية المسؤول إذا طلب إعفاءه من المسؤولية المناطة به، لئلا يكون في إرغامه حرج عليه يولد هاجساً يراوده يسوغ له العصيان.

ونظن أن المسألة تنظر من جانبين:

الأول: جانب الداعية فإن عليه الصبر، مروءة لا فرضاً، وتحلياً بأخلاق الإيمان العالية، فيقدر مدى الضرورة إلى عمله بتجرد، ويعزم على الاستمرار حتى ولو كان هناك تعب وإرهاق، وأحوال عائلية ومهنية صعبة، فلا يطلب الاستقالة إلا بعد تأكده من ضرورتها له، بحيث يصيبه الحرج الشديد من جراء استمرار.

الثاني: جانب القيادة، فإن عليها أن لا تلتزم جواباً واحدًا لكل متقدم باستقالة لها، تبلغهم رفضها القاطع، فإن ذلك يخالف العدل المكلفة بأن تحكم به، بل تطيل الإنصات للداعية وتذكره بفضائل البذل، بحيث لا ترفض طلبه إلا إذا لم تجد القرائن الكافية على حصول الحرج.

*ومن أمثلة الاحتياطات أيضاً: إذن القيادة للعامل أن ينقض عهده بالتراضي معها، وأن تقيله إياها، إذا عزف عنها وأحب التفرد أو الانتماء لجماعة إسلامية أخرى، فإن قناعة المرء تتبدل، وتتغير اجتهاداته، أو يختلف قلبه، أو يلقي له الشيطان من الشبهات والظنون الرديئة ما يحمله على اعتقاد ضرورة تملصه مما ألزم نفسه به، فإذا ترفقنا معه، وسهلنا له طريق التراجع اعتبر ذلك فضلاً تفضل به عليه، وعوناً له على إصابة مراده، فيتئد، ويتأدب، ويحتفظ بالود، وربما عاد فاعتذر إذا بلغت نزوته أبعد مداها ورأى بعين الإنصاف فراغ دربه الجديد وبعده عن السمت الأوسط، ولكننا إن منعناه وحصرناه واتهمناه بفرار ونكوص استولى عليه الاعتداد بالنفس، وحرص على تجاوز حصارنا له بافتتان يفلت معه منه اللسان فيقطع عليه طريق الأوبة من بعد إذا أفاق، خجلا مما كان منه من البهت.

*ويرد مثل ثالث لهذه الاحتياطات يدعونا إلى أن لا نعتبر التخلف عن تنفيذ أمر واحد فقط نقضا لما تم الاتفاق عليه إذا كان الداعية متأولاً، حتى ولو كان مخطئاً في تأوله، فإن لخواطر التأويل استبداد بالعقول والقلوب رهيب، لا يفلت منه إلا داعية له فقه عميق.

ولربما ظن البعض بسبب هذه الأمثلة أن على الاحتياطات الدارئة للفتن أن تلتزم جانب الترخيص والمرونة دائماً، وليس ذلك الذي نعنيه، فإن العزيمة تفرض نفسها من جانب آخر كاحتياط ضروري مقابل.

وأجدر مثل يوضح ذلك أن تسلك القيادة مسلك بيان تبعات الانتماء الثقيل لكل داعية جديد. 

8- وفرة المال الكافي لتنفيذ الخطط.

فإن المراحل النهائية تقتضي إسنادًا مالياً لكثير من ميادين النشاط، كرواتب المتفرغين، والعاملين في اللجان والمجال الصحفي والعلمي، ولإرسال بعثات التخصص، وتوسيع خطة النشر، ووجوه أخرى كهذه، وتكاد أن تبقى الخطة حبراً على ورق إذا لم يتوفر لها المال.

ولو أردنا الجد فعلاً لحصل المال، فإن تبرع المتبرعين من الدعاة والمؤيدين يتناسب طردياً مع إحساسهم بوجود الجد والإتقان القيادي، ويتصاعد حماسهم للعطاء مع تصاعد النشاط، ومع ذلك فإن التعويل على مبالغ اشتراكات الأعضاء لا يناسب آمالنا البعيدة، ومن الواجب تكوين مؤسسات استثمارية تتكفل بتحقيق أرباح لائقة يعهد بإدارتها إلى دعاة من أصحاب العقلية التجارية المتحركة ولو كانوا ضعافاً في المهارة التربوية، ولا يصح أن تباشر القيادة الإشراف على هذه المؤسسات، لانصرافها عن التفكير التجاري من باب، وصيانة لسمعة القادة من باب آخر، إذ أن بعض أهل الفتنة لا يتورعون عن ظلم القيادة واتهامها بالتلاعب بالأموال.

 

9- رؤية تزايد المخاطر الخارجية المحدقة بالدعوة:

فإن الأعداء كثرة، وعلى مقدار كبير من الحيوية والعمل المنظم، وتحركهم أحقاد متنوعة، ويظاهرهم إسناد دولي، وليس لنا غير اتخاذ الأسباب الممكنة، ثم التوكل على الله تعالى.

