logo

مِنْ فقه الأولويات


بتاريخ : الثلاثاء ، 22 ربيع الأول ، 1436 الموافق 13 يناير 2015
بقلم : عمر بن عبد المجيد البيانوني
مِنْ فقه الأولويات

إن من الأهمية البالغة لكل مسلم أن ينضبط عنده ميزان الأولويات بشكل منطقيوصحيح؛ حتى لا يقدِّم المهم على الأهم، أو يحرص على المفضول ويترك الفاضل؛ كمنيحرص على أداء بعض النوافل والمستحبات ويُفَرِّط في أداء

الفرائض والواجبات، أويتساهل في فعل المحرمات، وكان ابن عمر يقول لأهل العراق: ما أسْألَكم عنالصغيرة وأجرأكم على الكبيرة، تقتلون الحسين ابن بنت رسول الله صلى الله عليهوسلم وتسألون عن دم البعوضة.

والذين يجلدون الإمام أحمد بن حنبل كانوا يسألونه عن الدم الذي ينضح علىثيابهم، وكانوا ينتقدونه على أن يصلي وهو جالس والقيد في يديه وفي رجليه.

وكالذي سأل شيخًا وقال: إني زنيت وصارت المرأة حاملًا من الزنا فماذا أصنع؟فقال له الشيخ: ولماذا جعلت المصيبة مصيبتين، لماذا لم تعزل؟ فقال: بلغني أنالعزل مكروه، فقال له الشيخ: بلغك أن العزل مكروه ولم يبلغك أن الزنا حرام؟

والفهم الصحيح للدين يستلزم معرفة فقه الأولويات، وكيفية الموازنة والترجيح بينالمصالح والمفاسد إذا تعارضت؛ فكما يقال: "ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر،ولكن العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين".

وهذه بعض الأمور التي يجدر التنبيه إليها:

 

1- على من يقوم بالإصلاح أن يصلح نفسه أولًا ثم من يعوله

والبدء بالإصلاح الداخلي للمجتمع المسلم وتقويته قبل الاهتمام بفضح مخططاتالأعداء ومؤامراتهم، فما كان للأعداء أن يتسلطوا لولا الفساد والضعف الداخلي؛ منالابتعاد عن دين الله تعالى، والظلم بشتى صوره وأشكاله، وعدم تعيين الأكفاء فيالمناصب، والفساد الإداري والمالي، والتقصير في محاربة الفقر، والتفرقاتالعنصرية، سواء بين المناطق والقبائل أو بين الجنسيات، والأصل في ذلك أن لايفرق بين أحد وغيره إلا على أساس الكفاءة والقدرة، وعدم الاهتمام بالعلموالتعليم بالشكل المطلوب، والتقصير في تقدير العلماء والمبدعين؛ بل وقد يصلالأمر إلى محاربتهم والتضييق عليهم.

ومن الضعف الداخلي: التفرُّق والاختلاف بسبب مسائل اجتهادية من فروع الدين لاينبغي المعاداة والتفرُّق من أجلها، فليس من مصلحة الإسلام أن يحارِب أحد مَنْيخالفه في فروع الدِّين ويترك اليهود والمشركين، فيَسْلَم أعداؤه منه ولا يسلممنه أخوه المسلم، مع أن الحقَّ قد يكون مع أخيه وليس معه كما يحسب، فليس منالعقل والحكمة في شيء إذا دخل عدوٌّ على بيت أحد، أن يختلف أهل البيت فيمابينهم في أمور ثانوية ويتركوا عدوهم يفعل ما يشاء! لكن المصيبة أن هناك من يفعلهذا فيضخم الخلافات الفرعية، ويغفل عن نقاط الاتفاق والكليات المشتركة، وهو يحسبأنه يدافع عن الإسلام.

وقد أمر الله نبيَّه عليه الصلاة والسلام أن يقول للمشركين: {وَإِنَّا أوْإِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَال مُبِين} [سبأ:24]، هذا مع أنه صلى الله عليهوسلم مؤيَّدٌ بالوحي، ولا يمكن أن يكون الحق إلا معه، وذلك تعليمًا للناس بأنيكونوا منصفين في حوارهم مع من يختلفون.

