logo

تلبيس الوسطية اللغوية على الشرعية


بتاريخ : الأحد ، 27 ربيع الأول ، 1436 الموافق 18 يناير 2015
بقلم : أ.د. ناصر بن سليمان العمر
تلبيس الوسطية اللغوية على الشرعية

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فإن لفظة الوسطية مصدر غير مسموع في كلام العرب؛ فهي: مصدر صناعي، وهذه المصادر قليلة السماع،

وعادة ما تُستعمَل للدلالة على جوهر الموصوف وحقيقته، وقد توسع المتأخرون في المصادر الصناعية وصدرت قرارات بعض المجامع بتسويغ القياس فيها، لكن اللغويون لا يعبِّرون بالمصدر الصناعي عادة إلا في معاني لا يخدمها المصدر المشتق أو الاسم، فسيخدمونها إذا أرادوا أن يزيدوا في معناه شيئاً أو يخصصوه بأشياء، وغير سائغ عندهم استخدام المصدر الصناعي المقاس بدلاً عن الاسم أو المصدر المعروف دون مقتضٍ لذلك.

وبهذا يُعلَم أن الحديث عن: (الوسطية) بهذا اللفظ حديث عن مصطلح الكل يمدحه، مع أنه مصطلح في واقع الناس اليوم مجمل، يطلقونه ويريدون به معانٍ مختلفة، بعضها حق تدعو إليه الشريعة وتقرره، وبعضها باطل، وبعضها لُبِّس فيه الحق بالباطل، وكلها من حيث اللغة يصح إطلاقه عليها.

ويظهر الحق للمتأمل في تلك المصطلحات إذا نظر إلى الأدلة التـي يوردونهـا في مدح المسـلك الوسـط والدعـوة إليه، كقـول الله - تعالى -:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ إنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 143].

فهذه ونحوها هي المقتضية لمدح المسلك الوسط، وهي التي ينبغي أن تراعى دلالتها عند حديثنا عن الوسطية، دون الموارد الأخرى التي يجيء فيها لفظ (الوسط) على معانٍ أخرى استعملتها العرب، لكن لذمٍّ أو لتزكية مقيدة؛ فالذي يمدح وسطية تتضمن معنى الوسطية الواردة في نحو قوله #: «لعن الله من جلس وسط الحلقة»[1] فقد أبعد النجعة، وهكذا من يقرر أن من معاني الوسطية المحمودة الحياد أو تنصيف المواقف أبداً؛ لأن الوسطية في اللغة تستعمل في البعد المتساوي بين شيئين أو أشياء مطلقاً! فهذا الأخير استعمال عربي فصيح منقول؛ حتى قال بعض أهل العلم: «الوسط اسم للمكان الواقع بين أمكنة تحيط به أو للشيء الواقع بين أشياء محيطة به وليس هو إلى بعضها أقرب منه إلى بعض عرفاً، ولما كان الوصول إليه لا يقع إلا بعد اختراق ما يحيط به أخذ فيه معنى الصيانة والعزة»[2]، فجعل هذا أصلاً فيه وجعل الخيار العدل لازماً له، وهو مسبوق إلى هذا، وفيه بحث.

والمقصود أن إدخال ذلك المعنى اللغوي ونحوه مما قد يرد مذموماً في الوسطية التي أثنت عليها الشريعة غلطٌ، بل غايته أن يكون وسطاً لغة لكنه مذموم شرعاً، والمقياس في الحكم هو الشريعة وما دلت عليه؛ فإن دلت على أن التوسط بالاعتبار كان محموداً، كالتوسط في شؤون الدنيا حُمِد طلب تلك الوسطية، وإن دلت الشريعة على أن طلب المراتب العليَّة في أمور الآخرة هو المحمود، نال النقص من قَعَد عنها بحسب قعوده عما قدر عليه منها، وفي حديث أبي هريرة عند ابن خزيمة وغيره قال #: «إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس؛ فإنه وسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة»[3]، فهذه وسطية مطلوبة، والسعي إليها بالتماس أسبابها مطلوب، وطلب وسط الجنة - أي خيرها وأعلاها - يكون بطلب أوسط الأعمال الموصلة إليها وهي خيرها وأعلاها، وليس المقصود طلب ما كان بين أعلاها وأسفلها؛ فهذه ليست الوسطية هنا.

