معادن الرجال
الحديث عن معادن الرجال حديث ذو شجون، فما من شخص عركته الحياة وتوالت عليه الأعوام والسنون في مخالطة الناس إلا وفي ذاكرته أسماء رجال كشف بعضهم عن معدنه الأصيل الغالي النفيس، بينما كشف آخرون عن معدنهم البخس الرخيص.
لا يمكن قياس معادن الرجال بكثرة المال أو علو المنزلة والجاه أو المنصب فحسب، فكم من أناس لم تزدهم كثرة أموالهم إلا بخلًا وشحًا ووضاعة! وكم من آخرين لم ترفعهم مناصبهم ووظائفهم من درك البغي والظلم والدناءة! وكم أظهرت الحياة نفاسة معادن بعض الرجال رغم فقرهم وتواضع منزلتهم!
أكثر ما يكشف حقيقة معادن الرجال، ويظهر جوهر ما تكنه نفوسهم من أصالة أو خساسة، وما تحمله شخصيتهم من قيم ومبادئ راقية أو مصالح ومطامع ومنافع مادية بحتة - هي الشدائد والمحن والملمات، ومن هنا يمكن فهم قول الإمام الشافعي رحمه الله وهو يثني على الشدائد خيرًا بقوله:
جزى الله الشدائد كل خير وإن كانت تُغَصِّصُنِي بِريقي
وما شكري لها حمدًا ولكن عرَفت بها عدوي من صديقي
لم تأت أصالة معدن بعض الرجال ونفاسته من فراغ؛ بل هي ثمرة فطرة إلهية سليمة، تمت سقياها بماء التربية على مكارم الأخلاق ومعالي الأمور، والتمسك بالقيم والمبادئ الفاضلة، وتغذيتها بالغذاء اللازم من العلم والفقه والآداب، ورعايتها الرعاية الدقيقة لحماية تلك النفس النفيسة من علل الأخلاق وأمراض القلوب وما يخل بالمروء والرجولة، والصبر على مخالفة النفس والهوى، والمصابرة على الالتزام بأوامر الله تعالى واجتناب نواهيه، والتأسي بهدي المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
ورد ذكر معادن الرجال في السنة النبوية الشريفة، ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قيل: «يا رسول الله، من أكرم الناس؟»، قال: «أتقاهم»، فقالوا: «ليس عن هذا نسألك»، قال: «فيوسف نبي الله، ابن نبي الله، ابن نبي الله، ابن خليل الله»، قالوا: «ليس عن هذا نسألك»، قال: «فعن معادن العرب تسألون؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام، إذا فَقُهُوا» [صحيح البخاري (3353)].
كان قصد الصحابة بسؤالهم واستفسارهم عن (أكرم الناس) متوجهًا، منذ البداية، لمعادن الرجال، إلا أن بلاغة النبي صلى الله عليه وسلم وحكمته اقتضت أن يبين لهم وجوه الإجابة المتعددة عن هذا السؤال؛ إذ كلمة (أكرم) تحتمل الرجل الجواد السخي، كما تحتمل الكريم النسب والأصل، ناهيك عن كونها تحتمل الرجل النبيل ذو المعدن النفيس.
لقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أن أكرم الناس في دين الله الإسلام هو أتقاهم لله، وذلك بنص قول الله تعالى في محكم التنزيل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13].
ثم ذكر لهم صلى الله عليه وسلم أن يوسف عليه السلام هو أكرم الناس نسبًا، فهو نبي ابن نبي ابن نبي ابن خليل الله ابراهيم عليه السلام، وحين قالوا له: «ليس عن هذا نسألك»، بادرهم بما يريدون، فقال صلى الله عليه وسلم: «فعن معادن العرب تسألون؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام، إذا فَقُهُوا».
ما يلفت النظر في الحديث هو ربطه بين نفاسة معدن الرجل وبين الفقه في دين الله الإسلام، وهي حقيقة لا بد من الوقوف عندها قليلًا؛ إذ قد يغفل الكثير من الناس عن السر الكامن وراء ارتباط فهم دين الله تعالى على حقيقته بنفاسة معادن الرجال.
إن الإنسان لا يمكن أن يوصف بأنه ذو معدن نفيس إلا إذا تحلى بصفات الرجولة؛ من الصدق والكرم والشجاعة والوفاء والحلم والأناة والمروءة والشهامة والنجدة والنصرة، وتعلقت نفسه بمعالي الأمور، وابتعدت عن سفاسفها وتوافهها، يحب العمل والجد والمثابرة، ويكره الكسل والخمول والدعة، بعيد النظر، ذو عقل وبصيرة، لا يتبع هواه، ولا يخضع لشهوات نفسه، ويتحكم بانفعالاته، لا يتعلق بالدنيا تعلق المولع الجشع، ولا يهملها إهمال الجاهل المفرط برعاية من يعول.
ومن دقق في مثل هذه السمات والصفات والمزايا أدرك أنها لا يمكن أن تجتمع برجلٍ ما لم يكن مسلمًا متمسكًا بدين الله، متبعًا لأوامر كتاب الله، متأسيًا بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم على علم وفهم وبصيرة.
لقد صدّقَتْ وقائعُ السيرة النبوية قولَ النبي صلى الله عليه وسلم: «خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام، إذا فَقُهُوا»، فهذا سعد بن معاذ رضي الله عنه كان سيدًا للأوس في المدينة قبل الهجرة النبوية، وحين أسلم على يد مصعب بن عمير، وحسن إسلامه، وتفقه في دين الله تعالى ازدادت مكانته ومنزلته، وكشف الإسلام عن معدنه الثمين الغالي النفيس في كثير من المواقف، أبرزها:
موقفه حين استشار النبيُ صلى الله عليه وسلم أصحابَه قبيل غزوة بدر، وكان يريد الأنصار، فما كان من سعد إلا أن قال: «إيانا تريد, فوالذي أكرمك وأنزل عليك الكتاب، ما سلكتُها قط ولا لي بها علم, ولئن سرت حتى تأتي بَرْك الغِمَادِ من ذي يمن لنسيرنَّ معك, ولا نكون كالذين قالوا لموسى من بني إسرائيل: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما متبعون, ولعلك أن تكون خرجت لأمر وأحدث الله إليك غيره، فانظر الذي أحدث الله إليك فامض له, فصل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت, وسالم من شئت, وعاد من شئت, وخذ من أموالنا ما شئت». [مصنف ابن أبي شيبة (37815)، والسيرة النبوية، لابن كثير (2/ 395)].
وكذلك موقفه من بني قريظة، حين طلبوا أن يحكم فيهم بعد خيانتهم ونقضهم لعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب، وكانوا حلفاء الأوس في الجاهلية، فحكم فيهم بحكم الله تعالى ولم تأخذه في الله لومة لائم.