logo

طالب العلم والقفزات


بتاريخ : الخميس ، 27 محرّم ، 1441 الموافق 26 سبتمبر 2019
بقلم : الشيخ مشاري الشثري
طالب العلم والقفزات

تمثل الإجازة الصيفية ربيعًا علميًا لطالب العلم، وهي تبرهن على صدق طلبه إن هو استغلها، فالعطاء المشيخي تعتريه، عدا مطلع الإجازة، عوامل التعرية لصالح البرامج العلمية الخاصة، إن على مستوى طالب العلم نفسه، أو مجموعته الضيقة، فإذا فرَّط في هذه الأيام المهداة كان ذلك طعنًا في عدالة جديته.

عليه ليَسْلم: أن يسعى في تكثيف تحصيله، وسداد ديونه العلمية، أن يقلب دفتر المهام، فيلحق الكتاب بنظيره، والمتن بشرحه، ثم يبسط سجادة قراءته، ويدني كأسه المثلوج في قيظ الظهيرة النجدية ليبدأ من بعد قفزته المرتقبة.

القفزة لها مبدأ ومنتهى:

يتفاوت شداة العلم في رسم مشاريعهم العلمية (الجزئية/المرحلية)، وأيًا ما كانت ماهية تلك المشاريع (حفظ، قراءة، تأليف،...) فإن الفاضل أن يكون مشروعه الصيفي (قفزةً) ذات مبدأ ومنتهى، بحيث يكون إنجازه المرحلي مكتمل الأركان، وليس مجرد خطوات يواصل بها مسير مشروع سابق، متعثرًا كان أو غيره، وخاصة هذه القفزات أنها تجعل موقع المشروع من ذهنية طالب العلم ذا حظوة، لتماسكه بسبب قرب إنجازه واتضاح حدوده، ولا أعون على ضبط المعارف من ربط طالب العلم أَلِف مشاريعه بيائها، كما أن هذه القفزات، إن كانت عاقلةً، تجعل من تعهدها بعد ذلك ميسورًا.

وقد أكرمني الله بمصاحبة أفذاذ أكابر في همتهم، سادة في جديتهم، وما حركني لهذه الكتابة إلا الرغبة في إشعال فتيل الهمم الصيفية بإذاعة قفزاتهم الفاخرة.

ابن إبراهيم الفرضي:

صحبته بعد فرضيته، فوجدته على حداثة سنه فرضيًا بامتياز، يتناول المسائل الفرضية ويحللها بجهد يجانس الجهد الذي يبذله من يعبث بهاتفه حين يقلبه بأصبعيه، أخذت أسائله عن مشروعه الفرضي فقال لي:

«تعلمت الفرائض دفعة واحدة، واستغرق ذلك مني شهرين تقريبًا، سمعت فيها «شرح الرحبية» للشيخ د. سعد الخثلان، ولخصته [وقد أراني دفاتره بخطه الفاتر السيئ تلخيصًا]، وحفظتُ منظومة «موقظة الوسنان» للشيخ بدر العواد، وهي منظومة راقصة فائقة، وقد كنت أتمرن على المسائل الفرضية...، لـما تعلمت الفرائض تلك الأيام تعلمتها بحق، وأصبحت فرضيًا، وكنت أشرحها لطلاب كلية الشريعة، كما شرحت موقظة الوسنان كاملة، وشرحت أبوابًا من الفرائض والمناسخات لبعض مجاميع الطلبة مرارًا، وليس لي من عتاد إلا ذانك الشهران».

ابن ناصر الخالدي:

كتب لي تجربته الفاذة بيده الشريفة، نصها:

«أحسست يومًا بضعف في معرفة تفسير كلام الله، فعزمت على قراءة تفسير كامل لكلام الله، فاستشرت، ووقع الاختيار على «تفسير ابن جزي الغرناطي»، فذهبت لمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم في إجازة صيفية، وقرأت التفسير كاملًا قراءةً فاحصةً في عشرة أيام، ثم عدت.

