تعلمت في أسرتي
بكل الفخر، يملؤنا، نقولها ونحن نقصّ على أبنائنا ذكريات الماضي السعيد.
نقولها في اللحظات الحاسمة التي نتصرف فيها وفق مبادئنا وما تعلمناه.
نقولها عندما نقابل أحد الفاقدين لثوابت القيم والأخلاق؛ فنسمع صوت الوالدين والأجداد يأتينا من بعيد، يذكرنا بما علمونا ونحن صغار، فنستهلّ بها كلامنا بدون سابق ترتيب: "لقد تعلمتُ في أسرتي كذا وكذا...".
أعزائي المربين
ماذا تعنى كلمة الأسرة؟
قال ابن منظور: "أُسرةُ الرجل: عشيرتُه ورهطُهُ الأدْنَوْنَ؛ لأنه يتقوى بهم، والأُسرةُ عشيرةُ الرجل وأهلُ بيته".
والأسرة من أعظم نعم الله تعالى على العباد؛ فقد جاء في كتاب الله عز وجل ذِكْرُ الأزواج والبنين والأحفاد، بمعنى الأسرة، وذلك في معرض الامتنان وتعداد النعم، قال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النحل:72].
يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: "يُخبر تعالى عن منَّتِه العظيمة على عباده؛ حيث جعل لهم أزواجًا ليسكنوا إليها، وجعل لهم من أزواجهم أولادًا تَقَرُّ بهم أعينُهم ويخدمُونهُم، ويقضُون حوائِجَهم، وينتفعون بهم من وجوه كثيرة، ورزقهم من الطيبات من المآكل والمشارب والنعم الظاهرة، التي لا يقدر العباد أن يحصوها".
حاجة الإنسان إلى الأسرة:
يحتاج الإنسان إلى الأسرة في مراحل عمره جميعًا؛ فالطفل يحتاج إلى النشأة الطبيعية في أسرة، وإلا كان شاذ الأخلاق، منحرف الطباع، وحاجته إلى أمه وأبيه أصيلة في نفسه، كذلك يحتاج المرء إلى الأسرة شابًا ورجلًا وكهلًا، إذ لا يجد الدفء والرعاية في غيرها، ولا يرضى عنها بديلًا.
وبفضل الحياة في الأسرة يتكون لدى الفرد الروح العائلية والعواطف الأسرية المختلفة، وتنشأ الاتجاهات الأولى للحياة الاجتماعية المنتظمة، فالأسرة هي التي تجعل الطفل مدنيًا، وتزوده بالعواطف والاتجاهات اللازمة للحياة في المجتمع.
وللأسرة في الإسلام مزايا وخصائص:
- مبنية على الاستمرار والدوام:
بينما يقرر علماء الاجتماع المعاصرون أنّ العلاقة الأسرية الخالصة كعلاقة أولية لا تصلح إلا أن تكون غير محدودة المدة، نجد أنّ الإسلام جعل نية الدوام شرط من شروط صحة عقد الزواج، وسمّاه (ميثاقًا غليظًا)؛ حتى لا يكون عرضة للعبث والتلاعب الذي يؤدي إلى انهيار بنيان الأسرة.
- ذات دور إيجابي:
فمن خلالها تتكون وتتسع أشكال العلاقات السليمة والبنّاءة؛ مثل: النسب والمصاهرة، والتي تكوّن أنواع القرابة المختلفة التي جعلها الله تعالى من نعمه على عباده، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} [الفرقان:54]، وأمر بوصلها وحفظها ونهى عن قطعها وتضييعها، قال تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء:26]، بينما نهى الإسلام عن العلاقات السلبية والهدّامة والمفرّقة؛ كتلك التي تنمو في الخفاء، والتي تعد مصدرًا لفساد الأخلاق، وأداة لارتكاب الجرائم والمحرمات، والتي بدورها تؤدي إلى تفكك العلاقات الاجتماعية في الأسرة، بالإضافة إلى أنها تدمر الفرد والمجتمع.
