تباريح في الحفظ والفهم
عقد بعض الناس حربًا بين الحفظ والفهم في أحد مضمارين: إما مضمار العجز، وإما مضمار الرأي المبني على الحجج، قوية كانت أو ضعيفة، والمضمار الأول له سوق عند صغار الطلبة، ومتكلفي العلم، والثاني يقول به بعض من لهم باع في العلم وقدم، وحظ منه ليس ينكر.
قد يقال: لا يهم من يقول بذلك، فنحن أمام قول علينا أن نزنه بميزان العلم، ونعرضه على نار النقد، فيتبين لنا صحته من زيفه!
نعم، هذا هو الأصل، لكن من المهم أن يتبين أن بعض الآراء لم تنشأ في أرضية علمية، بل نشأت في أرض عجز وجهل، فلابد من كشف ذلك وبيانه!
وإنما نحن هنا في مقام نقاش الآراء المبنية على الاجتهاد السائغ، ولا حيلة لنا فيمن ذريعته العجز!
( ٢ )
القراءة والتأمل حفظ مصغر!
نعم، إن الحفظ نشأ عن تكرار لعرض المادة المحفوظة على الذهن، ألا ترى أنك إذا كررت قراءة نص عدة مرات، حفظتَه ؟!
قدرٌ من الخلاف لفظيٌّ، ألا تلاحظ ذلك أخي القارئ ؟!
( ٣ )
ذكر الجاحظ في رسائله من مضار الحفظ: أن الحافظ يتكل على محفوظه!
وبيانه: أنك إذا سألت حافظًا عن شيء في المادة التي يحفظها، وقف مليًا ريثما يسترجع حفظه فيخبرك بالجواب، إذن، الحفظ، عنده، مبطٍّئ للاستحضار، بل ربما نسي الحافظ حفظه، فبقي صفر اليدين.
( ٤ )
سل "بعض" من يقول لك: لا تحفظ متنًا فقهيًا، عن مسألة في كتاب الإقرار، وانظر إلى ساعتك واحسب الوقت الذي دامت فيه حمرة "الخجل" على وجهه، وأنصحك بإحضار آخر فصلٍ من كتاب الجنائز من زاد المستقنع والذي يقول فيه الحجاوي: (ويسن تعزية المصاب بالميت)؛ لتشتغل بحفظه، ولا مانع من أن تحضر باب "النّدبة" من ألفية ابن مالك، لتأتي على آخره قبيل رجوع وجه صاحبك إلى حالته الطبيعية؛ فإنه بابٌ ليس بالطويل!
( ٥ )
أحقًا ما يقال: الحفظ مضيعة للعقول الفذة؟
قيل: أضاع من يحض على الحفظ كثيرًا من العقول التي كان حقها أن تبرع وتنبغ، بأن جعلها تجلس في الصفحة الواحدة الوقتَ الطويل، ولو أنه فسح لها مجال القراءة في هذا الوقت لأنجزت عشرات أضعاف ذلك!
( ٦ )
يقول: احضر لي شخصًا حافظًا، وآخر لم يحفظ، لكنه قرأ بتأمل، ووازِن بينهما، ثم أعطني النتيجة!
نعم، سأفعل يا صاحبي، لكنك لم تعدل في القضية!
الحفظ وسيلة غير مقصود لذاته، فإذا ما أردت الموازنة فائتنا باثنين قد حصَّلا الغاية. ائتنا بحافظ فهم ما قد حفظه، وآخر فهم ولم يحفظ، ثم أعطني النتيجة أنت!
وما سوى ذلك حيفٌ!
( ٧ )
"حمار الفروع"، ظلموه!
ذكروا أن رجلًا كان يحفظ كتاب الفروعَ لابن مفلح، والذي سماه ابن رجب: "مكنسة المذهب"، وقد كان هذا الرجل لا يفقه منه شيئًا، إلا أنهم إذا أرادوا نصًا من الفروع سألوه فأجابهم، فسموه "حمار الفروع"؛ لأنه يحمل نصوصًا لا يفقه منها شيئًا، أشبه الحمار يحمل أسفارًا، قالوا: وهذا قياس صحيح، اكتملت شروطه.
يبقى أن أخبرك أن القصة لا خطام لها ولا زمام، فلا تثبتُ، لكني ذكرتها كي أرسم لك صورةً من صور التعلق بالقش!
( ٨ )
أيها الحافظ: لا تظنن أن مهمتك بعد الحفظ انتهت!
قال الإمام أحمد لبعض أصحابه: (فقه الحديث أشق من حفظه).
ما يراد لغيره إذا قصَّر عن الأداء إلى ذلك الغير، لا قيمة له.
