رفع الدافع الذاتي للأفراد في مؤسسات العمل الإسلامي
لكي يستمر الفرد العامل بالإنتاج والإبداع، ومن أجل أن يطور إمكاناته، ويوسع دائرة مهاراته الذاتية، لا بد من تحفيزه لترسيخ كل هذه المفاهيم في داخله، وأعلى درجات هذا التحفيز حين يكون تحفيزًا ذاتيًا، يحرص فيه الفرد أن يقدم كل ما لديه وزيادة، وبالإمكان أن تَتَّبع المؤسسة بعض الأساليب وتبتكر الوسائل في الوصول إلى ذلك الهدف، فمنها:
1- معاملة العاملين معاملة حسنة، تتضمن العطف والاحترام والتقدير؛ فإن ذلك يبعث الراحة والاطمئنان في داخل الفرد، ويحرك فيه مشاعر الولاء للعمل، فعن ابن عباس رضي الله عنه يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس منا من لم يوقِّر الكبير، ويرحم الصغير، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر».
ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «علَّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكَفِّي بين كفيه، التشهد، كما يعلمني السورة من القرآن».
إن وجود كَفِّ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بين كفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر له دلالاته وأبعاده، وتأثيره في نفس المتعلم؛ فهو يمنحه عطفًا لتحفيزه بطريقة ذكية ومؤثرة.
2- إشعار الأفراد بالرضا إزاء ما يقدمون من عمل ناجح، عن طريق إشارات بحركة أو كلمة، فعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: ما حجبني النبي صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم في وجهي، ولقد شكوت إليه أني لا أثبت على الخيل، فضرب بيده في صدري وقال: «اللهم ثبته، واجعله هاديًا مهديًا».
يقول الشاعر:
وكان صليب العود مرًا إذا أبى عطوفًا كمثل الشهد عند التودد
ملاذًا إذا الفرسان جالت بركنه يُرَدُ إليه الحُكمُ في كل مَحفَدِ
3- استثمار الحالات العملية غير المقصودة، والتي يمكن من خلالها اكتشاف مهارات ومواهب معينة لدى بعض الأفراد والتركيز عليها، من أجل استثمارها للعمل الاستثمار الأمثل؛ فعن أبي محذورة رضي الله عنه قال: خرجت في عشرة فتيان مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى حُنين فأذَّنوا، وقُمنا نُؤذِّن مستهزئين بهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ايتوني بهؤلاء الفتيان»، فقال: «أَذِّنوا»، فأذنوا، وكنت أَحَدَّهُمْ صوتًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «نعم، هذا الذي سمعت صوته، اذهب فأذن لأهل مكة، وقل لعتَّاب بن أُسيد: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أؤذن لأهل مكة»، قال: «قل: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله مرتين، أشهد أن محمدًا رسول الله مرتين، ثم ارجع فقل: أشهد أن لا إله إلا الله مرتين، أشهد أن محمدًا رسول الله مرتين، حي على الصلاة مرتين، حي على الفلاح مرتين، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، فإذا أقمت للصلاة فقلها مرتين: قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة».
لقد استثمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حالة مهارية، اكتشفها من وضع استهزاءٍ فحوَّلها إلى وظيفة مشرفة.
4- استخدام أسماء أو كنى محببة للأفراد، بشرط موافقة الفرد عليها واستحسانها، فإن لم يحبها فلا، وكذلك استخدام عبارات المديح والثناء، بالحق طبعًا، لقد خصص النبي محمد صلى الله عليه وسلم لمعظم أصحابه أسماءً يحبونها، بعيدًا عن أسمائهم وكناهم المعروفة، والقصد من ذلك تمييزهم وتخصصيهم، ورفع الدافع المعنوي لديهم، وكانوا سعداء بها ويحبونها، كما كانت دافعًا حقيقيًا لهم من أجل الإبداع، ومن ذلك:
- أبو بكر: لقبه صلى الله عليه وسلم بـ (الصدّيق)؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: صعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أُحُد ومعه أبو بكر، وعمر، وعثمان، فرجف بهم، فضربه برجله، قال: «اثبت أحد، فما عليك إلا نبي، أو صِدِّيق، أو شهيدان».
- عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لقبه صلى الله عليه وسلم بـ (الفاروق)؛ فعن أبي عمرو ذكوان قال: قلت لعائشة: «من سمى عمر الفاروق؟»، قالت: «النبي عليه السلام».