أصدقك القول: تغيرت قراءتي لكتاب الله بعد هذه التجربة؛ بل أصبحت أتتبع كل ما يكتب حول علم التفسير، وكان أثر هذه التجربة ملحوظًا لكل من جالسني من أصحابي بعد البرنامج، والحمد لله رب العالمين».

ابن عبد العزيز التيمي:

لا أخفي عجبي يوم ناولني (الفلاش ميموري) لأنسخ له ملفًا، لما فتحته، وقد كان واقفًا أمامي، طلب مني نسخ الملف في مجلد عنونه بـ (الجامع)، دخلت المجلد فبهرتني عناوينه المعرفية الموزعة على مئات الصفحات التي قيدها من وحي قراءاته، ولظني ممانعته إن طلبت نسخه باشرت نسخه، وألقيت الورع جانبًا ولم أستأذنه، وذلك أن المفاسد الجزئية تنطمر في جنب المصالح الكلية!

أخذت أحادثه وأسليه حتى اكتمل النسخ، ثم صارحته بجريرتي، حاول جاهدًا أن يستنقذ مجلده لكني أصررت على فك الاحتكار، ونجحت باشتراطات معينة، سألته أن يحدثني عن إحدى قفزاته التي أفرزت مئات الأوراق هذه، فقال لي:

 «أثيرت في بعض المنتديات جملة إشكالات حول موضوع البدعة، واستطال بعضهم بنصوص لابن تيمية يظن فيها سندًا لشبهاته، فكان ذلك حافزًا لي على مراجعة المشروع التيمي، فأخذت مجموع الفتاوى وقرأت مجلداته الخمسة والثلاثين في شهر تقريبًا».

ابن عمر المعاملاتي:

أثرت عليه بعض السؤالات المتعلقة بالمعاملات المالية المعاصرة والبحوث المكتوبة فيها، فكان يتكلم عن حاد المسائل ونادر البحوث ككلامه عن حلية طالب العلم، وفي سياق إمعانه في إثارة المسائل وغربلة البحوث بعث الله من فيه كلامًا يبحث في أرض دهشتي، قال: «تقدمت إلى دائرة عملي بطلب إجازة مدة أسبوعين، ثم طفقت أذهب كل يوم إلى مكتبة الملك عبد العزيز، من شرخ الصباح حتى العتمة، قريبًا من العاشرة، فجردت كل ما فيها من كتب المعاملات المالية المعاصرة، وكتبت عن كل كتاب تقريرًا».

يا ويلتى، أعجزت أن أكون مثله!

ابن عبد الرحمن الرشيدي:

هذا الشاب من أفراد من رأيت شغفًا بالقراءة وتهالكًا عليها، وكم كان لتحدثه عن مشاريعه وقراءاته من أثر بالغ في إذكاء همتي الباردة، ولو استقصيت ما أدركته من مشاريعه لاستطالت المقالة، ولكني سأكتفي منها بشاهد يدل على ما وراءه، قال لي مرةً: «أردت الإشراف على التاريخ الغربي المعاصر، فاقتنيت «موسوعة هوبز باوم» في التاريخ الغربي الحديث، وهي تقع في أربعة أجزاء في قرابة أربعة آلاف صفحة، فأنهيتها بفضل الله في أسبوعين».

ابن زيد القحطاني:

في ثاني سنيه الجامعية لحظ أقرانُه بروزه النحوي، على غير العادة في محيطه النائم نحويًا، باحثته حول برنامجه فكتب لي: «أوصاني أحد أشياخي بسماع الشرح العثيميني لمتن الآجرومية (16 شريطًا)، فسمعته بعد أن حفظت المتن، وقرأت شرح عبد الحميد مع تدوين الزوائد العثيمينة على هوامشه، فأنهيت ذلك في مدة متوسطة، ولما أقبلت إحدى الإجازات الصيفية عزمت على تطويق النحو، فلم أشغل نفسي بغيره، أنهيت شرح الشيخ عبد الله الفوزان على قطر الندى (29 شريطًا)، وقيدت زوائده على شرح ابن هشام، وبعد أسبوع من فراغي منه شرعت في حفظ ألفية ابن مالك، فكان نجازها في 25 يومًا، مع مطالعة شرح ما أشكل علي من أبياتها من خلال نافذة الأشموني ودليل السالك».

