إدارة الذات الإسلامية
إدارة الذات مجال هام، يشغل قطاعًا عريضًا من المهتمين بالتنمية البشرية؛ في ضوئه تعقد الندوات وورش العمل، ومن أجله تنظم الدورات التدريبية.
مجال كتبت فيه كتابات عديدة، أكثرها غربية، جاءت لتواكب دوامة السرعة اليومية التي خلفها التقدم التكنولوجي.
تلك الكتابات التي أوضحت أن إدارة الذات، في أبسط صورها، هي «قدرة الفرد على توجيه مشاعره وأفكاره وإمكانياته نحو الأهداف التي يصبو إلى تحقيقها».
ولكن، عندما نتناول هذا الموضوع، ونحن أمة إسلامية لها هويتها الخاصة والمتميزة، فإن التناول ينبغي أن يكون بنظرة عقدية، تفرض علينا مجموعة من التساؤلات، وبالإجابة عليها نكون قد قطعنا شوطًا كبيرًا في فهم واستيعاب إدارة الذات.
فبداية نسأل: ما هي الذات التي نريد إدارتها؟
وهل الذات التي نسعى لإدارتها هي الذات التي تحقق هدف الأمة الإسلامية؟
وهل الذات التي تُشكِّل شخصيتنا تسير على هدي الرسول صلى الله عليه وسلم؟
وما هي الينابيع التي تستقي الذات منها زادها؟
أسئلة لا يستطيع أن يجيب عنها إلا صاحب الذات نفسه، وذلك وَفق رؤية شرعية منضبطة.
من هذا المنطلق نبدأ مع الذات الإسلامية التي نريد أن نديرها، ولنسأل: لماذا ندير هذه الذات؟ هل نديرها لله أم لأنفسنا؟ حتى نستطيع الوصول للإجابة السليمة عن هذا السؤال فإننا يجب أن نضع نصب أعيننا الهدي الرباني في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام:162-163]؛ لنصل بذلك إلى رفعة الأمة الإسلامية، مقتفين في ذلك أثر رجال فُتِحت على أيديهم البسيطة، وذُهل الملوك والقياصرة من فن إدارتهم لذاتهم.
فهذا هو المقوقس عندما أرسل رسله إلى جيش عمرو بن العاص رضي الله عنه، إبان فتح مصر، أبقاهم عمرو عنده يومين ليطلعوا على حياة جند رباهم الإسلام، وشَكَّل ذواتهم، ووضع أسس إدارتها، فلما عادوا إلى المقوقس قالوا له: «رأينا قومًا الموت أحب إليهم من الحياة، والتواضع أحب إليهم من الرفعة، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة ولا نهمة، وإنما جلوسهم على التراب، وأكلهم على ركبهم، وأميرهم كواحد منهم، ما يُعرف رفيعهم من وضيعهم، ولا السيد من العبد، وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها منهم أحد، يغسلون أطرافهم بالماء، ويخشعون في صلاتهم».
فقال المقوقس: «والذي يُحلف به، لو أن هؤلاء الرجال استقبلوا الجبال لأزالوها، وما يقوى على قتال هؤلاء أحد».
من هنا، وبعد أن يعرف العبد ما هي الذات، ولماذا يديرها في ضوء عبوديته لله، ننتقل به إلى بعض التوجيهات العملية، التي قد تفيد، بعد توفيق الله سبحانه وتعالى، في فنية إدارة الذات.
1- اصطحاب النية في كل عمل يؤديه الإنسان، يقول ابن الجوزي عليه رحمة الله: «فلا تعظن إلا بنية، ولا تمشين إلا بنية، ولا تأكلن لقمة إلا بنية».
2- تنظيم الوقت، فالوقت عنصر أساسي في الإدارة الفعالة، والتي تحتاج إلى يقظة تكليفية، تلك اليقظة التي ستحقق الذات فيها مأربها، وعمر الإنسان ليس كله يقظة، فهو مقسم ما بين نوم وصبا ويقظة، فليعمل المرء على استثمار يقظته أفضل استثمار ليحصّل أحسن تحصيل، يقول ابن الجوزي رحمه الله: فإذا عاد إلى النظر في مقدار بقائه في الدنيا، فرضنا ستين سنة مثلًا، فإنه يمضي منها ثلاثين سنة في النوم، ونحوًا من خمس عشرة في الصبا، فإذا حسب الباقي كان أكثره في الشهوات والمطاعم والمكاسب، فإذا خلص ما للآخرة وجد فيه من الرياء والغفلة كثيرًا، فبماذا تشتري الحياة الأبدية، وإنما الثمن هذه الساعات؟، فانظر كل ساعة من ساعاتك بماذا تذهب، فلا تودعها إلا إلى أشرف ما يمكن، والساعات تبسط أنفاسًا، وكل نفس خزانة، فاحذر أن يذهب نَفَس بغير شيء، فترى في القيامة خزانة فارغة فتندم.