( ٩ )
هل يمكن أن يكون ما جرى عليه العلماء على وجه الدهر من الحضِّ على الحفظ والترغيب فيه مجردَ تجارب يجوز عليها الخطأ والصواب ؟!
ما نقرأه في تراجم المتقدمين من قولهم: ( وحفظ كذا، ولم يبلغ إلا وقد أتقن كذا، كان آية في الحفظ ).. كلُّه تجارِب مُحتملة ؟!
( ١٠ )
الحفظ غرور!
قال: رأيناهم يقولون: نحفظ الكتاب والسنة، فإذا نظرنا في قلوبهم رأيناها قد تفحمت سوادًا، وإذا بحثنا عن أعمالهم ألفيناها مكسوة بأردية الرياء، وتأملنا تصرفاتهم فلم نجدها تنفك عن كبر وعُجب!
صبرًا يا أخي.. هذه آفة تطرأ على من حفظ ومن لم يحفظ، فليست هي إذن من خواص المشتغل بالحفظ، بل أزيد: ليست هي من خواص طلبة العلم أصلًا، فهو داء منتشر، في طلبة العلم وغيرهم، من حفظ منهم ومن لم يحفظ، لكن إن قلت: إنه قد يحفظ مئات الأحاديث مثلًا بغير فقه ثم يدعي العلم ؛ اغترارًا بكثرة محفوظه، فقد أتفهم كلامك، فإن سلمت لك به فهو شاذ نادر، لا يقضى به على العام الغالب!
( ١١ )
لماذا نحفظ ؟!
إن قراءةً واحدة لنص مًا بتدبر وتأمل من صحيح الذهن تكفل له التحدث عن مضمونه بيسر، لكن لن يبقى ذلك معه مدة طويلة، فإذا أردنا زيادة هذه المدة لجأنا للحفظ، فالحفظ إذن عبارة عن مولِّد لمجموعة مددٍ لاستحضار النصوص!
( ١٢ )
تساؤلٌ بريء: نبحث عن نماذج برعت " ليس لها حظ ٌ" من الحفظ، فلا نجد! لِمه ؟!
( ١٣ )
هل يُضعف الحفظُ ملَكة الاستحضار ؟
الحق أن هذا سؤال محتاج إلى تفصيل، وإطلاق القول بـ " نعم " أو " لا " فيما حقه التفصيل غلطٌ ؛ فإن ما حقه التفصيل يفصل فيه، فنقول:
إن الحفظ على قسمين:
فالأول: حفظ للألفاظ فقط، وهو على نوعين:
أ. حفظ بلا فهم للمعنى أصلًا، كمن يحفظ نصًا بلغة لا يفهمها، أو متنًا في علم لم يدرسه أصلًا، أو منظومة لم يستشرحها.
ب. حفظ بفهم للمعنى، مع غفلة عنه عند التكرار - لأجل الحفظ - وهذا أحسن حالًا من سابقه.
والثاني: حفظ للمعاني مع الألفاظ، وفي هذا يكون الحفظ مقترنًا بفهمٍ للمعنى، واستحضارٍ تام له عند التكرار.
فأما القسم الأول، فإن صاحبَه مخوفٌ عليه ضعفُ استحضار حفظه ؛ إذ أنه لا يكرر إلا الألفاظ فقط، وأما المعاني، فهو إما في عدم علم بها، أو غفلة عنها، إلا أن النوع الثاني من القسم الأول ( = وهو من يحفظ بفهم مع غفلة عن استحضاره عند التكرار ) أحسنُ حالًا من الأول ؛ إذ أنه يبعد ممن فهم المعنى أن ينفك عن شوبٍ استحضار.
وأما القسم الثاني، فإن صاحبه يكرر المعاني حتى ترسخ في ذهنه.. كما أنه يكرر الألفاظ، وكما أنه زاد مدة استحضار الألفاظ - كما قدمنا - فإنه زاد مدة استحضار المعاني.
والطريقة الأولى في الحفظ أضبط للنص المحفوظ، ولا ينبغي أن يُنكر أنها أسهل عند بعض طلبة العلم.
( ١٤ )
الشناقطة والحفظ!
يا لَلله لِلشناقطة! كم كان انكبابهم على الحفظ واشتغالُهم به سُبَّة لهم عند بعض الناس!
ومع ذلك رأينا منهم العلماءَ الأفذاذَ، لكن هل كان مقدار المحصول متناسبًا مع كمية البذور ؟!
إن كان ثم تفاوت فهو إشكال مرجعه إلى جعل الحفظ غاية لا وسيلة، وهذا ما لا نوافق عليه!
