logo

منحة كورونا


بتاريخ : الخميس ، 11 ذو القعدة ، 1441 الموافق 02 يوليو 2020
بقلم : جمعان الودعاني
منحة كورونا

ليس كل البلاء شرٌّ مَحض، فقد يكون فيه من الخير الشيء العظيم. وقد يأتي الخير في صورة بلاء قد ندركها أو لا ندركها، وربما تتجلّى لنا بعد حين؛ فهو وإن كان وَقْعُه على صاحبه عظيماً إلا أنَّه -من لطف الله ورحمته- يكون في باطنه من الرحمات والخير والمنافع الشيء الكثير التي قد لا تخطر على بالِ أحد.

يقول الله تعالى: {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [سورة النور: 11]. وإنَّ جائحة كورونا من البلاء الذي عمَّ العالم بأسره: ذلك الوباء الفتاك الذي قلب موازين العالم بأسره، وبعثر أوراق الدول والمنظمات، وأرعب الأفراد والمجتمعات، وعطَّلَ حركة العالم بأسره: فالطائرات بعد أن كانت محلقة في السماء جُلَّ وقتها قد أصبحت رابضةً في المطارات لا تكاد تَجِدُ لها مكاناً، والقطارات ووسائل النقل الأخرى متوقفة، كما أُصيبَ به مئات الآلاف من البشر حول العالم، وفتك بعشرات الآلاف من كافة أنحاء العالم، فوقف العالم بأسره حائراً مندهشاً أمامه في ظل عجزٍ عن مواجهته.

اتخذت العديد من الدول إجراءات وقائية للحيلولة دون تفشي ذلك الوباء بين مواطنيها، فكان من تلك الإجراءات: إيقاف التعليم والأعمال في القطاعات العامة والخاصة وفرض حظر التجوُّل الذي يختلف من دولة إلى أخرى وربما من مدينة إلى أخرى داخل الدولة حسب خطورة الوضع.

لقد نادت وزارات الصحة بصوت عالٍ بأنَّ مكوث الناس في بيوتهم هو الكفيل -بعد الله- بحفظهم من انتقال العدوى إليهم، حتى باتَ ذلك شعاراً لبعض الحملات التوعوية: "اجلس في بيتك واحمي نفسك"؛ فأضحى العالم حبيس البيوت، وأصبح الخروج والتنقل في أوقات الحجر عرضة للعقوبة، فسبحان من بيده ملكوت السموات والأرض.

أدى توقف الناس عن الذهاب إلى مقرات أعمالهم ومصالحهم إلى الجلوس في البيوت والمكوث وقتاً أطول مع أسرهم!! لقد عانت الأسرة كثيراً في ظل الانشغالات والبحث عن لقمة العيش ناهيك عن التباعد الاجتماعي الذي سببته الأجهزة الالكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي (التباعد الأسري) أدى ذلك إلى إفراز العديد من القضايا والمشاكل التي عانت منها الأسر كثيراً.

كان العديد يتحجج بكثرة مشاغله، وامتلاء يومه وضِيق وقته؛ مما لا يسمح له بإنجاز كثيرٍ من أهدافه، وإنهاء كثير من مشاريعه التربوية والثقافية التي غطاها غبار الزمن، ناهيك عن مسؤولياته الأسرية والاجتماعية.

ربما أكون منصفاً إن قلت: لقد سرقتنا أعمالنا من أُسَرِنَا وها هي "محنة كورونا" تتحوّل إلى منحةٍ أعادت الأسرة إلى وضعها الطبيعي، ولكن هذا ليس بالأمر السهل الذي قد نتخيله؛ فقد يعاني الكثير من أفراد الأسر من هذا الوضع نتيجة عدم تعودهم عليه، وربما تواجههم بعض الصعوبات، ومن أبرزها:

يتعود كثيرٌ من الآباء على قضاء وقتٍ أطول خارج إطار الأسرة، وهنالك ألِفَ الكثيرَ من الوجوه التي يتعامل معها يومياً، مما أشعره بغربةٍ -إن صحّ التعبير- في أثناء مكوثه في البيت؛ ما جعله منكمشاً على نفسه.

إدمان الكثير من أفراد الأسرة الخروج مع الأصدقاء والتسوّق والترفيه خارج إطار الأسرة، لذا بات مكوثه في البيت تقييداً لحريته التي اعتادها، فنتجَ عن هذا التعوّد أعراضاً انسحابيّة نتيجة إدمان الخروج، مثل: تقلبات المزاج، والتذمر، وكثرة شكوى، وعدم تقبل الوضع، والملل.

