logo

كيف ننظر إلى تاريخنا؟


بتاريخ : السبت ، 27 رجب ، 1436 الموافق 16 مايو 2015
بقلم : د. محمد العبدة
كيف ننظر إلى تاريخنا؟

ليس هناك عاقل يدعو أمته إلى تناسي أو إهمال تاريخها؛ لأن الذييفقد التاريخ يفقد ذاكرته، ويعيش بلا ماض ولا يتهيأ لمستقبل، هناك أمم تبحثلها عن تاريخ ليكون لها شخصية وهوية، بينما نرى بعض المتغربين عندنايحاولون

تحطيم تاريخنا بالبحث عن المثالب حتى لشخصيات عظيمة كخالد بنالوليد - رضي الله عنه - وصلاح الدين الأيوبي، وإذا كان هناك أخطاء وقعتوتقع دائماً فهذا تاريخ بشر يخطئون ويصيبون، وهذه الأخطاء لها أمثال فيأرقى الأمم من غير المسلمين.

التاريخ ليس علماً كالفيزياءوالرياضيات، ولذلك فمجال الدس والتحريف والتشويه فيه كبير، وهناك أناسيختبئون وراء (المعاصرة) والحداثة لاغتيال التاريخ والعدوان على التراثوعلى الكتب وعلى الأبطال. الذي يريد أن يجر التاريخ إلى اعتقاده الخاص أوفكره الخاص فإنه يستطيع على ذلك بالتأويل الفاسد واعتماد الروايات الضعيفةوالمرذولة.

هناك فئات تسمي نفسها (ثورية) تعتبر القرامطة حركة احتجاجوثورة، بينما هم في الواقع مخربون باطنيون قتلوا المسلمين حول الكعبة،والذي يعتنق الفكر اليساري يعتبر أبا ذر - رضي الله عنه - اشتراكياً؛ وهذاتشويش وتأويل فاسد؛ فليس من الإنصاف أن تلبس شخصيات في التاريخ مذهبك الذيتفكر فيه في هذا العصر وهم لم يخطر على بالهم هذه الآراء الحديثة.

 

التاريخ السياسي والتاريخ الحضاري:

دأب كثير ممن يكتبون التاريخ أو ينظرون في التاريخ أن يولوا اهتمامهمإلى الجانب السياسي منه، فيسردون تعاقب الدول والتعريف بالخلفاء والملوك،وما جرى في أيامهم من حوادث سياسية أيضاً، والناظر لهذا الجانب سيرى قمماًوسفوحاً ومنحدرات، وسيرى فيه عدلاً ورحمة وكذلك إسرافاً وظلماً، وسيرىملوكاً صالحين مجاهدين وآخرين أصحاب أهواء وترف وسفك للدماء، والذي يكتفيبهذه الصورة سيسأل نفسه: هل يعقل أن يكون تاريخ المسلمين كله على هذهالشاكلة؟

والحقيقة أن الذي يركز على الجانب السياسي دون الجانبالحضاري فإنه يُفقِد التاريخ الإسلامي جوهره ويعطل دوره، وهذا التركيز يوميبشكل غير مباشر إلى إعطاء الأهمية للجانب السياسي على الجانب الحضاري. وقدشبه بعض المؤرخين التاريخ بالنهر الجاري فيه دماء وأشلاء والناس ينظرونإلى النهر ولا ينظرون إلى ضفافه وما عليها من حضارات وقيم أخلاقية وعلاقاتاجتماعية وعلم وعمارة.

الجانب الحضاري في التاريخ الإسلامي بارزجداً، بل نلاحظ ازدهار العلم حتى في أحلك الظروف السياسية، وفي فترات الضعفوالتجزؤ، والسبب في ذلك هو أن العلم هنا مرتبط بالدين؛ فالعلماء بشتىأصناف العلم يقومون بواجبهم تديناً، لا يريدون جزاء من الدولة أو من الناس.سنجد في العصور المتأخرة نسبياً، أمثال: ابن تيمية وابن خلدون، وسنجد ابنالنفيس (في الطب) وابن البيطار (علم النبات) وسنجد في القرن العاشر أمثالابن ماجد (علوم البحر) وفي القرن الحادي عشر داود الأنطاكي (علم الصيدلة).فالتاريخ الإسلامي ليس تاريخاً سياسياً فقط، بل هو تاريخ علماء ورجال، آلافالعلماء والأدباء والمؤرخين سنجدهم في كتب الطبقات.

أمثلة من الجانب الحضاري:

-1المدارس سواء كانت في المراحل الأولى أو المتقدمة، كانت منتشرة في كلالعالم الإسلامي، وكانت أهلية تنفق عليها الأوقاف الكثيرة التي يوقفهاالمحسنون على العلم وطلبة العلم وكانت تكفي لإعانة كل ما تتطلبه المدارس مننفقات وما يحتاجه الطلبة من سكن أو كتب.

-2الأوقاف المتنوعة والكثيرة، حتى إنها تجاوزت الإنسان ووصلت إلى أن يكون هناك وقف على الحيوانات العاجزة أو التي تركها أصحابها.

 

-3الطب المتقدم جداً، سواء من حيث البحوث والمؤلفات أو من حيث طرق المعالجة والمستشفيات الكبيرة التي تتكفل بالعلاج والدواء.

 

-4بناء المدن، وقد بني في تاريخ الحضارة الإسلامية أكثر من ثلاثمائةمدينة أكثرها باق حتى الآن، والذي بدأ بهذا المشروع هو الخليفة العبقري عمربن الخطاب - رضي الله عنه .