إن تحسس الداعية لهذه المخاطر يبعث فيه همة الدفاع عن إسلامه ونفسه وأهله وماله، إن لم تكن همة الجهاد وافرة، وإذا كان وضوح فكرة يدفعه للعمل، حرصا ورغبة، فإن تجسم الأخطار أمام نظره يجذبه، خوفا من وضع أنكى، ورهبة، ويظل متحفزًا يقظًا سائرًا في طريق البذل.

ولهذا كان من تمام وسائل الجدية أن نتعرف على حجم الأعداء وخططهم وأساليب مكرهم، وأن ندعو أصحابنا وأنصارنا إلى رؤية ما نكتشف من أخبارهم، فإن الكثيرين منهم ينامون ملء جفونهم، لا يحسون بزحف الإلحاد.

ولكن المبالغة في تقدير قوة الأعداء قد تحول الإيجاب الصاعد المبتغى إلى سلب انهزامي نازل، وكان لسيد قطب رحمه الله تشجيع متكرر للمسلمين على النهوض بوجه الباطل مهما كانت سطوته يقول في تفسير قوله تعالى: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ) إن الشيطان هو الذي يضخم من شأن أوليائه، ويلبسهم لباس القوة والقدرة، ويوقع في القلوب أنهم ذوو حول وطول، و أنهم يملكون النفع والضر.. ذلك ليقضي بهم لباناته وأغراضه، وليحقق بم الشر في الأرض والفساد، وليخضع لهم الرقاب ويطوع لهم القلوب، فلا يرتفع في وجوههم صوت بالإنكار، ولا يفكر أحد في الانتفاض عليهم، ودفعهم عن الشر والفساد.

والشيطان صاحب مصلحة في أن ينتفش الباطل، وأن يتضخم الشر، وأن يتبدى قوياً قادراً قاهراً بطاشاً جباراً، لا تقف في وجهه معارضة، ولا يصمد له مدافع، ولا يغلبه من المعارضين غالب، إن الشيطان صاحب مصلحة في أن يبدو الأمر هكذا، فتحت ستار الخوف والرهبة، وفي ظل الإرهاب والبطش، يفعل أولياؤه في الأرض ما يقر عينه! يقلبون المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، وينشرون الفساد والباطل والضلال، ويخفتون صوت الحق والعدل، ويقيمون أنفسهم آلهة في الأرض تحمي الشر وتقتل الخير، دون أن يجرؤ أحد على مناهضتهم والوقوف في وجههم، ومطاردتهم وطردهم من مقام القيادة بل دون أن يجرؤ أحد على تزييف الباطل الذي يرجون له، وجلاء الحق الذي يطمسونه..

والشيطان ماكر خادع غادر، يختفي وراء أوليائه، وينشر الخوف منهم في صدور الذين لا يحتطون لوسوسته، ومن هنا يكشفه الله، ويوقفه عارياً لا يستره ثوب من كيده ومكره، ويعرف المؤمنين الحقيقة:

حقيقة مكره ووسوسته، ليكونوا منها على حذرا، فلا يرهبوا أولياء الشيطان، ولا يخافوهم، فهم وهو أضعف من أن يخافهم مؤمن يركن إلى ربه، ويستند إلى قوته، إن القوة الوحيدة التي تخشى وتخاف هي القوة التي تملك النفع والضر، هي قوة الله وهي القوة التي يخشاها المؤمنون بالله، وهم حين يخشونها وحدها أقوي الأقوياء، فلا تقف لهم قوة في الأرض، ولا قوة الشيطان، ولا قوة أولياء الشيطان (4).


10- إشاعة أدب الحماسة والرقائق الوعظية:

تأتي الحماسة والرقائق الوعظية، بعد كل هذه العوامل لتستثمر نتائجها، وتستصرخ، وليس قبل ذلك، فإن بعض من يعالج أسباب الفتور الجماعي، يتوهم العلاج، في بعثة الحماسة في قلوب الدعاة، كلا، بل هي آخر الأسباب وأضعف العوامل

ولعل أشد العاملين غفلة وانكباباً على مصالح نفسه يتعظ بربته على كتفه مع همسة في أذنه خفيضة النبرة، عالية الأصداء.

وكما أن الرقائق تقطع القلب بالدنيويات، فيتفرغ لأعمال الدعوة، فإن القصص كذلك أيضًا، ويجدر بأدبنا أن يتناولها بسعة، وقد كان أحمد بن حنبل يقول: ما أحوج الناس إلى قاص صدوق) (5).
هذه هي العوامل العشرة التي نظن أن اجتماعها يولد الجدية الجماعية، فاشهد بربك، ألا تجتمع الجدية من أطرافها لجيل متكامل، وقد حجبت عنه أسباب الفتن؟؟؟ (6) .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

(1) صحيح البخاري رقم (6464) .
(2) وحي القلم ( 2/7) .(3) إحياء علوم الدين (1/757) .
(4) في ظلال القرآن (4/149)
(5) تلبيس إبليس لابن الجوزي (ص120) .
(6) مستفاد من المسار لمحمد أحمد الراشد مع التصرف والتلخيص لبعض عبارته دار البشير الطبعة الرابعة (ص 257 – 310) .

موقع ملتقى الخطباء