- ذات دور تجميعي:
فمن خلالها يدعو الإسلام إلى الجمع والتآلف بين الناس، من خلال التعارف فيما بينهم كشعوب وقبائل وأسر، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13].
فالأسرة، إذن، ضرورة حتمية يفرضها الواقع والطبيعة البشرية، وهي عماد المجتمع وركيزته الأساسية، تتصف بالاستمرارية والدوام؛ فلا تنتهي إلا بوفاة جميع أعضائها.
الأسرة هي أول وأكثر ما يؤثر على شخصية الطفل:
من الثابت علميًا أنّ الإنسان يولد صفحة بيضاء، خالية من أي اتجاه أو تشكيل للذات، وإنما يحمل الاستعداد لتلقي العلوم والمعارف وتكوين الشخصية والتشكل وفق خط سلوكي معين؛ لذا نجد القرآن الكريم يخاطب الإنسان وفق هذه الحقيقة، ويذكّره بنعمة العلم والتعليم، قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78].
يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: "وإنما قلب الحدث كالأرض الخالية، ما ألقي فيها من شيء قبلته"، ومن هذا الشرح لمدلول الآية تتحدد نظرية المعرفة في الإسلام، وكيفية تكونها لدى الإنسان منذ نشأته الأولى، مؤصلة على قاعدة قرآنية عظيمة، وعلى هذا الفهم، وتلك الأسس العلمية لتلقي المعرفة وتكون الشخصية، تنبني النظرية التربوية في الإسلام، ويبدأ تكليف الأبوين في إعداد الطفل وتربيته وتعليمه.
- أهمية تكامل دور الأب والأم في التربية:
الأب والأم هما قطبا الأسرة؛ لذلك فإنّ التعاون والتنسيق والتفاهم بينهما أساس هام لنجاح التربية القويمة للأبناء، ولبقاء الأسرة متآلفة وقوية، لا تؤثر فيها العوارض والطوارئ التي تمر في حياة الأسر جميعًا، فكما أنّ الطفل يحتاج لعطف وحنان الأم ورعايتها وقربها منه، فإنه يتأثر بقدر عظيم بوالده، والطفل ينظر للأب على أنه يعرف كل شيء، وإن كان يطلب ما يريد من أمه ويشبع معظم احتياجاته من خلالها، وعادةً يتلقى الطفل توجيهات الأب باهتمام أكبر من الذي تناله توجيهات الأم؛ لأن الطفل يدرك بفطرته من صوت الأم نفحة الحنو الغامرة، وكيف أنها سرعان ما تعود إلى طبيعتها معه إذا انقبضت عنه لخطأٍ صدر منه، فصورة الأم المرتسمة في فؤاد الطفل دائمًا هي صورة الحنان والعطف والتسامح، أما صورة الأب عند الطفل، وبرغم الحب المتبادل، فهي صورة الصلابة والحزم ورفق القسوة، والمؤاخذة والتعزير، فإذا ما استثمر حنان الأم وحزم الأب تكامل العطاء التربوي الموجِّه للطفل داخل الأسرة، وتميز له الصواب والخطأ، ونشأ لديه الضمير، واتضحت في ذهنه المبادئ والقيم الصالحة.
دور الأسرة في بناء القيم والسلوك:
للوالِدَيْنِ في إطارِ الأسرة دور هام في تكوين وبناء القيم والسلوكِ لدى أبنائهم، فالتوجيهُ القيمي يبدأُ في نطاقِ الأسرةِ أولًا، ثم المسجد والمدرسة والمجتمع.
فالأسرةُ هي التي تُكْسِبُ الطفلَ قِيَمَهُ فَيَعْرِفُ الَحقَ والبَاطلَ، والخيرَ والشرَ، وَهو يَتلَّقَى هذه القيمِ دونَ مناقشةٍ في سِنيهِ الأولى، حيث تتحددُ عناصرُ شخصيتِهِ، وتتميزُ ملامحُ هويتِهِ، ويتميز سلوكه، وترتسم أخلاقه؛ لذلك فإن من أهم مسؤوليات عائلَ الأسرةِ تعليمِ أهلِهِ وأولاده القيم الرفيعة، والأخلاق الحسنة، وليس التركيز فقط على السعيِ من أجل الرزق والطعام والشراب واللباس، قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه، رضوان الله عليهم: "ارجعوا إلى أهلِيكُم فأقيمُوا فيهم وَعَلِّمُوهم" [رواه البخاري].
