logo

مفهوم الفكر


بتاريخ : الاثنين ، 12 ذو الحجة ، 1435 الموافق 06 أكتوبر 2014
بقلم : ا.د. طه جابر العلواني
مفهوم الفكر

معنى الفكر وحقيقته:

 

مفهوم الفكر:

 

مفهوم شائع متداول يردده الكثيرون مفردًا وموصوفًا ومضافًا، وقد ورد هذا المفهوم في كتاب الله بألفاظ عديدة، يغلب أن تكون من الأفعال (يتفكرون، تتفكرون، فكَّر)، والمعنيون ببيان المقصود بألفاظ القرآن حين يجمّعون الآيات التي ورد فيها هذا المفهوم يجدون القدر المشترك بينها: أنه قوة منحها الله تعالى الإنسان، وكرمه بها، وفضله بها، وميزه على بقية الموجودات ليتمكن من مهام الاستخلاف.

 

فالتفكير يعين الإنسان على أن ينتقل من مجموع ما علمه إلى المعلومات التي يجهلها، بحسب نظر العقل في الأنفس والآفاق وآلاء الله ونعمه.

 

والفكر توليد لأفكار عن أفكار، قامت لها في عقل الإنسان أو فطرته صور ينطلق منها في توليد أفكار ترسم صورًا، وتوجد تصورات لما يجهله، قال جل شأنه: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8)} [الروم:8]، وقال جل شأنه: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)} [الأعراف:184]، وقال تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)} [الرعد:3]، وقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)} [الروم:21]، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)} [الزمر:42]، وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)} [الجاثية:13]. ويقول جل شأنه: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)} [البقرة:219].

 

ويرى البعض أن الفكر مقلوب عن (الفرك)، فيستعمل الفكر في المعاني؛ وهو فرك الأمور وبحثها طلبًا للوصول إلى حقيقتها.

 

ويسوي المتكلمون بين الفكر والنظر، ويرى بعضهم أنهما مترادفان أو شبه مترادفين، ويتحدثون كثيرًا عما يفيده النظر والفكر؛ أيفيد العلم؟ كما هو مذهب الجمهور، أو يفيد الظن؟ والتحقيق أنه يفيد الظن، وبعضه قد يفيد العلم إذا توافرت له شروط إفادة ذلك، وكان نظرًا أو فكرًا في القطعيات، وقد حدد الإمام فخر الدين الرازي في كتابه (نهاية العقول) أن النظر (الفكر) يجب أن يتضمن مجموع علوم أربعة ليكون علميًا:

 

الأول: العلم بالمقدمات المرتبة.

الثاني: العلم بصحة ترتيبها.

الثالث: العلم بلزوم المطلوب عن تلك المقدمات المعلومة صحتها وصحة ترتيبها.

الرابع: أن ما علم لزومه عن تلك المقدمات كان صحيحًا.

وتكلموا كثيرًا في قضايا (النظر والفكر)، ومقدمات (النظر والفكر) وما ينتج عنها، تجد ذلك في مظانه من كتبهم، فتجد ذلك عند الغزالي، والجويني، والرازي، والآمدي، والإيجي، وكثير غيرهم.

 

والمادة اللغوية (للفكر) فيها الكثير من المعاني التي نبه القرآن المجيد إليها؛ لكن التعبير القرآني بصيغة الفعل لا بصيغة الاسم أو المصدر؛ لأن الفعل يدل على الحدث والذات الفاعلة له معًا، فإذا قيل: (فكّر)؛ دلت على الحدث الذي هو التفكير، وعلى فاعله، ألا وهو المفكر، فلا ينفصل المفكر عن التفكير ولا ينفك عنه، ولا ينفصل الحدث، الذي هو الفكر، عن المفكر، فما دام هناك فكر فهناك حدث وراء ظهوره، وما دام هناك فكر وحدث فهناك مفكر قام به فعل التفكير، وهناك حدث واقع دفع للقيام به.

 

إن هذا الذي نسميه بالفكر هو خاصة من خواص الإنسان، لا يشترك معه فيه أي مخلوق آخر، ولا يطلق (الفكر) إلا على العمليات الذهنية التي يقوم بها الإنسان، أما الحيوانات فحتى المظاهر التي تشبه عملية الفكر لدى الإنسان لا تسمى فكرًا، وإنما تسمى التوجيه الغريزي، والمناطقة الأقدمون يفسرون الإنسان فيعرفونه بأنه حيوان ناطق؛ أي: مفكر، أما بقية الحيوانات فلها التوجيه الغريزي ونحوه، وهو الذي يقابل الفكر والذهن والقوى العاقلة عندها.