- عثمان بن عفان رضي الله عنه: لقبه صلى الله عليه وسلم بـ (ذي النورين)، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما سئل عن عثمان رضي الله عنه قال: «ذاك امرؤ يدعى في الملأ الأعلى ذا النورين، ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنتيه، ضمن له رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتًا في الجنة».
وعن عبد الله بن عمران بن أبان قال: قال لي حسين الجعفي: «يا بني، تدري لم سُمّيَ عثمان ذا النورين؟»، قلت: «لا أدري»، قال: «لم يجمع الله بين ابنتي نبي منذ خلق الله آدم إلى أن تقوم الساعة لغير عثمان بن عفان رضي الله عنه، فلذلك سمي ذا النورين».
- علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كناه صلى الله عليه وسلم بـ (أبي تراب)؛ فعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: إن كانت أحبَّ أسماء عليٍّ رضي الله عنه إليه لَأبو تراب، وإن كان ليفرح أن يدعى بها، وما سماه أبو تراب إلا النبي صلى الله عليه وسلم، غاضب يومًا فاطمة رضي الله عنها فخرج، فاضطجع إلى الجدار في المسجد، فجاءه النبي صلى الله عليه وسلم يتبعه، فقال: هو ذا مضطجع في الجدار، فجاءه النبي صلى الله عليه وسلم وامتلأ ظهره ترابًا، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمسح التراب عن ظهره ويقول: «اجلس يا أبا تراب».
- حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه: (أسد الله)؛ عن سعد بن أبي وقاص قال: «كان حمزة بن عبد المطلب يقاتل يوم أحد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: أنا أسد الله».
- عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه: (أبو هريرة)؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوني أبا هر، ويدعوني الناس أبا هريرة».
- عمار بن ياسر رضي الله عنه: (الطيِّب المُطَيَّب)؛ فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «كنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء عمار يستأذن، فقال صلى الله عليه وسلم: «ائذنوا له، مرحبًا بِالطَّيِّبِ الْمُطَيَّبِ».
- زيد الخيل الطائي: سماه صلى الله عليه وسلم (زيد الخير)؛ فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأقبل راكب حتى أناخ بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني أتيتك من مسيرة تسع، أنصبت بدني، وأسهرت ليلي، وأظمأت نهاري؛ لأسألك عن خلتين أسهرَتاني، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما اسمك؟»، فقال: أنا زيد الخيل، قال: «بل أنت زيد الخير»، قال: أسألك عن علامة الله فيمن يريد، وعن علامته فيمن لا يريد، إني أحب الخير وأهله ومن يعمل به، وإن عملت به أيقنت ثوابه، فإن فاتني منه شيء حننت إليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «علامة الله فيمن يريد، وعلامته فيمن لا يريد، لو أرادك في الأخرى هيأك لها، ثم لم يبال في أي واد سلكت».
- طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال: «سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: طلحة الخير، وفي غزوة ذي العشيرة: طلحة الفياض، ويوم حنين: طلحة الجود».
- وكان لأم سلمة رضي الله عنها مولًى أعتقته، واشترطت عليه خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول أحد الصحابة رضي الله عنه: قلت لسفينة: ما اسمك؟ قال: ما أنا بمخبركم، ثم قال: سماني رسول صلى الله عليه وسلم (سفينة)، قلت: ولم سماك سفينة؟، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه، فثقل عليهم متاعهم، فقال لي رسول الله: «ابسط كساءك»، فبسطته، فجعلوا فيه متاعهم، فحملوه علي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «احمل فإنما أنت سفينة»، فلو حملت من يومئذ وقر بعير، أو بعيرين، أو ثلاثة، أو أربعة، أو خمسة، أو ستة، أو سبعة ما ثقل علي إلا أن يخفو.
- خالد بن الوليد رضي الله عنه (سيف الله المسلول)؛ فقال النبي محمد صلى الله عليه وسلم في حقه: «لا تؤذوا خالدًا، فإنه سيف من سيوف الله، صبه على الكفار».
