الفوضى المعرفية المعاصرة
لا شك أن التقنية الحديثة وفرت سُبل التعامل مع المعلومة، سواء بالنسبة لإتاحتها للجميع بصورة مجانية في أغلب الأحيان، أو بتيسير سبل الاطلاع عليها، وتنوع الروافد المعرفية، مع سهولة الغوص في أعماقها بحثًا وشرحًا وتحليلًا؛ مما شكل طوفانًا معرفيًا معاصرًا، لا عهد للبشرية بمثله على مر العصور والأزمنة السابقة.
هذا الثراء الثقافي كان له مردود متميز مع الأجيال المعاصرة؛ حيث تَولد حراك معرفي متنوع، فبدأت المياه الراكدة تتحرك بعدما أسنت من طول السكون، ونشطت الأفكار، وارتبط الناس بمجريات حياتهم أكثر على كافة الأصعدة؛ السياسية والعلمية والطبية، كما ارتبطت الثقافات الشعوبية بعضها ببعض إلى حد الامتزاج، في كثير من الأحيان، وجال الناس وصالوا في كافة أنحاء المعمورة بنقرة فأرة الكمبيوتر على مواقع الإنترنت المختلفة.
ولم يقتصر الأمر على تنوع مدخلات المعرفة؛ بل شمل الحراك المخرجات أيضًا؛ حيث شجعت التعليقات والمنتديات والمدونات على المشاركة في الحراك الثقافي نقدًا وتحليلًا، وتدوينًا للخواطر والمشاعر والرؤى والمقترحات، كما يسرت الكثير من المواقع الإلكترونية النشر؛ فظهرت المقالة والقصة وقصيدة الشعر من شرائح ما كانت تتوقع يومًا أن يقرأ لها أحد، أو ينشر لها مجهودها الفكري وهي من غير المختصين، أو من غير حملة الشهادات العليا أو أحد أعضاء اتحاد كتاب أو نادي ثقافي أو غيرها، من مثقّلات القيمة المعرفية، التي تكسب الكاتب قيمة ووجاهة عند قرائه.
لكن، على الجانب الآخر، حدث الكثير من السلبيات، التي لا ينكرها أحد، والتي قد تتفاقم في بعض الأحيان لتصل إلى حدود (الفوضى المعرفية)، التي تحتاج إلى كثير من تفهم الحقوق والواجبات، وإلجام النفس بلجام الضوابط المعرفية والأخلاقية.
فكثير من رواد المواقع الالكترونية اغتر بتحقيق نسبة عالية من الإعجابات أو التعليقات أو المشاركات، وتوهم أنه بهذه الشعبية الجماهيرية قد حاز الكثير من أصول العلم، وقادر على مناطحة العلماء المتخصصين، الذين أفنوا أعمارهم في رحاب العلوم دراسة وتمحيصًا وتحقيقًا، حتى تطاول أحداث المعرفة على قامات علمية مرموقة لها مكانتها ورونقها.
وصدق، والله، ابن مسعود رضي الله عنه عندما قال: «كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير، ويهرم فيها الكبير، وتتخذ سنة يجري الناس عليها، فإذا غير منها شيء قيل: تركت سنةٌ؟»، قيل: «متى ذلك يا أبا عبد الرحمن؟»، قال: «إذا كثر قراؤكم، وقَلَّ فقهاؤكم، وكثرت أموالكم، وقل أمناؤكم، والتمِستِ الدنيا بعمل الآخرة، وتفقه لغير الدين» [رواه الدارمي].
ويقول الشيخ إبراهيم السكران حفظه الله: «ومن جهة أخرى فإن إدمان متابعة الوقائع والأحداث والمجادلات الشبكية المتوالية يصوغ نمطًا من (التفكير الأفقي)، لا يبصر إلا الغلاف والقشرة الخارجية من المتغيرات، ولا يعرف إلا المنتج النهائي من التصورات الذي يقدم للمستهلك العام؛ لأنه، بكل اختصار، غادر معامل الإنتاج إلى رفوف التسوق؛ وبالتالي فلا يمكن ترميم هذا النمط واستصلاحه إلا بإعادته للعيش التأهيلي في (عالم الإنتاج)، وملامسة تفاصيله وصعوباته ومكابداته، وعالم الإنتاج هو الخبرات العلمية والتجارب الإصلاحية» [الماجريات].
بل وصلت الجرأة بالكثير لطرح رؤيتهم الفقهية الخاصة، أو تصدروا للفتوى الشرعية وتحقيق القضايا الشرعية، ظنًا منهم أن رجاحة العقل كافية لإبصار نور الحق مع قلة حظهم من علوم الكتاب والسنة، وعدم تمكنهم من طرق الاستدلال والاستنباط، وقد كان العلماء الربانيين يفرون من الفتوى ما وجدوا لذلك سبيلًا، ولا يحرصون على إقحام أنفسهم في تحمل تبعاتها، قال النووي: «قال الصيمري والخطيب: وَقَل من حرص على الفتيا وسابق إليها وثابر عليها إلا قل توفيقه واضطرب في أمره، وإن كان كارهًا لذلك، غير مؤثر له ما وجد عنه مندوحة، وأحال الأمر فيه على غيره كانت المعونة له من الله أكثر، والصلاح في جوابه أغلب».