يقول ابن القيم رحمه الله: "فمن أهملَ تعليمَ ولدِهِ ما ينفعه، وَتَرَكَهَ سُدى، فقد أَساءَ إليه غايةَ الإساءة، وأكثرُ الأولادِ إِنما جاء فسادُهُم من قِبَلِ الآباءِ وإهمالِهِم لهم، وتركِ تعليمِهِم فرائضَ الدينِ وَسُنَنَه، فأضاعوها صغارًا، فلم ينتفعوا بأنفسِهِم ولم ينفعوا آباءَهُم كِبَارًا".
وهي مصدر الضبط السلوكي للطفل:
إذا لم يستجب الأولاد بالإرشاد والتوجيه يلجأ الأبوان إلى توبيخهم، ثم هجرهم، ثم حرمانهم من بعض الأشياء والأمور المحببة إليهم أحيانًا، وأخيرًا إلى ضربهم، إذا لزم الأمر، لإعادتهم إلى الطريق الصحيح، وهذا القدر من الضبط هو ما ينبغي أن تسير عليه الأسرة، فالحب الفطري للطفل لا يعني بالطبع عدم تأديبه وتعليمه آداب السلوك الاجتماعي منذ الصغر، مثل تعويده على التعامل الحسن مع أصدقائه، وتعويده على احترام من هو أكبر سنًّا منه، وتعميق الرقابة الذاتية لديه، أي قدرته على تحديد الضوابط لسلوكه تجاه الآخرين.
والوسط الذي يهيئ الطفل للتفاعل الاجتماعي:
في أحضان الأسرة يتعلم الأبناء مفردات الأداء الاجتماعي السليم، من خلال ما يشاهده الأبناء في محيط الأسرة من أشكال التفاعل الاجتماعي مع أفراد الأسرة، والأقارب والجيران، ومن خلال إمدادهم بالمهارات اللازمة للعمل بفاعلية في خدمة المجتمع الكبير؛ كالتطوع في الأعمال الخيرية لمساعدة الأسر الفقيرة والمحتاجة, وفي المناسبات المختلفة يتم غرس حسن التصرف والسلوك لدى الأبناء، وتلقينهم ثقافة المجتمع وتقاليده، وتهيئتهم لتحمل مسؤولياتهم الاجتماعية على أكمل وجه.
وأخيرًا أعزائي المربين:
إنّ البشرية كلها في حاجة إلينا؛ إلى عقيدتنا، وفي حاجة إلى مبادئنا، وفي حاجة إلى شريعتنا، وفي حاجة إلى نظامنا الاجتماعي الذي يكفل الكفاية والكرامة لكل فرد.
إنّ مهمتنا أن نتميز، وأن نحمل الشعلة للضالين في شعاب الأرض وفي متاهات الصحراء.
إنّ مهمتنا أن ننقذ البشرية من الحمأة الآسنة التي تتمرغ فيها اليوم، وهذه المهمة الجليلة تبدأ من الأسرة الواعية بمسئوليتها ودورها الكبير، والتي تعرف كيف تمارس الريادة للتائهين، لا أن تذوب معها في تلك الحمأة الآسنة.
هوامش:
- لسان العرب.
- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، العلامة: ابن سعدي.
- الموسوعة في قواعد تكوين البيت المسلم، د.أكرم رضا.
- معالم في تربية الأبناء، د.محمد السقا عيد.
- دليل المعلمين والآباء في تربية الطلاب والأبناء، أحمد متولي.
- العِشْرة الطيبة مع الأولاد، أ. محمد حسين.
1024x768 Normal 0 false false false
المصدر: منبر الداعيات