5- تفهم تصرفات بعض الأفراد ممن تفسَّر بعض أفعالهم تفسيرًا سلبيًا؛ سواء ظاهريًا أم بالفعل أن العمل له تفسير آخر غير ما يظهر للعيان؛ وفي قصة الصحابي حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه عبرة واضحة في ذلك، فقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير رضي الله عنه، والمقداد بن الأسود رضي الله عنه، قال: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة، ومعها كتاب فخذوه منها»، فانطلقنا تعادَى بنا خيلنا حتى انتهينا إلى الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي من كتاب، فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا حاطب، ما هذا؟»، قال: يا رسول الله، لا تعجل علي، إني كنت امرأً ملصقًا في قريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت، إذ فاتني ذلك من النسب فيهم، أن أتخذ عندهم يدًا يحمون بها قرابتي، وما فعلت كفرًا ولا ارتدادًا، ولا رضًى بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد صدقكم»، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق، قال: «إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».
فعلى الرغم من شناعة ما فعل الرجل، في الظاهر، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم أسبابه، وتذكر له مواقفه المشهودة في معركة بدر، يقول الشاعر:
ويسوقه الكرم العميم إلى الرجا إن الكريم مسامح ومقيل
فرحابك الحامي العفاة وما له في العالمين مماثل وعديل
6- الإشادة بالإنجازات الكبيرة للأفراد وعدم نسيانها، وخاصة في أيام الرخاء؛ لأن الشخص الناجح هو من يرى أن إنجازات الآخرين هي إنجازات للمؤسسة كلها؛ بل لكل فرد فيها، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة أحسن عليها الثناء، فقلت: ما تذكر منها وقد أبدلك الله بها خيرًا منها؟ قال: «ما أبدلني الله بها خيرًا منها؛ صدقتني إذ كذَّبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد إذ لم يرزقني من غيرها».
كما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أسارى بدر: «لو كان المطعم بن عدي حيًا، ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له».
7- تفهم الضغوطات المتولدة على الأفراد؛ فمنها خارجية ومنها داخلية، منها ما يتعلق بالعمل وظروف العمل ومنها غير ذلك، يقول ديفيد راي: «إن الضغوط الناتجة عن العمل من أشهر العوامل المؤثرة في عالم الأعمال، وهي شديدة الوضوح في المجال الإداري، ويلقي علماء النفس باللوم على المديرين؛ لأنهم يقومون بعمل تغييرات سريعة وإجبارية يوميًا في شركاتهم.
وبالرغم من أنهم يدركون التأثير الضار لهذه التغييرات، إلا أن قليلًا منهم يحاول السيطرة عليها ومنع الضغوط الناتجة عنها، والعديد من المديرين هم ضحايا لعالم من التوتر يعيشون فيه؛ ولذلك فقد تقبلوا هذه الضغوط كعنصر أساس في عملهم، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع من غزوة تبوك فَدَنَا من المدينة، فقال: «إن بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم»، قالوا: «يا رسول الله، وهم بالمدينة؟»، قال: «وهم بالمدينة، حبسهم العذر».
ولعل تفهم الضغوط على الآخرين أمر يحتاج إلى وقفة جادة؛ بسبب التباين الكبير في مراتبه، والذي من ثمراته ونتائجه إعطاء فرصة جديدة ومساحة تفكير جديدة للأفراد في إظهار إبداعاتهم وابتكاراتهم، وتعميق دائرة الفهم والانفتاح مع الأفراد، وأنَّ كثيرًا من الخلاف الموجود في المؤسسات، في كثير من جوانب السياسة والاجتماع والإدارة والاقتصاد وغيرها، سببه المباشر تدني درجة تفهم الآخرين، وفقدان الكثير من أدواته ومتطلباته لدى المعنيين، وفقدان العقليات الواعية التي تتصدى لهذه المهمة.
كما أن هناك ضغوطات من نوع آخر، ربما تكون عائلية أو اجتماعية أو صحية أو أمور أخرى، في حالة وجودها يتطلب التخفيف عن الفرد العامل، سواء من ناحية تقليل الجهد المبذول من قبله في عمله، أم تقليل ساعات العمل اليومي، أو منحه امتيازات مادية إضافية، ولقد راعت الشريعة الإسلامية هذه القضية فرخصت للأفراد في الكثير من الرخص؛ فعلى سبيل المثال وليس الحصر: رخصت للمسافر أن يقصر ويجمع في صلاته، وكذلك رُخِّصَ للمريض والمسافر أن يفطرا في رمضان؛ فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: «إن الله فرض الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم، على المسافر ركعتين، وعلى المقيم أربعًا، وفي الخوف ركعة» {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:184].
فلا بد من مراعاة هذا النوع من السماحات من قبل المؤسسات، وتسميتها لأفرادها على مستوى تنظيمي قانوني أو على مستوى فردي.