والله - تعالى - ذكره. قال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]؛ أي عَدْلاً أو عُدُلاً، كما فسرها بذلك النبي #؛ فقد صح عند البخاري من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله # قال: «يجيء نوح وأمته، فيقول الله - تعالى -: هل بلغتَ؟ فيقول: نعم، أي رب. فيقول لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: لا، ما جاءنا من نبي! فيقول لنوح: من يشهد لك؟ فيقول محمد # وأمته. فنشهد أنه قد بلَّغ، وهو قوله - جل ذكره -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}، والوسط العدل»[4]. قال ابن جرير: «أما التأويل فإنه جاء بأن الوسط العدل، وذلك معنى الخيار؛ لأن الخيار من الناس عدولهم»[5]، وقد بيَّن الله - تعالى - الأوصاف التي استحقت بها الأمة الخيرية والتعديل، مع أن دين الله - تعالى - كلـه وسط بين طرفـي الغلـو والجفاء، لكـن النـص علـى بعض تلك الأوصاف ألصقُ بوصف الخيرية من غيره؛ فالحديث عنها حديث عن أهم أوصاف الوسطية المحمودة، ومن تلك الصفات المذكورة في القرآن: ما جاء في قول ربنا - سبحانه -: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْـمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110].

فمن المنهج الوسطي الذي دل عليه القرآن: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإيمان بالله، فمن تحقق بهذه فهو من أهل الوسطية التي تستحق الثناء، ومن وصف الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر بأنهم متشددون فقد جانب سبيل الوسطية، وإن ادعى وسطية أخرى بين الناهين عن المنكر والمقارفين له، وقد تصح من جهة التسمية اللغوية، لكنها مذمومة متوعَّد أهلها!

ومن المنهج الوسطي الذي دلت عليه السنة تعلُّم القرآن وتعليمه، كما قال # في الصحيح: «خير كم من تعلَّم القرآن وعلَّمه»[6]؛ فمن رمى حِلَق التحفيظ القائمة على خدمة كتاب الله علماً وتعلُّماً بمجانبة الوسطية، ولو باسم الدعوة إلى الوسطية فقد جانب سبيل الوسطية المحمودة في الشريعة.

ومن الوسطية حُسْن الخُلُق، فهو من أسباب الخيرية، قال #: «إن من خيركم أحسنكم خلقاً»[7]، وكثير من الأخلاق الفاضلة وسط بين رذيلتين.

وقد تكون الوسطية في التعجيل أو التأخير لا في التوسط بينهما، كما في الحديث: «لا تزال أمتي بخير ما أخروا السحور وعجَّلوا الفطر»[8]. فهذه هي الوسطية التي أثنت عليها الشريعة ودعت إليها، ما كان فيها عدل وثبتت لها الخيرية، ثم هي كثيراً ما تكون وسطاً بين طرفين مذمومين، لكن المهم أن يدرك المثقف أنه ليس كل من توسط بين شيئين قد استحق الخيرية، بل قد يتوسط امرئ بين أمرين ويكـون أسوأ منهمـا حالاً ومـآلاً، كما قـال اللـه - تعالى - في المنافقين: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إلَى هَؤُلاءِ وَلا إلَى هَؤُلاءِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} [النساء: 143]، ثم قال: {إنَّ الْـمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء: 145]، مع أنهم أقسموا أنهم ما أرادوا بتلك المسالك البينية المتذبذبة {إلاَّ إحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء: 62]! وقد عدَّ السلفُ - رحمهم الله - الواقفة في القرآن شرّاً من الجهمية، مع أنهم توسطوا بين الجهمية القائلين بخلق القرآن، وأهل السنة القائلين بأنه غير مخلوق.

وهكذا كل من توسط بين حق مقرر بالأدلة وباطل، فوسطيته تلك وسطية مذمومة؛ قصاراها أن يكون بها خيراً من أهل الباطل المحض. ومن هنا يظهر لك أن دعاة الحياد في كثير من القضايا المتنازع عليها بين مظلوم وظالم، أو حق وباطل، هم أصحاب وسطية لكنها وسطية أشبه بوسطية المذبذبين الأوائل!

أسأل الله أن يرزقنا نصرة الحق وأهله، والصدع بمقتضى دلالة الشريعة وحكمها، وأن يهبنا ديناً وسوطاً، لا هابطاً هبوطاً، ولا ذاهباً شطوطاً، والحمد لله رب العالمين.


[1] رواه أبو داود (4828)، والترمذي (2753)، وقال: «حسن صحيح»، وقد أُعِلَّ بانقطاع فيه.

[2] نص عليه ابن عاشور في التحرير والتنوير: 2/18.

[3] كتاب التوحيد: 1/241، وصححه الألباني في تخريج السنة (581).

[4] صحيح البخاري (3339).

[5] تفسير آية البقرة: 2/627.

[6] صحيح البخاري (5027).

[7] صحيح البخاري (6029).

[8] رواه أحمد (21507)، ومعناه في الصحيحين وغيرهما.

 :: مجلة البيان، عدد"297" شهر جمادى الأولى 1433هـ