 

2- تقديم الاهتمام بأعمال القلوب على أعمال الجوارح

لأنه إذا صلح القلب صلح سائر العمل، وإذا فسدالقلب فلا عبرة بصلاح الظاهر عند فساد السرائر، فالإكثار من العبادات الظاهرةوالاجتهاد فيها من غير إصلاح للباطن قد يقترن بما يحبط العمل ويفسده، فقد أخبرالنبي صلى الله عليه وسلم عن قوم "يَحْقِرُ أحدكم صلاته معصلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن لايجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهممن الرمية" [متفق عليه]، وفي رواية في البخاري: "يقتلون أهلالإسلام ويدعون أهل الأوثان".

فهؤلاء مع كثرة عبادتهم يمرقون من الدين ويخرجون منه، وقد علَّل كثير من العلماء ذلك بأنَّ في باطنهم من الكبرالخفي الذي يقودهم إلى تضليل المسلمين أو تكفيرهم، ويجعلهم يعتقدون أنهم وحدهمعلى الحق المبين ومن سواهم على الضلال، وهذا الحديث وإن كان في الخوارج إلاأنَّ فِكْرَهم ما زال موجودًا، فالحذرَ الحذرَ من فكر الخوارج وتطرفهمومغالاتهم.

 

3- ومن الأولويات: البدء بصغار العلم قبل كباره

وتقديم التربية بالقدوة الحسنة والأفعال الصالحة على مجرد الكلام الخالي منالتطبيق، فلما جيء إلى عمر رضي الله عنه بسيف كسرى ومنطقته وزبرجده قال: إنأقوامًا أدوا هذا لذو أمانة، فقال علي رضي الله عنه: "إنك عففت فعفت الرعية"(1).

وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى: "أما بعد، إن أسعد الرُّعاة من سَعِدت بهرعيَّتُه، وإن أشقى الرعاةِ عند الله من شقيت به رعيَّتُه، وإياك أن ترتعَفيرتعَ عُمَّالُك"(2).

وكان عمر إذا نهى الناس عن شيء جمع أهل بيته فقال: "إني نهيت الناس كذا وكذا،وإن الناس لينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، وايم الله! لا أجد أحدًا منكمفعله إلا أضعفت له العقوبة ضعفين"(3).

وفي رواية أخرى: "والناس إنما ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، فإن وقعتموقعوا، وإن هبتم هابوا، وإني والله لا أوتى برجل منكم وقع في شيء مما نهيت عنهالناس إلا أضعفت له العقوبة لمكانه مني، فمن شاء فليتقدم ومن شاء فليتأخر"(4).

وفي عهد السلف كان الكثير من الناس يصحبون أهل العلم؛ للاستفادة من سمتهم وأخلاقهم قبل أن يستفيدوا من كلامهم.

 

4- تقديم الفرض والواجب على السنة والنفل

فلا يقوم أحد مثلًا بأداء بعض النوافل إذا كان في أدائها إخلال بالواجب، كمنيشق عليه صيام النفل بحيث لا يستطيع أداء واجباته على الوجه المطلوب.

ومن ذلك نهي النبي صلى الله عليه وسلم للزوجة أن تصوم تطوعًا وزوجها حاضر إلابإذنه، لأن حق الزوج واجب عليها، والصوم نافلة.

قال بعض العلماء: "من شغله الفرض عن النفل فهو معذور، ومن شغله النفل عن الفرضفهو مغرور".

وقال أبو سليمان الداراني: كلُّ مَنْ كان في شيء من التطوُّع يلذ به، فجاء وقتفريضة، فلم يقطع وقتها لذة التطوع، فهو في تطوُّعه مخدوع"(5).

وكان بعض المتقدمين يحج ماشيًا على قدميه كل عام، فكان ليلة نائمًا على فراشه،فطلبت منه أمه شربة ماء، فصعب على نفسه القيام من فراشه لسقي أمه الماء، فتذكرحجه ماشيًا كل عام، وأنه لا يشق عليه، فحاسب نفسه فرأى أنه لا يهونه عليه إلارؤية الناس له و مدحهم إياه، فعلم أنه كان مدخولًا(6).

وتقديم فرض العين على فرض الكفاية، ومن ذلك أن رجلًا جاء إلى النبيصلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد، فقال: "أَحَيٌّوالداك؟" قال: نعم، قال: "ففيهما فجاهد" [متفق عليه].

 

5- تقديم الاهتمام بترك المنهيات على الاهتمام بفعل المأمورات

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "فإذا نهيتكم عن شيءفاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه مااستطعتم" [متفق عليه]، فهذا يؤخذ منه أن النهي أشد من الأمر؛ لأنالنهي لم يرخص في ارتكاب شيء منه، والأمر قُيِّد بحسب الاستطاعة،وروي هذا عن الإمام أحمد.

وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : "اتق المحارمتكن أعبد الناس" [رواه الترمذي].

وقالت عائشة رضي الله عنها: من سرهأن يسبق الدائب المجتهد فليكف عن الذنوب.

وقال الحسن: ما عبد العابدونبشيء أفضل من ترك ما نهاهم الله عنه.

وقال ميمون بن مهران: ذكر اللهباللسان حسن، وأفضل منه أن يذكر اللهَ العبدُ عند المعصية فيمسك عنها.

ويشبه هذا قول بعضهم: أعمال البر يعملها البر والفاجر، وأما المعاصيفلا يتركها إلا صديق.

وقال بعض السلف: ترك دانق مما يكره الله أحبإلي من خمس مئة حجة.

وقال ابن المبارك: لأن أَرُدَّ درهمًا من شبهة أحب إلي من أن أتصدقبمائة ألف ومائة ألف، حتى بلغ ست مئة ألف(7).

وقال مالك بن دينار: لأن يترك الرجل درهمًا حرامًا خيرٌله من أن يتصدق بمائة ألف درهم(8).

وقال سفيان الثوري: كُلِ الحلال وصَلِّ آخر الصفوف تقبلمنك، ولا تأكل حرامًا وتصلي أول الصفوف فلا يقبلمنك (9).

6- تقديم العمل المتعدي نفعه إلى الغير على العمل القاصر نفعه على صاحبه

كمن حج حجة الفريضة، ويريد أن يحج حجة نافلة، وكان الحج سيكلفه الكثير من المال،فإن الأولى أن ينفق هذا المال على من يحتاج إليه؛ كمساعدة من يريد الزواج، أوكفالة يتيم أو فقير، أو أن يسدد دين عن أحد معسر ونحوه.

وكمن يستطيع أن يعلم الناس علمًا نافعًا في وقت من الأوقات، أو يذكر الله وحدهمنفردًا، فقيامه بتعليم الناس أولى، وذلك لتعدي نفعه وشمول خيره.

 

7- تقديم العلم الذي يترتب عليه ثمرة وعمل على العلم النظري الذي لا يترتب عليهشيء

فهناك من يشغل نفسه بقضايا لاتقدم ولا تؤخر، ويضيع وقته وأوقات الآخرين فيما لا ينفع، أو فيما ضرره أكبرمن نفعه، كمن يبحث هل والدي النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة أم في النار،وقد يستغرق أحدهم سنة كاملة في البحث، ويخرج للناس بمجلد ضخم يؤيد فيه أحدالأقوال، وهناك الكثير من المسائل المستجدة، التي تحتاج إلى بحث ودراسة، هي أولىبالعناية من هذه المباحث.

وكمن يبحث في الخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهم، ومن الذي كان الحق معه،وكأن أحدًا قد نصبه قاضيًا عليهم، أو محاميًا عن أحدهم، وخير ما يقال لمنيفعل هذا هو ما قاله أبو زرعة الرازي رحمه الله: رب معاوية رب رحيم،وخصم معاوية خصمٌ كريم، فما دخولك بينهما؟!

ثم ماذا يترتب على هذا من عمل،وهل هو الذي سيعطيهم الأجر والثواب أو سيصيبهم بالإثم والعقاب، وقد قال تعالى:{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134]، وقال عليه الصلاة والسلام:"من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" [رواه الترمذي]،والاشتغال فيما لا يعني وإعطاؤه أهمية أكبر من حجمه سيؤدي إلى التفريط فيمايهمنا ويعنينا.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا،والحمد لله رب العالمين.

 
   

 

(1) رواه الدارقطني في فضائل الصَّحابة (19)، والطبري في تاريخه (3/128)،وابن عساكر في تاريخ دمشق (44/343).

(2) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (8/147)، وأبو نعيم في الحلية (1/50).

(3) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (30643).

(4) رواه عبد الرزاق في مصنفه (20713)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (44/268).

(5) رواه أبو نعيم في حلية الأولياء (9/269).

(6) لطائف المعارف، لابن رجب، ص257.

(7) انظر: جامع العلوم والحكم، شرح الحديث التاسع.

(8) رواه الدينوري في المجالسة وجواهر العلم (5/125).

(9) رواه الدينوري في المجالسة وجواهر العلم (5/127).