ابن محمد الراشدي:

عرفته وهو طالب في المرحلة الثانوية، لكني عرفته ابنًا للحواسيب والمواقع الشبكية، وليس له إذ ذاك في القراءة ناقة ولا جمل، غبت عنه؛ بل غاب عني، ثم لقيته بعد سنين فإذا بعينيه كتابان ناطقان، اجتاحته طفرة معرفية أذهلت كل من تعلق منه أيام الثانوية بطرف، له مشاريع فاخرة، وقد سألته أن يحدثني عن آخر مشاريعه فكتب لي: «كانت الهمة نائمة، وفي يوم عادي وبشكل عفوي حدثني أحدهم أنه قرأ برمضان المنصرم التفسير الفلاني، وهذا الشهر، رمضان 1433هـ، سيقرأ تفسيرًا غيره، قالها بكل بساطة!

استحقرت ذاتي، وعزمت على البدء بأول تفسير، فكان الاختيار على كتاب الظلال، للشهيد سيد قطب تقبله الله، فعقدت العزم على إنهائه برمضان.

بدأت، وكان الأثر يصافحني كل ليلة في قرآن التراويح، الآية من الإمام والتفسير من الذاكرة الطرية حديثة العهد بمعاني القرآن، كانت لهذه القراءة الأثر البين علي؛ لأنك ترى أثرها كل ليلة، فكنت أسرع مما ظننت، فأنجزته في اليوم العشرين ولله الحمد، وكان لها أثر آخر أكثر عمقًا؛ كسرت الحواجز التي بيني وبين مطولات الكتب».

الجدير بالذكر أن تفسير الظلال يقع في 4012 صفحة من القطع الكبير، الكبير جدًا!

هناك الكثير من الشواهد المبثوثة في كتب السير والتراجم، ولكني قصدت أن أقيد ما وقفت عليه بنفسي، فذلك أجدر في إيقاظ همتي وإذكاء همتك، لنستثمر هذه الإجازة التي آذنت أيامها الأولى بالرحيل، {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ}.

ثلاث خطرات في فقه القفزات:

الأولى:

لتكن محدود المصادر، ولا تشتت قفزتك بكثرة منافذ المطالعة، فالمشاريع المرحلية بحاجة إلى مزيد تركيز، وتكثيف للنظر في مساحات محدودة، فإذا عزمت على حفظ عمدة الأحكام فخذ كشف السفاريني أو عدة العطار، وإذا نهضت لبلوغ المرام فلا تجاوز منحة الفوزان، وإذا طمعت في ذوق مستصفى الغزالي فأدن منك مصدرًا أو مصدرين، وليكن إحكام الآمدي مع شرح مختصر الروضة للطوفي، وبس.

الثانية:

أعد متكأ القفزة بعناية، أبلغ في ترتيبه وتطييبه، خلصه من مكدرات العصر، وسائل التواصل الاجتماعي، افعل كل ما يعينك على نجاز مشروعك، ولو كلفك الكثير، ولا تكن شحيحًا، فـ (الاقتصاد الصحيح أن تنفق فيما تحتاج إليه كل مبلغ مهما يكن كبيرًا، وإياك أن تشتري شيئًا لا تحتاج إليه، مهما يكن متدنيًا)، قاله عمر فروخ نقلًا عن عمه حسين.

الثالثة:

لتكن أيام قفزتك كالشركاء المتشاكسين، يقايض بعضها بعضًا، لا تجر بين أيامك عقود تبرع، ولك في أجزاء يومك الواحد مندوحة عن بسط اليد السفلى لبقية الأيام، إذا فاتك نصيب الفجر فأده الظهر، أو العصر فأده مغربًا، وإنما سيل العثرات اجتماع نقط التأجيل.