 

وقد اهتم علماؤنا بتفسير الفكر وتعريفه، وبيان حقيقته ومعناه، وإن أهمله المعاصرون إلى حدٍ كبير.

 

وللكلام عن حقيقة الفكر، وبيان ما يدخل تحته وما لا يندرج تحته، وجدت أن كثيرًا من علمائنا الأقدمين، من القرن الثالث الهجري الذي بدأت علومنا تتبلور فيه، والقرن الرابع الذي ازدهر فيه تدوين هذه العلوم، وجدت كثيرين منهم قد تكلموا في هذا الأمر وتناولوه بالشرح والبيان، وعرفوا هذا الاصطلاح وكتبوا فيه كثيرًا.

 

فبعض المراجع وجدت فيه ما يقرب من مائة صفحة تتحدث عن الفكر ومواصفاته وشروطه، وبعض المصادر وجدت فيها أكثر من هذا، ولكن بطبيعة الحال طبيعة مصادرنا مختلفة، وكتبنا الدراسية لها وضعها وطريقتها في التناول، فتجد بيان وتعريف هذا المصطلح أحيانًا في كتب التصوف، وتجده في كتب اللغة، وتجده في كتب الفلسفة، وفي كتب علم الكلام، وفي كتب الأصوليين.

 

فعند كل هؤلاء، وفي موسوعات هذه العلوم، نجد كلامًا كثيرًا عن الفكر ومرادفاته وشروطه وتنوعه، لا أريد أن أطيل فيها، ولا أريد أن أدخل في تفاصيلها، ولكني أستطيع أن أقول: إنني خرجت، من خلال دراستي لما ورد في هذه المصادر، بأن الفكر: اسم لعملية تردد القوى العاقلة المفكرة في الإنسان، سواء أكان قلبًا أو روحًا أو ذهنًا، بالنظر والتدبر، لطلب المعاني المجهولة من الأمور المعلومة، أو الوصول إلى الأحكام، أو النسب بين الأشياء.

 

ويزيد في إيضاح هذا المعنى ما أورده الأمام أبو حامد الغزالي حيث قال: «اعلم أن الفكر هو إحضار معرفتين في القلب ليستخرج منهما معرفة ثالثة»، كأنه يريد أن يقول: إنه تهيئة مقدمتين ليصل من المقدمتين إلى النتيجة؛ كأن أقول {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} إذا أردت أن أحولها إلى قضية فكرية أقول: (أقيموا الصلاة) أمر، وهذه مقدمة، فعل (أقيموا) في اللغة فعل أمر، وكل أمر من الخالق سبحانه وتعالى لعباده فهو واجب، المقدمة الأولى دليلها لغوي، وهو فعل الأمر، والمقدمة الثانية دليلها أصولي، والأمر واجب التنفيذ، فالصلاة واجبة؛ هذا الشيء الثالث.

 

حينما لا يعرف الإنسان مثلًا حكم الصلاة؛ أهي واجبة أو سنّة؟ أقول: صلاة الضحى صلاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتركها، هذه المقدمة دليلها تاريخي، يقتضي تتبع أفعال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكل ما فعله وتركه فإنما هو من قبيل السنة لا الفرض، فصلاة الضحى سنة، توصلت إذًا إلى القضية الثالثة.

 

فدائمًا تحضر مقدمتين أو أكثر، في بعض المعارف، لتتوصل من المقدمات المعلومات لديك إلى ما يسمى بالنتيجة أو المقدمة الثالثة، هذا العمل هو فكر.

 

القرآن الكريم، كما قلت، ربط الفكر بالحركة لينبهنا إلى أنه لا يحض على ذلك الفكر الكسول المتعطل، فالفكر من أجل الفكر لا يؤدي إلى نفع دنيوي أو أخروي ولا محل له؛ لأنه لا بد أن نفكر من أجل أن نصل إلى شيء، إما في أمور دنيانا أو في أمور أخرانا، أما الفكر من أجل الفكر، أما الفكر بمعنى الهيمان وراء أخيلة، وراء شيء غير مبني على مقدمات حقيقية، لها مستندها ولها دليلها، فهو نوع من التخيل وليس بتفكير.

 

وللأقدمين كلام طويل جدًا للتفريق بين الفكر وبين التخيل وبين التدبر وبين التذكر، لها مواضع بحثها عند أهل العلم.

_____________

المصدر: موقع الدكتور طه جابر العلواني.