التفكير الشبابي
يتضح لنا يوماً بعد يوم أن معظم المشكلات التي يعاني منها الناس، لايعود إلى ما هو موجود في الواقع، ولا إلى ضعف الإمكانات والمعطيات المادية،وإنما يعود إلى قصور في الذهنية، وإلى خلل في رؤية الأشياء، وإلى خلل فيآلية التفكير وعتاد العقل. ولو أننا تأملنا في طريقة تفكير الشباب لوجدناأن لها طابعاً خاصاً يميزها عن طريقة تفكير الشيوخ.
وبما أن التعميم في كل شيء يشكل خطأ في الحكم، فإنه يمكن القول: إن هناكمن الكهول والشيوخ من يفكر بنفس طريقة الشباب؛ لأنه يملك روح الشبابوحيويته وتوقّد ذهنيّته. وهناك أيضاً من الشباب من لا يفكر كما يفكر الشابالذكيّ، وذلك ليس لأنه يفكر بلون آخر من منهجية التفكير، وإنما لأنه لايفكر أبداً! فما معالم تفكير الشباب؟ وما وجه المفارقة بينه وبين تفكيرالشيوخ؟
-1تتعاظم الخبرة لدى الكبار في السن، وتنضج التجربة والرؤى،وتكتمل القناعات. ولهذا -ولا شك- ميزته الكبرى، بل هو إحدى الثمار اليانعةللمعاناة الطويلة والأخطاء المتكررة، لكن لهذا أيضاً مشكلاته وعقابيلهالعديدة، والتي منها كثرة الحديث عن الماضي، والإغراق في تحليله وبيانأزماته وممانعاته. بمعنى آخر يجد الكبير في السن نفسه وكأنه صار مكبلاًمرتبكاً بأثقال التجربة الكبيرة التي خاضها.
إن الخيال ينقل الوعي من بؤرة الخبرة ويجعله على حوافها؛ ليكونمتصلاً بالمظنون والمجهول والمتوهم والمحتمل. وحين تكون الخبرة عريضةوعميقة، فإن مغادرة الخيال لحدودها تصبح أمراً شاقاً. وهذا يجعل المرء يبدو وكأنة يدور حول نفسه أما الشباب، فإن لديهم القليل والقليل جداً ممايمكن أن يتحدثوا عنه، ولهذا ميزاته وسلبياته. حين يفكر المرء من غير خبرةيتكئ عليها فإنه يكون مهدداً بالتهور وبالبعد عن الحدود التي يرسمهاالواقع، وخطورة مثل هذا التفكير تتمثل في اتخاذ قرارات غير عملية، والتطلعإلى الحصول على أشياء لا يمكن الحصول عليها، مما يجعل الشاب يتعرض فيالنهاية إلى موجات من اليأس والإحباط، لكن التفكير الإبداعي يتطلب من المرءأن يكون مستعداً لرؤية الأشياء خارج الأنماط المألوفة، وبعيداً عنالارتباطات السببية المعهودة والمعمول بها، ومن هنا فإن معظم المبدعين هممن الشباب، ومن يكبرهم قليلاً.
إن السذاجة كثيراً ما تكون عبارة عن محرّض لبذل أعظم الجهود وتحمّلأكبر المشاق، وهذا ما نجده لدى الشباب ونجده أيضاً لدى الكتاب، إننا -معشرالكتاب- نتمتع بسذاجة كسذاجة الأطفال؛ إذ نعتقد أن ما نكتبه يؤثر تأثيراًبالغاً في حركة المجتمع، ومع أن هذا قد لا يكون صحيحاً في كثير من الأحيان،وهو مبالغ فيه في معظم الأوقات إلا أنه يشكل الوقود الحيوي للاستمرار فيالكتابة بوصفها عملاً عظيم التكاليف وقليل الجدوى.