8- إعادة توجيه البوصلة الشخصية للأفراد؛ من خلال تذكير الفرد ببعض الأشياء التي يقصر فيها أو لا يركز عليها أو يهملها، إما لجهله بها أو لتقاعسه عنها، وهي في غاية الضرورة بالنسبة له، ومن الممكن أن تكون له حافزًا كبيرًا، وتنقله نقلة نوعية في أداء العمل الذي يؤديه، يقول النبي محمد صلى الله عليه وسلم في حق الصحابي عبد الله بن عمر رضي الله عنه: «نِعْمَ الرجلُ عبد الله لو كان يصلي من الليل».
فكان بعدها لا ينام من الليل إلا قليلًا، فحين شعر رسول الله، محمد صلى الله عليه وسلم، أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه يحتاج إلى رفع الجانب الروحي حرك بوصلته باتجاه عمل يرفع الجانب الروحي، وبذلك منحه شحنة جديدة، تكون له عونًا للارتقاء ببقية أعماله.
ومن موجبات توجيه البوصلة الشخصية بالاتجاه الصحيح مساعدة الأفراد على فهم كافة الأمور التي تجري، من غير أن نتركهم في غياهب المجهول، ومن القصص الجميلة في هذا الموضوع أن ثلاثة من العُمي أُدخلوا في غرفة وضع فيها حيوان معروف هو الفيل، وطُلب منهم أن يقوموا بوصف الفيل، تحسس كل منهم الفيل على انفراد، ثم خرج كل واحد ليبدأ في الوصف، فقال الأول: الفيل هو أربعة أعمدة على الأرض!؛ لأنه تحسس الأرجل فقط، وقال الثاني: الفيل يشبه الثعبان تمامًا!؛ لأنه تحسس الخرطوم فقط، وقال الثالث: الفيل يشبه المكـنسة!؛ لأنه تحسس الذيل فقط.
9- تشجيع الإقدام على بعض المهام التي تنطوي على مخاطرة، وفي الغالب يتردد الأفراد عن الإقدام على طرح الأفكار الجديدة أو المبادرات أو الممارسات؛ لأنها قد تنطوي على مخاطرة بنسبة معينة، فلذلك لا بد للمؤسسة من دعم الأفكار الجديدة وإن كانت تنطوي على نسبة من المخاطرة، فلا بأس من المجازفة؛ لأنها قد تأتي بنتائج عظيمة جدًا، فلقد اجتمع يومًا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: «والله، ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يُسمِعْهُموه؟»، فقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «أنا»، قالوا: «إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلًا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه»، قال: «دعوني فإنَّ الله سيمنعني»، فغدا ابن مسعود رضي الله عنه حتى أتى المقام في الضُّحى وقريش في أنديتها، حتى قام عند المقام ثم قال: «بسم الله الرحمن الرحيم» رافعًا بها صوته: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن:1-2]، ثم استقبلها يقرؤها، وتأمموه فجعلوا يقولون: «ما قال ابن أم عبد»، ثم قالوا: «إنه ليتلوا بعض ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم»، فقاموا إليه فجعلوا يضربون في وجهه وجعل يقرأ، حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا بوجهه، فقالوا: «هذا الذي خشينا عليك»، قال: «ما كان أعداء الله أهون علي منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها»، قالوا: «لا، حسبك فقد أسمعتهم ما يكرهون».
لقد اختار الصحابي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذه المهمة بالرغم من خطورتها، وليس له عشيرة تحميه، وقد كان رضي الله عنه ضئيل الجسم، دقيق الساقين، كل ذلك لم يكن عائقًا دون إظهار شجاعته وقوة نفسه رضي الله عنه، فلقد وقف على قريش وجهر بالقرآن، فقرع به أسماعهم المقفلة وقلوبهم المغلَّفة، فكان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، ومثال آخر نستدل به في هذا الباب، ففي معركة مؤتة انتهى المسلمون إلى حائط قد أغلق بابه، فيه رجال من المشركين، فجلس البراء بن مالك رضي الله عنه على ترس، فقال: «ارفعوني برماحكم فألقوني إليهم»، فرفعوه برماحهم فألقوه من وراء الحائط، فأدركوه قد قتل منهم عشرة.