معاناة كثير من الآباء من الأولاد منزعجاً من صراخهم ولعبهم. شكوى بعض الزوجات من تدخل الأزواج في كلّ صغيرةٍ وكبيرةٍ في البيت وانتقاداته المتكررة.

هذه بعض الإشكالات التي تَلَمَّسْتُهَا من الأُسَر، ولكنَّها ما لبثت طويلاً إلا وبدأت في أغلبها بالتلاشي، وبدأت الأسرة تأخذ وضعها الطبيعي في التأقلم على الوضع الجديد، وبدأ أفراد الأسرة في تجديد روابط الألفة فيما بينهم.

وإنَّه لمن الجميل أن تعود الأسرة في ظلّ هذه الأوضاع الراهنة إلى طبيعتها فتنتظم شؤونها، وتعيد ترتيب أوراقها وتعيش هذه الأوقات -التي يراها البعض بأنَّها أوقاتٌ عصيبة- بكلّ لحظاتها بما يعود عليها بالمردود الإيجابي.

أفكار لتحويل محنة كورونا إلى منحة:

وهنا بعض الأفكار لإنعاش الأسرة وإخراجها من دائرة الخوف والقلق من الوباء، والملل من الحجر الصحي؛ وجعلها أسرة فاعلة تعيش اللحظة بكلّ إيجابياتها:

اعلم عزيزي الأب أنَّه قد أخذتك المشاغل عن أسرتك فأصبحت لا تعطيهم من وقتك إلا الشيء القليل، فها هي الفرصة قد أتتك لتعطي كلّ وقتك لأسرتك، فامنحها عقلك وروحك وحبك وحنانك، لا جسدك فحسب، وكن ذلك الأب الذي تَمَنَّوْهُ في أثناء غيابك وانشغالك عنهم.

أَخرِج ذلك الطفل المدفون بداخلك وأطلق له العنان ليلعب معهم.

على الأم والأب مسؤولية حماية الأسرة، لذا يجب عليهما تعزيز وسائل الوقاية لدى أفرادها بدءاً بالوسائل الروحية -مثل المحافظة على الصلوات، وقراءة أذكار الصباح والمساء وتعليمهم إيَّاها- ثم الوسائل الأخرى التي تدعوا الجهات المعنية لاتباعها.

أدركوا أنَّ لغة التذمر والتململ ليست مجدية، لذلك يجب استبدالها بلغة التفاؤل واليقين بأن فرج الله آتٍ لا محالة، واستشعار المخزون الهائل من النعم التي أودعنا الله إياها ونحن لا نشعر بها.

هذه الفترة فرصةٌ عظيمة لقراءة الكتب، وتعلّم مهارات جديدة، والتفرغ للجلوس مع الأسرة بعيداً عن وسائل التواصل الاجتماعي.

ليكن للأسرة جدول يومي حافل بالأنشطة شريطة أن يشارك جميع أفراد الأسرة فيها، وليكن في مقدمتها صلاة الأسرة جماعةً في المصلى الذي حُدِّدَ في ركنٍ من أركانِ المنزل.

ضعوا ورقةً على الحائط بها عددٌ من الأهداف المطلوب تحقيقها خلال هذه الفترة، ولتكن مثلاً: حفظ سورة -أو سور- من القرآن. قراءة مجموعةٍ من الكتب (تناسب اهتمامات أفراد الأسرة وميولهم).

توحيد وقت النوم والاستيقاظ لكافة أفراد الأسرة. والقائمة تطول... تعيش بعض الأُسَر حالةً من الانفصال العاطفي، والتمرّد السلوكي والتربوي، وشروخاً في العلاقات بين أفرادها، وفي هذه الفترة الراهنة فرصةٌ عظيمةٌ لترميم تلك العلاقات وإعادة "دماء الحب" إلى تلك العروق التي تيبّست وجفَّت؛ لعلّ القلوب تصفوا وتتصافح وتتصالح {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] وتتغير أحوال الأسرة وتصبح محنةُ كورونا منحةً عظيمةً لكلّ أسرة، فيتحول العسر إلى يسر {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}[الطلاق: 7].

كورونا وإن أرعب العالم يتحرّك بأمر الله، ولعلَّ فيه من الخير الشيء الكثير بإذنه جلَّ وَعَلَى، فلعله رسالةٌ من الله إلينا لنجدد الإيمان في قلوبنا ونُمحِّصَ في سيئاتنا، ومنافع اجتماعية وتربوية وأخرى لا يعلمها الا الله. نسأل الله أن يزيل عن الأمة غُمَّتَها، ويرفع البلاء عن العالم أجمع.