-2يحلم الشباب بالأحلام العريضة الطويلة، ويمدون أبصارهم نحوالآفاق البعيدة؛ لأن اعتقادهم بطول المدة المتاحة لهم في هذه الحياة،يحملهم على التفكير والاستثمار في قضايا ومشروعات بعيدة الأمد وذات بعدإستراتيجي، وهذه ميزة كبرى على صعيد تطوير الأمم والشعوب؛ وعلى صعيد تأمينمساقات للعمل والعطاء على صعيد الأفراد، أما الشيوخ فإن إحساسهم بدنو الأجلونفاد الطاقة يجعلهم يفكرون فيما يمكن أن يحدث على المدى القصير، كمايدفعهم في اتجاه التقليل من الحديث عن التغيير والتطوير، مع أن الله تعالىقد ينسأ في الأجل، ويمدّ في الطاقة، مما يمكّن المرء من القيام بالكثير منالأشياء العظيمة.
وإنه لدرس بليغ ذلك الذي نستخلصه من قوله عليه الصلاة والسلام:"إذا قامتالساعة على أحدكم وفي يده فسيلة فليغرسها". إن علينا أن نفكر في المستقبلالبعيد، وأن نؤسس الأعمال الجيدة والمطلوبة بقطع النظر عما إذا كنا نحنسنقطف ثمارها، أو كان من يفعل ذلك من الأبناء والأحفاد.
-3 يتسم تفكير كثير من كبار السن بالتشاؤم، ويتّشح بالسواد، ولاندري تماماً لماذا يكون ذلك؟ هل هو بسبب تراجع القوى والشعور بالضعفوالشعور بالخوف من الموت وما بعده؟ أو أن ذلك يكون بسبب التربية والبيئةاليائسة والمحبطة حيث بلغ التشبع بمعطياتها أقصى مداه؟
أما الشباب فلهشأن مختلف حيث الآمال الغضة والنفوس المتطلعة إلى الأفق البعيد، وحيثالترقب للأشياء السارة والمدهشة، تفكير الشباب تفكير يتسم بسمتين مهمين هماالتفاؤل والمرح.
ضعف الخبرة بظروف الحياة وقيودها يساعد الشباب على التفاؤل ويدفعهمدفعاً في انتظار مباهج الحياة ومسراتها. والمرح شيء طبيعي في النفس البشريةحين تسلم من الشعور بوطأة التكاليف وثقل الأعباء، وهذا موجود لدى الشباب؛إذ تكون مسؤولية إعالتهم على أهلهم، وأعتقد أن في إمكان الشيوخ أن يستفيدوامن الشباب، ويتعلموا منهم هذه الميزة، وذلك بشيء من إدارة الإدراك ومحاولةرؤية الأشياء بطريقة جديدة.
-4الشباب أكثر مواكبة للجديد وأقدر على التلاؤم معه، وهذا يجعلهميعتقدون أن هناك معطيات جديدة في كل مجال من المجالات، ووجودها طبيعيومألوف، والاستجابة لها لا تحتاج إلى تفريغ الذهن من معطيات قديمةومتقادمة؛ إذ لا قديم يذكر لدى الشباب ولهذا فإن الشباب يعملون وفق قاعدة (الجديد صحيح حتى يثبت خطؤه) أما الشيوخ فيعملون وفق مقولة (الجديد يُعاملبتريّث وحذر إلى أن يثبت صوابه). ومع أن أياً من الموقفين لا يكون مناسباًفي بعض القضايا إلا أن الانفتاح على الجديد يظل أقرب إلى الصواب في معظمالأحيان.
5- شبابنا يرون اليوم بأم أعينهم الطفرات المتتابعة في مجال التقنيةوالاتصال والكماليات والمرهفات، وهذا يدعوهم إلى التفكير وفق المقولة (كمترك السابق للاحق)، أما كبار السن فإن امتلاءهم من القديم وعدم تفتّحهم علىالجديد.. يجعلهم يفكرون وفق المقولة الذائعة (ليس في الإمكان أبدع مماكان) ووفق مقولة (ما ترك الأول للآخر شيئاً)، وهذا يعبر عن التوجّس منالجديد، كما يعبر عن التعلّق بالقديم.
نحن في حاجة إلى العمل وفق معادلة صعبة، تقوم على أفضل ما لدىالشيوخ من الأناة والخبرة وعمق التجربة، كما تقوم على أفضل ما لدى الشبابمن توثّب ذهنيّ وتفتح عقليّ وانطلاق روحيّ، ومن يستطيع الجمع بين هاتينالفضيلتين فإنه يستحق بجدارة لقب (شيخ الشباب).
المصدر: موقع الدكتور عبد الكريم بكار