ومما زاد الطين بلة عدم اعتناء السذج بالأخذ بأسباب الخشية، التي هي من أخص أصول العلم.
إن من الأمور الهامة جدًا في الوصول إلى بواطن المعرفة هو أن نكون صادقين في نوايانا، وأن يكون هدفنا رضا الله سبحانه وتعالى، وأن نلتزم، قولًا وعملًا، باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم قدر ما نستطيع، وإذا لم نفعل ذلك فلن تتفتق لنا ينابيع الحكمة أبدًا.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر:28] وقال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]، قال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه عندما سئل: «من نسأل بعدك؟»، فقال: «سلوا عبد الوهاب الورَّاق»، قيل: «إنه ليس له اتساع في العلم»، فقال أبو عبد الله: «إنه رجل صالح، مثله يوفق لإصابة الحق»، وسئل الإمام أيضًا عن معروف الكرخي فقال: «كان معه أصل العلم، خشية الله»، وهذا يرجع إلى قول بعض السلف: «كفى بخشية الله علمًا، وكفى بالاغترار بالله جهلًا».
وباختصار؛ فإن العلم نور، والنور مرتبط بالطاعات، ولا نور مع المعاصي؛ بل معها الجهل والظلام.
ومن الفوضى المعرفية فهم الحرية بإطلاقها دون ضوابط ولا حدود، حتى طالت هذه الحرية إخضاع ثوابت هذا الدين للاستبْيان واستطلاع الرأي، كما يحدث في بعض القنوات الفضائية أو المواقع الالكترونية أو الصحف؛ حيث تطرح أحد ثوابت الدين للنقاش؛ من أمثال: ما رأيك في نظام المواريث الإسلامي؟ هل توافق على تقديم الخمور في الفنادق؟ هل يمكن أن تجبر زوجتك أو ابنتك على ارتداء الحجاب؟ وأمثال هذه التساؤلات التي هي من ثوابت الدين ولا مجال للرأي فيها، أو حتى فتح باب للنقاش والحوار بين مَن يعلم ومَن لا يعلم؛ لأن الإسلام، بالأصل، هو المرجع لكل نقاش وكل خلاف، كما قال تعالى مبينًا ذلك في كتابه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى:10].
ثم إن هذا تعدٍّ على حكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} [الأحزاب:36]، وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51].
ثم إنه طريق إلى الفتنة، وخلخلة صفوف الأمّة، وإيجاد الفرقة بين أبنائها، وإحداث ما يقطَع صلةَ الأمّة حاضرَها بماضيها، ويجعلها متنكرة لماضيها مخالفة له.
ومن الفوضى المعرفية طرح آراء قد تودي بصاحبها وقارئها إلى مهاوي الفتن والضلال، وفي الحديث الشريف الذي رواه البخاري، قال صلى الله عليه وسلم: «إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالًا يهوي بها في جهنم»، وفي هذا حث على التدبر والتفكر عند التكلم، فإن الشيطان يزين الشر في صورة الخير.
قال الغزالي: «عليك بالتأمل والتدبر عند كل قول وفعل، فقد يكون في جزع فتظنه تضرعًا وابتهالًا، ويكون في رياء محض وتحسبه حمدًا وشكرًا، ودعوة للناس إلى الخير فتعد على اللّه المعاصي بالطاعات، وتحسب الثواب العظيم في موضع العقوبات، فتكون في غرور شنيع وغفلة قبيحة مغضبة للجبار، موقعة في النار وبئس القرار».
ومن مظاهر الفوضى المعرفية إهدار الأوقات في القيل والقال، والتسكع بين المواقع الإلكترونية، وعلى صفحات التواصل الاجتماعي، دون فائدة تذكر، ولا هدف ينشد، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: «إن الله تعالى حرم عليكم: عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعًا وهات، وكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال»، قال أهل العلم: أي كره لكم (قيل وقال) ما لا فائدة فيه، أو نبه به على وجوب تجنب التبرع بنقل الأخبار وترويج الشائعات؛ لما فيه من هتك الأستار وكشف الأسرار، وذلك ليس من دأب الأخيار، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، والله سبحانه ستير، والستر لا يحصل مع كثرة نقل الأخبار، ودلّ على إرادة النهي عن الإكثار عطفه (قال) على (قيل)، وهو من حسن الاعتبار.
ومن الفوضى المعرفية الخطأ في الكتابة إملائيًا ونحويًا، وإنما نتج هذا من اضمحلال هوية الفرد، وإهماله لغته التي هي جزء من كيانه، ثم هو يخوض في بحار الثقافة بلا أداة تحمله، ولا عبارة تنصفه، فترى الكثير من رواد مواقع التواصل الاجتماعي يناقشون مواضيع في غاية الحساسية، بلغة ركيكة، وعبارة مبتذلة، رغم أن اللغة هي وعاء المعرفة، لكن لما ثقل عليهم العلم أخذوا بقشوره، وأعرضوا عن مضمونه، فحدثت لهم فتن لا قِبَل لهم بها.
_____________
المصدر: موقع الشبكة الإسلامية