-5المكتبات: العامة والخاصة، ومنالأمثلة التي قد يستغربها الإنسان أن مكتبة الأمير الحكم بن عبد الرحمنالناصر الأموي الأندلسي بلغت أربعمائة ألف مجلد، وكانت أكثر بيوت المسلمينفي الأندلس فيها مكتبة صغيرة أو كبيرة، وعندما تملك الأسبان وخرج المسلمونمن الأندلس أحرق الطاغية (فرديناند) في ساحة غرناطة حوالي مليونين منالمخطوطات التي خلفها المسلمون؟!

-6المرأة والعلم: من يقرأ كتبالطبقات سيجد دائماً ذكر لعالمات شهيرات في الفقه أو الحديث أو الوعظ، وقدذكرت كتب التاريخ أن في حي من أحياء قرطبة كان مئة وسبعون امرأة يكتبنالمصاحف، هذا في حي واحد؛ فكيف بقرطبة كلها؟

-7الحضارة الإسلاميةحضارة غير استعمارية(1) فلم تنهب خيرات الشعوب الأخرى وتكدسها لصالح فئةمعينة، ولم تبن الآثار الضخمة كما يفعل الفراعنة والأكاسرة والقياصرة،الذين يستخدمون نظام (السخرة) للشعوب المظلومة التي تحت أيديهم؛ فالسخرةمحظورة في شريعة الإسلام.

 

التاريخ السياسي والأمة:

مع التمزقالسياسي في بعض الفترات إلا أن الأمة بقيت موحدة اجتماعياً وسياسياً، فكانمن الطبيعي أن العالم أو أي مسلم يستطيع الانتقال إلى أي بلد يريده ويقيمفيه وله جميع الحقوق. فليس هناك حدود ولا جوازات ولا تأشيرات (وهذه من بدعالدولة القومية التي نشأت في الغرب) وليس هناك حواجز اجتماعية بسبب العرقأو اللون أو الأصل الطبقي، وفي ظل هذه الحضارة وصل المماليك إلى أعلى درجاتالسلطة، وقد حافظ الفرد في هذه الحضارة على القيم الإسلامية، وهذا مماساعد مشاريع النهضة ومقاومة الاستعمار في العصر الحديث.

وإذا كانمبدأ الشورى قد عُطل بعد الخلفاء الراشدين لكنه بقي حراً في نطاق الفقهوالاجتهاد، وبقيت وحدة الأمة وسيادة الشريعة واستقلال الفقه واستقلال الأمةعن السيطرة الأجنبية.

وإذا كان مبدأ الشورى قد عطل إلا أن الحكامكانوا مقيدين بالشريعة، وقد جاء في الحديث: «لا يزال هذا الدين قائماً حتىيكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم تجتمع عليه الأمة، كلهم من قريش» وقد فسرالمؤرخ ابن كثير هذا الحديث بأن هذا العدد متفرق في بني أمية وبني العباس.مثل معاوية وعبد الملك وهشام والمنصور والرشيد، يقول المؤرخ الأمريكي (ولديورانت): «لايسعنا إلا أن نسلم بأن الخلفاء من أبي بكر إلى المأمون قدوضعوا النظم الصالحة الموفقة للحياة الإنسانية في رقعة واسعة من العالم».

 

مقارنة مع تاريخ الغرب:

إن الذين ينظرون إلى تاريخنا السياسي ويذكرون ما فيه من سلبيات، هؤلاءينظرون إلى تاريخ الغرب مجملاً كالذي ينظر إلى الجبل من بعيد فلا يرى إلاالقمم أو كالذي ينظر إلى القمر من بعيد، وهكذا يذكرون شخصيات مثل نابليونأو بسمارك، وتشرشل وأدباء ومكتشفين.. ونحن ننظر إلى تاريخنا من قريببتفاصيله، فنرى الأخاديد والسهول والوديان والقمم. هؤلاء المعجبون بتاريخالغرب لا يعلمون أن ألمانيا قبل مئة عام كانت مقسمة إلى (39) دولة ولايعلمون عن حروب الثلاثين وحروب السبعين عاماً في أوروبا، هذا عدا عن الحربالعالمية الأولى والحرب العالمية الثانية.

في أوروبا القرن السابععشر كان فيلسوف السياسة (لوك) يقول: «للحاكم المدني سلطة مطلقة على كلأفعال الناس، وعليهم أن يطيعوا القوانين التي يسنها الحاكم حتى لو كانتخاطئة، ولا يحق لهم أن يضعوا موضع التساؤل عدالة أوامره..»(2).

الغربلا يتدخل في الخصوصيات، في الحياة الخاصة للرئيس أو العالم، فالكُتَّابيرسمون صوراً زاهية للقادة لما قدموه من خدمات، فيأتي تاريخهم وكأنه كلهبطولات، ولكن بعد وفاتهم تظهر الفضائح سواء في مذكراتهم أو في ما يكتبعنهم. ونحن في تقويمنا للأعلام نهتم بعقيدتهم وأخلاقهم كما نهتم بأعمالهم.

 

لا أحد ينتقد الغرب إذا رجع إلى الماضي (أفلاطون، دانتي، توماالأكويني..) ولكن إذا رجعنا إلى تاريخنا نستنطقه ونحلله يقال عنا: ماضويينسلفيين... تقدسون الماضي ولا تعيشون الحاضر، فهل الرجوع إلى الماضي حلالعلى الغربيين حرام علينا؟

-------------------------
الهوامش:
(1) نستعمل هنا كلمة (استعمار) بالمصطلح المعاصر الذي توصف به الحضارة الأوربية، وليس الاستعمار بالمعنى القرآني.
(2) لوك: رسالة في التسامح/ 42.

موقع المسلم