3- أن يوجه المرء ذاته نحو هدفه مباشرة، وأن يفيد من ملكاته ومواهبه التي منَّ الله عليه بها في تحصيل الكليات التي تعينه في تحقيق هذا الهدف، وأن يحذر من الاشتغال بالاختلاف وفرعيات الأمور، يقول الماوردي عليه رحمة الله في كتابه «أدب الدنيا والدين»: «على طالب العلم أن يجعل ما منّ الله عليه، من صحة القريحة وسرعة الخاطر، مصروفًا إلى علم ما يكون إنفاق خاطره فيه مذخورًا، وكدّ فكره فيه مشكورًا».
4- البعد عن المعاصي؛ لما لها من تأثير مباشر في إعاقة الفرد عن تحقيقه لأهدافه، يقول ابن القيم رحمه الله في كتابه القيم «الجواب الكافي» أن من الآثار القبيحة المذمومة للمعاصي أنها تعسر أمور المرء؛ فلا يتوجه لأمر إلا ويجده مغلقًا دونه أو متعسرًا عليه، وهذا كما أن من اتقى الله جعل له من أمره يسرًا، فمن عطّل التقوى جعل له من أمره عسرًا، كما أن المعاصي تزرع أمثالها، ويولد بعضها بعضًا، حتى يعز عليه مفارقتها والخروج منها.
5- ترتيب الأولويات واستعمال الحكمة في ذلك...، فيرتب العبد أولوياته تنازليًا، فيبدأ بالكليات وينتهي بالفرعيات، لا العكس، سالكًا بذلك مسلك الهدي القرآني في موعظة لقمان الحكيم لابنه؛ حيث بدأ بالكليات ليتدرج معه بعد ذلك، يقول تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظيمٌ}، فبدأ بأعظم الكليات وهي النهي عن الشرك.
6- أن يتعرف الفرد على قدرات نفسه ومواهبه، وأفضل من يكتشف القدرات ويوجهها التوجيه النافع هم العلماء، فتوجيههم يوفر على العبد شقاء السنين، يقول الأستاذ حسن أيوب: «إن مشورة العالم توفر عليك عشر سنوات تفنيها تيهًا في قراءة مجلدات لا تناسبك».
7- داء التسويف داء عضال، يصيب الشباب خاصة، وينتشر انتشارًا مفزعًا، وهو للذات معيقًا ومدمرًا، وتفشل معه إدارة الذات، ومرده إلى عدم حمل الهم، فالذات المريضة بهذا الداء تتحرك دون أن تحمل همًا، فإذا حمل المرء هم المسلمين فلا مجال عنده للتسويف، وسينجح حينها في إدارة ذاته بالسرعة والفاعلية المطلوبين.
8- عدم الركون إلى التقليد الأعمى، وأن يكون المرء متميزًا عن أقرانه، فلا يكون مكررًا بل مكملًا، وهذا لن يتأتى إلا بمزيد من البحث والمجهود للانطلاق من حيث انتهى الآخرون.
9- ألا يترخص العبد عند إدارته لذاته، فالإسلام لا يقوم على أعناق المترخصين، وليعلم العبد أنه لو حيل بين هدفه وتحقيقه بفعل معصية وتوقف هدفه فليعلم يقينًا أنه الخير، وأنه سيعوض خير منه.
10- الانتباه إلى أعداء النجاح، فكلما تميز المرء زاد أعداء نجاحه؛ لأنه بتميزه يكشف عوجهم، فعليه أن يكون ذكيًا في التعامل معهم، وأفضل طريق في ذلك أن يرضي ربه ولو بسخطهم، وأن يجعل البحث عن الحق مقصده، وأن يحذر النفاق بجميع صوره وأشكاله، وأن يصدع بكلمة الحق بأدب وعفة وصدق، وألا يكشف سره وخططه لكل أحد، فمن سيساعده على تطوير أفكاره يستعن به وإلا فلا، وألا يكشف عن فكرته العملية للجميع إلا بعد أن يوفيها حقها من المجهود والإتقان والتمكن.
11- تقسيم إدارة الذات، وذلك على المستويات الآتية:
• علميًا: بترتيب وتنظيم الأولويات العلمية للفرد، والتي تناسب قدراته وميوله وأفضلها وأجلها، وما ينبغي أن تكون عليه هي ما كانت ذات مردود عملي في المجتمع.
• اجتماعيًا: بوضع إطار شرعي منضبط لنموذج الرفيق، سواء كان صديقًا أم زوجة.
• دعويًا: بتحديد الأساليب الدعوية التي تناسب القدرات، والتدريب على التمكن من تلك الأساليب بما يحقق أفضل استفادة من الرسالة الدعوية.
12- تقييم إدارة الذات من حين لآخر؛ فإن المرء بحاجة إلى تقييم أسلوب إدارته لذاته، والمحكم في ذلك هو مدى اقترابه من تحقيقه لهدفه، وعلى ضوء ذلك يتم تعديل أسلوب الإدارة.
وفي النهاية، فإن العبد ينبغي أن يعلم علمًا يقينيًا أنه بإدارته لذاته إنما هو يأخذ بالأسباب، فهو ميسر لما خلق له، وأن الله سبحانه وتعالى يقدر له الخير، وفق الله جميع المسلمين إلى ما فيه الخير والفلاح.
موقع: المسلم