10- زرع الثقة في داخل الأفراد، وجعلهم يحرصون على المبادرة والإقدام، ويتحلون بالشجاعة والجرأة من خلال إسهامهم في صنع القرار، ومنحهم بعض الصلاحيات التي تناسب إمكاناتهم، وإشراكهم في النقاشات والحوارات والاجتماعات التي تتعلق بالعمل وتدريبهم على ذلك، والمساعدة على تحملهم المسئولية، وبيان عظم المسئولية الملقاة على عاتق الفرد، وأهميتها في بناء شخصيته وتوجيهها وإصلاحها، وإذا تحقق ذلك فإننا نضع اللبنة الأساس في سبيل إصلاح المجتمع؛ حيث إنه إذا أصلح كل فرد نفسه وربى ذاته تخلص المجتمع من الأمراض والانحرافات، واتجه للبناء والإصلاح.
ويمكن تحقيق كل ذلك بتوفير القدوة الحسنة لهم؛ حيث يكون المسئولون عن الأفراد نماذج يُقتدى بها بالنسبة لهم؛ لأن من طبيعة الأفراد وفطرتهم، التي فطرهم الله عليها، أنهم يتأثرون بالمحاكاة والقدوة أكثر مما يتأثرون بالقراءة والسماع وأساليب التعلم الأخرى، وخصوصًا في المسائل المتعلقة بالعمل، ومن أهمها مواقف الأزمات، وهذا المنطق يشمل جميع الأفراد على مختلف مستوياتهم، ويكون تأثيره أكبر عند الأفراد قليلي الثقافة، فكل فرد يحتاج إلى قدوة صالحة يقلده ويعود إليه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].
لقد جاء في تفسير هذه الآية: يحث الله تعالى المؤمنين على الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، والتأسي به في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته، فقال للذين أظهروا الضجر وتزلولوا واضطربوا في أمرهم يوم الأحزاب: هلا اقتديتم برسول الله، وتأسيتم بشمائله، فلكم في رسول الله أسوة حسنة إن كنتم تبتغون ثواب الله، وتخافون عقابه، وتذكرون الله ذكرًا كثيرًا، فذكر الله يؤدي إلى أسوة حسنة وقدوة صالحة في كل أمر.
11- مد الجسور التي تؤدي إلى استشعار الأفراد بعدم تخلي قيادتهم الإدارية عنهم؛ وحتى في أحلك الظروف، فعندما جاء وفد المدينة (يثرب) إلى مكة ليبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل انتشار الإسلام، وفيهم البراء بن معرور رضي الله عنه وكعب بن مالك رضي الله عنه، قال لهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم: «أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم»، فأخذ البراء بن معرور رضي الله عنه بيده، ثم قال: «نعم، والذي بعثك بالحق، لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا، فبايِعْنا يا رسول الله، فنحن أهل الحروب، وأهل الحلقة، ورثناها كابرًا عن كابر»، قال: فاعترض القول، والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو الهيثم بن التيهان، حليف بني عبد الأشهل، فقال: «يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالًا، وإنا قاطعوها [يعني العهود]، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟»، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم».
وفي حادثة يتجلى فيها هذا المفهوم بجلاء أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر بشيخ من أهل الذمة يسأل على أبواب الناس، فقال: «ما أنصفناك، إن كنا أخذنا منك الجزية في شبيبتك ثم ضيعناك في كبرك»، ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه.
وهكذا؛ فمن غير المنصف أن يبذل الفرد كل ما يستطيع في قوته وشبابه وصحته لمؤسسته، ثم لا يجد من يتكفل به في مرضه وشيخوخته، وإن ذلك لمن واجبات المؤسسة.
12- الحفاظ على الربط الذهني بين القضية وتحقيق الأهداف، والسعي لعدم إيصال الفرد إلى حالة الإحباط مهما تداعت الظروف واشتدت، وتعقدت الأمور، وابتعدت الأهداف عن المنال، وطال زمن تحقيقها، وفي مسيرة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم شواهد كثيرة على ذلك، ولعل من أهمها يوم عادَ من الطائف بجسد منهك، وبأيدٍ وأرجلٍ مدمية، وبروح مجروحة متألمة لعدم استجابة الناس لصوت الحق ولداعي الخير، لقد كان يومًا من أشد الأيام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن كل ذلك لم يقطع نور الأمل عنه صلى الله عليه وسلم، فتحدثنا السيدة عائشة رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: «هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أُحُد؟»، قال: «لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك مَلَك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي، ثم قال: يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئًا».
