الهروب من مواجهة الذات
إن المتأمل فيما تعانيه أمتنا، أفرادًا أو جماعات، من أزمات طاحنة، وما يعتريها من مشكلات ضخمة متراكمة في جميع مناحي الحياة، يجد أنها تعود لجملة من الأسباب، أرى من أهمها وعلى رأسها: الهروب من مواجهة الذات.
لقد تأكد لكل ذي بصيرة بالنظرة المتفحصة والإحصاء العلمي الدقيق، من خلال تجارب الأفراد والأمم في الصعود والهبوط وفي النجاح والإخفاق، أن من أهم أسباب سر الفشل الذي يسقط فيه معظمنا هو الهروب من مواجهة الذات، بأخطائها وقصورها.
فالنفس بطبيعتها، تميل إلى الراحة والدعة، وتنفر ممّن يصدها عن هواها، ويلزمها الحق، وتحب من يمدحها، ولو بغير عمل، ويتواءم مع مبتغاها، ومن ثم، فهي تكره التكليف وبذل الجهد في البحث والتحري، وتبحث عن الحلول السهلة، وإن لم تكن من مصلحتها.
ولذا نراها تلجأ في معظم الأمور إلى المنهج التبريري، الذي يبعد بها عن الصدق والمواجهة، ويجنح بها إلي الهروب والمراوغة، وما أسرع ما تعلق الأخطاء على شماعة الغير!
وهذا من أكبر أسباب سيطرة الفكر الخرافي، والاعتماد على الغرائب في حل معظم مشكلاتنا، دون الوقوف على الحلول العلمية والأسباب الحقيقية؛ لأن ذلك لا يكلف النفس وسعًا، ولا يحملها شيئًا؛ وهذا ما يؤدي، بلا شك، إلى استفحال المشكلات وتفاقمها.
إن القرآن قد وضع لنا منهجًا قويمًا في معالجة الأخطاء بصدق وشفافية في مواجهة الذات، من خلال نبي الله آدمَ وزوجِه.
إن نبي الله آدمَ وزوجَه واجها الخطأ بصدق، وحمّلا نفسيهما مسئوليته، ولم ينسبا ذلك إلى إبليس الذي أغواهما {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]، على عكس إبليس اللعين، الذي نسب الإغواء إلى الله عز وجل: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:16].
إن المنهج الإبليسي في التفكير التبريري، ونسبة الأخطاء إلى الغير للأسف يحكم معظم تصرفاتنا؛ مما يجعلنا أفرادًا أو جماعات قد نضفي على آرائنا القداسة، وعلى أفعالنا النزاهة، فما أكثر المبررات التي ترفع عنّا الحرج من الاعتراف بالخطأ ومواجهة الذات!
وإني لأتساءل في ضوء ما أرى:
- إلى متى تُدار الأمور بأهل الثقة والولاء، وقلما تسند لأهل الخبرة والذكاء؟!
- إلى متى يشغلنا المظهر عن الجوهر، والصورة عن الحقيقة، والعاطفة والانفعال عن التعقل والاتزان؟!
- إلى متى نغض الطرف عن مثالبنا ونظل نلطم خدنا بأيدينا، حتى يتسرب منّا المخلصون، ويقل المؤيدون ويكثر المعارضون؟!
- إلى متى ننظر لكل أمورنا بعين الرضا، التي هي عن كل عيب راضية، ولا ننظر لها بعين السخط التي تبدي المساويا؟!
- إلى متى نجيد فن التبرير، ولا ننتبه إلى الأخطاء والتقصير، حتى يدركنا، لا قدر الله، فشل التجربة ووخيم المصير؟!
إلى متى لا نمتثل لمنهج نبي الله آدم وزوجه في الاعتراف بالخطأ، ومواجهة الذات بصدق وشفافية؟!
تأمل منهج النبي صلى الله عليه وسلم من خلال دعائه، في إحياء مبدأ محاسبة النفس، ونقد الذات وهو المعصوم:
- «اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملتُ، ومن شر ما لم أعمل».
- «اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني».
- «اغفر لي جدي وهزلي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي».
- «اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم».
- «اللهم اهدني وسددني».
وقفت طويلًا متأملًا عند قوله صلى الله عليه وسلم: «وكل ذلك عندي»، وقلت: هذا هو حال المعصوم، فكيف حال مَن هو دونه، الذي من طبيعته الخطأ، ولا تؤمن عليه الفتنة، وهو غير معصوم!!
إن حل مشكلاتنا والخروج من أزماتنا وكشف الغم عنا يكمن، أولًا وقبل كل شيء، في إحياء منهج الأنبياء، وهم المعصومون، في مواجهة النفس بصدق، ونقد الذات، كما أدرك صاحب الحوت أنه لا ينجيه من الغم ولا ينقذه مما هو فيه إلا منهج أبيه آدم، {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أن لَا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:87-88].
_____________
موقع: المختار الإسلامي.