مفاهيم صححها النبي صلى الله عليه وسلم .. المال الباقي
تصحيح المفاهيم وتصويبها، لتصبح موائمة ومتوافقة مع دين الله الحق، هي إحدى مهام المصطفى صلى الله عليه وسلم، وإحداث نوع من التبديل والتغيير في التصورات الخاطئة الراسخة في أذهان الصحابة الكرام، ومن بعدهم المسلمين، فيما يتعلق ببعض المواضيع والمسائل الحياتية، لتصير منضبطة بضوابط الإسلام، هي في الحقيقة جزء لا يتجزأ من واجب التبليغ، الملقى على عاتق الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم تجاه رسالة ربه ومولاه.
والحقيقة أن خطورة بقاء المفاهيم الخاطئة في الأذهان، واستقرارها في العقول والأفئدة تأتي من ثمارها المرة ونتائجها السلبية، التي يترجمها السلوك وتجسدها التصرفات، فمن المعلوم أن مصدر الأفعال ومنبع السلوك هي التصورات والمفاهيم، فبالقدر الذي تكون فيه المفاهيم صحيحة والتصورات دقيقة تكون السلوكيات والتصرفات إيجابية، والعكس صحيح.
من هنا كان اهتمام الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بتصحيح بعض المفاهيم غير السوية، التي بقيت عالقة في أذهان أصحابه من ميراث عهد الجاهلية وفترة ما قبل دخولهم واعتناقهم الإسلام، وبتصويب بعض التصورات التي لم تعد تتناسب مع تعاليم ومفاهيم دين الله الخاتم.
المفهوم الذي صححه الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا المقال يتناول موضوعًا يتعلق بالمال، الذي يحبه الإنسان حبًا جمًا بطبعه، كما وصف الله تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)} [الفجر:20]، ويسعى سعيًا حثيثًا لجمعه، ومن ثم اكتنازه والاستئثار به، وعدم التفريط بدرهم منه أو دينار, على اعتبار أن إنفاق شيء منه يذهبه ويفنيه، بينما إمساك اليد يبقيه ويحفظه.
ففي الحديث عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنهم ذبحوا شاةً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما بقي منها؟» قالت: «ما بقي منها إلا كتفها»، فقال صلى الله عليه وسلم مصححًا وموجهًا: «بقي كلها غير كتفها» [سنن الترمذي، برقم (2470)، وصححه الألباني].
بداية لا بد من التنويه بأن سؤال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما بقي منها؟» يحمل في ثناياه بوادر الإرشاد والتوجيه، فصيغة السؤال تشير إلى علم النبي صلى الله عليه وسلم المسبق بإنفاق أهل بيته من الشاة المذبوحة، وربما كان ذلك بأمر منه صلى الله عليه وسلم، وأن جواب السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها حين قالت: «ما بقي منها إلا كتفها» كان نابعًا من الفهم السائد للمال الباقي المتداول والمعروف لدى عامة الناس، ألا وهو المال المتروك في البيت، الذي لم يتم إنفاقه أو التصدق به للغير.
هنا يأتي التصحيح النبوي لهذا المفهوم الخاطئ السائد، الذي يعتبر ما بقي من المال هو الذي لم يتم إنفاقه في أوجه الخير وبقي في حوزة صاحبه ويد مكتسبه، في الوقت الذي يظن فيه أن المال الذي استقر في يد الفقير والمسكين وذا الحاجة هو مال ذاهب وفانٍ ومفقود.
لقد أرشدت الكثير من آيات كتاب الله تعالى، وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى حقيقة أن المال الباقي في دين الله الإسلام هو المال الذي ينفقه صاحبه في طاعة الله يرجو به المثوبة والأجر والثواب، وأن المال الفاني هو ذلك الذي ينفقه الإنسان على نفسه في المباحات بغير تلك النية.
قال تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ...} [النحل:96]، وفي الحديث عن الحارث بن سويد قال عبد الله: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟!»، قالوا يا رسول الله: «ما منا أحد إلا ماله أحب إليه»، قال صلى الله عليه وسلم: «فإن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخر» [صحيح البخاري، برقم (6442)].
وفي حديث آخر عن قتادة عن مطرف عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} قال: «يقول ابن آدم: مالي مالي، قال، وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت» [صحيح مسلم، برقم (7609)].
إن اعتقاد المسلم بهذه الحقيقة، التي بينها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ويقينه بأن ما أخرجه من ماله في أوجه البر، وسد حاجة الفقير والمسكين ابتغاء رضوان الله والتزامًا بأمره سبحانه، هو المال الباقي على وجه الحقيقة، وأن ما حبسه من ماله واكتنزه أو أنفقه على المأكل والمشرب والملبس هو الذي يذهب ويفنى، سيدفع المؤمن، بلا شك، إلى البذل والعطاء والإنفاق، والبعد عن البخل والشح والإمساك.
ختامًا لا بد من ملاحظة أن النفقة الواجبة على المسلم، تجاه من يعول من أسرته وأهل بيته، لا ينبغي التهاون بها أو التقليل منها إلى درجة التقتير أو عدم سد الحاجة بدعوى أن ما أنفقه المسلم خير له مما أمسكه، فهناك الكثير من الأحاديث النبوية التي تكشف عن عظيم أجر وثواب من ينفق على عياله وأهله النفقة المفروضة عليه، لعل أبرزها حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك» [صحيح مسلم، برقم (2358)].
موقع: المسلم