هذا الإحساس الدائم بالنجاح، وحسن الظن بالله، والإيمان الكامل بالقضية التي يُعمل من أجلها رغم الظروف الصعبة، بعد التوكل على الله، هو الذي يحقق الأهداف، فربما تأخرت الأهداف عشرات السنين، وربما يعمل الفرد ويخرج من عمله ولا تتحقق الأهداف إلا على يد الجيل الذي يأتي بعده، كل ذلك لن يكون عائقًا أمام بقاء الربط الذهني بين القضية واليقين بتحقيق الأهداف، فإن انفلت الأمر سيمر وقت على الأفراد ينسون الأهداف التي يعملون من أجلها.
13- تحقيق مبدأ وحدة الأمر والتوجيه؛ وهو ما يعني أن الفرد يجب أن يتلقى التعليمات والتوجيهات والأوامر الخاصة بالعمل من شخص واحد فقط، هو رئيسه المباشر، وحتى في حالة رغبة المسئول الأعلى في المؤسسة لتوجيه فرد ما لموضوع ما من الأفضل أن يكون عن طريق رئيسه المباشر؛ لأن كثرة الموجهين يؤدي إلى تقاطع في العمل، وفشل الفرد من تلبية رغبات كل الموجهين؛ فينتج عن ذلك تشتت الفرد، وربما شغلته بعض التوجيهات الفرعية قليلة الأهمية عن مهمته الرئيسة، وفي هذا يقول الله سبحانه وتعالى: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر:29].
14- تنمية القدرات التي تجعل الفرد يستطيع العيش في ظروف عمل مختلفة، من حيث استبدال المهام، أو استبدال مكان العمل، أو التغيير في مواقع الأفراد، أو تغيير الجو العام للعمل؛ لأن الفرد، في العادة، لا يستطيع التأقلم مع الوضع الجديد في العمل بشكل مباشر، ولكنه يحتاج إلى فترة مناسبة وربما لا يتأقلم نهائيًا، وبالتالي ستكون هناك مشكلة للفرد وللمؤسسة؛ لذلك وجب السعي مقدمًا لتهيئة الأمر، ومن ذلك توفير البدائل التي تساعده على ذلك؛ كالأمور الاجتماعية والترفيهية، وتوفير الاحتياجات الأخرى، ولقد حصل هذا مع بعض أصحاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حين هاجروا من مكة إلى المدينة، فقد تغير عليهم الجو الذي كانوا يخدمون قضيتهم فيه؛ لذلك مَرِض أبو بكر الصديق رضي الله عنه وبلال بن رباح رضي الله عنه، وأصابتهم الحمى الشديدة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشجعهم ويساعدهم على تحمل الجو الجديد، من خلال ما كان يدعو لهم به، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم حبِّب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وصححها، وبارك لنا في صاعها ومدها، وانقل حُمَّاها فاجعلها بالجحفة».
15- إدامة بقاء الفرد في حالة أمل، وعدم اليأس من تحقيق الأهداف بالرغم من الظروف القاسية التي يمر بها الأفراد أو المؤسسة، ومنح الأفراد الوعود بمنح جيدة عند تحقيق الأهداف في المستقبل والالتزام بها، ولقد حدث هذا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حين وعد سراقة بن مالك بسواري كسرى يوم لحقه ولم يصل إليه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ممنوعًا منه، فعقدا اتفاقًا أن يرد سراقة رضي الله عنه من يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك بتضليله الطريق على الطالبين، مقابل أن يمنحه سواري كسرى بن هرمز يوم تفتح بلاد فارس، هنا الوعد بالمكافأة بعد وقت يبدو طويلًا، فاتفقا على ذلك، ثم تحقق لسراقة ذلك الأمر بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وتحديدًا في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
أُتِي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بفروة كسرى فوضعت بين يديه، وفي القوم سراقة بن مالك بن جعشم، قال: فألقى إليه سواري كسرى بن هرمز فجعلهما في يده، فبلغا منكبيه، فلما رآهما في يدي سراقة قال: «الحمد لله، سواري كسرى بن هرمز في يد سراقة بن مالك بن جعشم، أعرابي من بني مدلج».
فالأمل هو الشحن الروحي للفرد حتى يبقى يعمل بكفاءة، ويبقى يقدم الأفكار الإبداعية والمتميزة لا ينفك عنها، يقول الشاعر:
أعلِّل النفس بالآمال أرقُبُها ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
______________
موقع: المختار الإسلامي