الاعتذار للأعذار
قال الله عز وجل في سورة النور، أنار الله قلبك: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)} [ النور:62].
جاء في التفسير أنها نزلت في غزوة الخندق، حين تألب الأحزاب على المسلمين، فأقرَّ النبي صلى الله عليه وسلم فكرة سلمان الإبداعية في حفر الخندق، وبدأ التحدي حين قطع النبي صلى الله عليه وسلم لكل عشرة من الصحابة حفر أربعين ذراعًا، ليستمر العمل شهرًا كاملًا، وكان العمل شاقًا في شدة جوع، وقلة زاد، ورعب زلزل الأفئدة، وتسابقٍ مع الزمن قبل أن يصل الأحزاب المدينة، وإلا فشلت الخطة من الأساس، وفي خضم هذه المشغلة النفسانية العنيفة كان البعض يتسلل إلى بيته بغير إذن النبي صلى الله عليه وسلم، تاركينه وأصحابه يحفرون! فنزلت هذه الآية، وأمرهم الله أن يستأذنوا؛ ليكون الاستئذان علامة فارقة بين المؤمنين الصادقين والمنافقين المتخاذلين.
والعجيب في الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم أُمِر بالاستغفار لمن استأذن مع كونه صاحب عذر!! فكيف بمن تخلف دون استئذان ولعله بغير عذر؟!
إنها تربية الصف المؤمن على أن يراجع كل منا نفسه، فكلُّ تخلفٍ عن فرصةِ خيرٍ هو في حقيقته حرمان من شرف خدمة الدين، ولعله كان عقوبة على ذنب سلف أو تقصير فرط، أو لعله بعذر غير قاهر كان يمكن التغلب عليه، وكل هذا يوجب الاستغفار، قال الألوسي وغيره: «فإن الاستئذان وإن كان لعذر قوي لا يخلو عن شائبة تقديم أمر الدنيا على أمر الآخرة»(1).
لوضوح المعنى فقد رأى الإمام الرازي نفس الأنوار الساطعة حين قال: «أن يستغفر لهم تنبيهًا على أن الأولى ألَّا يقع الاستئذان منهم وإن أذِن؛ لأن الاستغفار يدل على الذنب»(2).
وفارق شاسع، يا إخوتاه، بين من تخلَّف عن فرصةِ خيرٍ فتألم وتفطَّر قلبه، وزاره الأرق بالليل فخرَّ مستغفرًا، وآخر تخلف دون أن يشعر بشيء، أو قائمة أعذاره سابقة التجهيز، الأول ينال أجره كاملًا غير منقوص، والثاني لا شيء له بل عليه!
الأول فرد في طائفة: «إن بالمدينة أقوامًا ما سِرتُم مسيرًا، ولا أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم فيه وهم بالمدينة، حبسهم العذر»(3).
أما الثاني عضو في فريق: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46].
وإن كانت هذه الآية خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن ذلك يصلح أن ينسحب على غيره ممن تولى مسئولية أو إمارة دعوية لا نهضة للإسلام اليوم إلا بها، ولهذا قال الحسن: «وغير الرسول صلى الله عليه وسلم من الأئمة مثله في ذلك؛ لما فيه من أدب الدين وأدب النفس»(4).
ومن هنا ذهب الطاهر بن عاشور إلى استنباط هذه القاعدة الإدارية الهامة، فقال في ألفاظ سالت حروفها من العسل: «وهذه الآية أصل من نظام الجماعات في مصالح الأمة؛ لأن من السنة أن يكون لكل اجتماع إمام ورئيس يدير أمر ذلك الاجتماع، ومن السُنَّة ألا يجتمع جماعة إلا أمَّروا عليهم أميرًا، فالذي يترأس الجمع هو قائم مقام ولي أمر المسلمين، فهو في مقام النبي صلى الله عليه وسلم، فلا ينصرف أحد عن اجتماعه إلا بعد أن يستأذنه؛ لأنه لو جعل أمر الانسلال لشهوة الحاضر لكان ذريعة لانفضاض الاجتماعات دون حصول الفائدة التي جُمعت لأجلها».
بئست التركة!
إن كثرة الاعتذارات هي ميراث أهل النفاق، وفي نظر صاحب الرسالة هي نذير خطر داهم يقترب، أو هي بمثابة قمة جبل الجليد الذي يظهر مقدار عُشره على سطح الماء بينما يختفي تسعة أعشاره في القاع، وكذلك كثير الأعذار لا يظهر من عيوبه إلا العُشر، وتسعة أعشار مساويه متوارٍ، ويظل الشيطان يقتات على البقية الصالحة من قلبه؛ لتظل عيوبه تتوالد مع تتابع تخلفاته، وسيئاته تتكاثر بتوالي اعتذاراته، حتى يصل إلى النهاية الحتمية المؤسفة: تفتر همته الدعوية، وتبرد عزيمته الإيمانية، فيقعد عن السير مع القافلة المباركة، فإذا أفتاك الشيطان، يا أخي، بالتخلف يومًا مقدِّما سلة الأعذار الجاهزة فاطرده قائلًا: التمس رزقك في غير هنا، فقد كشفنا حيلتك وفضحنا خطتك يا ملعون.
وبرميل العسل يشهد!
وهو ما يذكِّرني بالقصة الرمزية التي تحكي عن قرية فقيرة قرَّر الأمير أن يزورها، فقرر أهلها أن يُهدوا للأمير برميلًا من العسل، واتفقوا أن يضع كل واحد منهم قطرة عسل في البرميل ليشتركوا في شرف إكرام الضيف الكبير، وبتوالي القطرات تكتمل المهمة، وعندما عاد كلٌّ منهم إلى بيته فكَّر أحدهم في أن يجعل مكان قطرة العسل قطرة ماء، وماذا تفعل قطرة الماء في برميل العسل الضخم؟! وماذا عساه يحصل إن اتخذ (وحده) هذه الخطوة؟! وما الضرر إن فكَّر في (نفسه) قليلًا وتحرَّر من بعض الواجب؟! خاصة أن أحدًا لن يراه في ظلمة الليل حين يستبدل هذا بذاك، فلا الضرر سيقع ولا السرُّ سينكشف!!
ومر الليل، وأدى كل واحد من أهل القرية ما عليه، وعندما طلع الصباح، وفُتِح البرميل، وجد الأمير أمامه برميل ماء، دون أن يعثر على قطرة عسل واحدة!!
الكل فكر نفس التفكير، واعتمد على غيره في إنجاز المهمة، والنتيجة: الفضيحة!!
إخوتي .. أخواتي، إذا فكر عمود من أعمدة البناء في أن يميل قليلًا تُرى ماذا تكون النتيجة؟ ألا يسقط البناء على الكل.
ليس الأمر هنا أمر جنود وقادة، ولا ساقة وسادة؛ بل الكل اليوم على هرم المسئولية، وأي مستريح عن واجبه الدعوي اليوم يلقي في روع إخوانه، من حيث لا يشعر، أن الراحة سائغة، والسكون مقبول، والغفلة طبيعية، فيغري غيره بالتخلف، ويبث الوهن في القلوب لينال بذلك ما لا يتوقع من الذنوب.
_____________
(1) روح المعاني، للألوسي (18/ 224)، ط. دار إحياء التراث العربي.
(2) مفاتيح الغيب (11/ 378).
(3) مفاتيح الغيب (11/ 378).
(4) صحيح: رواه البخاري، وأحمد، وأبو داود، وابن ماجه عن أنس، كما في صحيح الجامع رقم (2036).
موقع الدكتور خالد أبو شادي