( ١٥ )
هل يُقيِّد الحفظُ صاحبه ؟
قدَّمنا أن إطلاق الكلام في مثل هذه المسائل لا ينبغي، فلابد من تفصيل القول.
إن الحفظ له سلطان على النفس وسطوة ظاهرة لا تُنكر، وهذا شيء ليس بالغريب ؛ لأن الإنسان مجبول على حب الشيء الذي صحبَه المُددَ الطوال، فالحافظ صحب النص المحفوظ وألفاظه مدة ليست باليسيرة ؛ تقلب معه من حين القراءة الأولى، ثم تكراره لأجل الحفظ، ثم مراجعته، فهل ترى أن العلاقة الطويلة هذه بين الحافظ والمحفوظ ستذهب سدى ؟! كلا!
تظهر آثار الحفظ في صاحبه على أشكال متنوعة، أصلُها هو: محاولة توظيف المادة المحفوظة، فتجد الحافظ مكثرٌ مرة من استعمال ألفاظ محفوظه، وأخر من تكرار استخدام معانيه، وربما تقيد بها في بعض المواضع، إلى غير ذلك من أشكال التعلق!
أعطيك مثالًا ليتضح ما وصفتُه لك!
هل جربت مرة أن تأخذ كتابًا من كتب الفقه، وتحفظ منه بابًا معينًا ؟!
جرِّب ذلك، ثم حاول أن تصوغ الباب من فهمك، ستجد نفسك ميَّالة إلى التزام نصوص المؤلف - وإن بشكل يسير - وترتيبه للأفكار، بل ربما نقصت من القيود المهمة ما نقصه، وزدت مما لا يحتاج إليه من القيود ما زاده!
فإن قيل: إذن الأَولى ترك الحفظ، إذا كانت هذه آثاره!
قلت: لا يا صاحبي.. ألا تذكر ما قدمتُه لك من الغرض من الحفظ ؟
تقدم أن الغرض منه بقاء المادة لمدة أطول، فلا نعدو به قدره إذن!
دعنا نأخذ منه ما نحن استعملناه لأجله، ونترك ما سوى ذلك، كيف ؟
على الحافظ ألا يكتفي بمسار واحد في إتقانه للمحفوظ، فعليه أن يقرن إليه - إن رام الضبط - مسارًا آخرَ، وهو ضبط المعاني بطريقة أخرى، كأن يستخدم الخرائط الذهنية، أو التقاسيم، أو الجداول، أو صياغته بطريقة جديدة مباينة لطريقة عرض المادة المحفوظة، أو غير ذلك من المسالك المسهلة للتصور!
فإذا اجتمع لديه هذان الأصلان ( = وهما: الحفظ، وتصور المعاني وفهمها بطريقة أخرى غير الحفظ ) كان لفهمه واستحضاره قوةٌ لا تحصل لمن اكتفى بواحد منهما!
( ١٦ )
بين الحفظ المتقَن والمتهالك!
تجد كثيرًا من يعترض على الحفظ، ويضرب أمثلة لحفظ لم تجتمع فيه الشروط الكافية لما نطلق عليه اسم " الحفظ "، فإن كثيرًا من الناس يدعي حفظ القرآن مثلًا، فإذا قلت له: مستعدٌ للاختبار ؟ قال: لا!
فليس هذا محل بحثنا، لأن حفظَ هذا كعدمه، وإنما نبحث فيمن إذا استدعى حفظه حضر، فهو الذي به يُحاجّ من ينصر مذهب الحفظ!
( ١٧ )
ثمة قدر من الحفظ لا ينبغي أن يكون فيه خلاف، وهو حفظ ما يُحتاج إلى لفظه، ولا يصلح أن يروى بالمعنى كحفظ القرآن، ومنثور كلام العرب ومنظومه.
( ١٨ )
الحفظ يشغل صاحبه عن مقصوده بما لا يعود عليه فيه بنفع، وبهذا اعترض أبو حيان على بعض المتون حيث قال: إنه لم ير قط أعصى منه ولا أصعب، فتضيع السنون في محاولة فهمه وفك غامضه، مما يزاد الفن صعوبة، ولولاه لكن نيله سهل متيسر!
وجواب ذلك: أن هذا راجع إلى إشكال في المادة المحفوظة، لا إلى الحفظ نفسه، فتأمل!
( ١٩ )
طالبَ العلم.. احفظ وافهم، فإلا تفهم.. فلا تغضب من قولهم عنك: " صمَّام "،، وإلا تحفظ.. فوصفهم لبنائك بالضعف غيرُ مستنكر..!
( ٢٠ )
الحفظ والفهم توأمان سياميَّان قلبُهما واحد، ففصلهما متعذِّر..!
المصدر: صيد الفوائد