logo

الأبناء وانحرافات الجوالات المتطورة


بتاريخ : الخميس ، 17 شعبان ، 1436 الموافق 04 يونيو 2015
بقلم : الهيثم زعفان
الأبناء وانحرافات الجوالات المتطورة

تتلاحق التطورات التكنولوجية يومًا بعد يوم، فما يكاد يظهر جهاز تقني جديد إلا ويلاحقه جهاز أحدث منه، وبإمكانيات أعقد وأعمق، تعقيدات تتسع معها رقعة الفجوة بين جيل الآباء والأبناء في تدارك هذا التطور التقني، بحكم اعتبارات عديدة، أهمها: كثرة احتكاك الأبناء بالمجتمع الخارجي من مدرسة وجامعة وملتقيات شبابية.

قريبًا كنا نتناول سلبيات أجهزة الحاسوب الثابتة، والمتمثلة في توظيفها في ارتياد ومشاهدة المواقع والأفلام والمقاطع الانحلالية، أو التواصل المحرم مع الأجنبيات، وكشف وترويج العورات، وكنا ننادي حينها بتثبيت جهاز الحاسوب في موقع مميز في المنزل، يراه ويشاهده الجميع، وتفعيل برامج الحجب، والتشغيل الآمن، والتتبع التاريخي؛ من أجل المتابعة والتوجيه التربوي المستمر، مع السعي دومًا إلى غرس القيم الدينية، والأحكام الشرعية، ومراقبة الله في وجدان الأبناء؛ كي يتشكل في داخلهم ذلك الدرع العقدي والأخلاقي الواقي، الذي يحميهم بإذن الله من الوقوع في سلبيات وانحرافات تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات.

تطور الأمر، وتيسر حصول الأبناء على أجهزة الحاسوب المحمولة من اللاب توب والآيباد، فتعقد الأمر في المراقبة المنزلية والمتابعة الدقيقة، ليزداد الأمر تعقيدًا بأجهزة الجوالات الحديثة، ذات الإمكانيات والتكنولوجيا الممتدة، وحمل الأبناء لها في كل مكان، وتوظيفها في تحقيق النزوات، والعبث غير الأخلاقي، الذي قد ينتج عنه فضائح أخلاقية، تنتهك الأعراض، وتنتشر كالنار في الهشيم بين أفراد المجتمع، عبر برامج وتقنيات التواصل الاجتماعي؛ كالواتس أب، وتويتر، والفيس بوك، والبلوتوث.

وحتى ندرك أبعاد المشكلة فإننا بحاجة، ابتداءً، إلى إلقاء الضوء على أبرز سلبيات أجهزة تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات المتقدمة والمحمولة، في أيدي الأبناء، وبخاصة المراهقين منهم، والتي يمكن أن تأخذ الصورة التالية:

1- ارتياد المواقع الانحلالية، وسهولة تحميل وتبادل ومشاهدة مقاطع الفيديو والصور الانحلالية، والتأثر بذلك في السلوكيات العامة؛ ومن ثَم تزيين الوقوع في الموبقات والكبائر.

 

2- إقامة العلاقات العاطفية، والانحلالية أحيانًا، وإجراء التواصل المحرم مع الأجنبيات والأجانب خلسة من الآباء، خاصة وأن الجهاز التقني المحمول صغير الحجم نسبيًا، ويصاحب الابن أو البنت المراهقين في كل مكان يمكنهما ارتياده.

 

3- الأزمة المركبة والمعقدة أن أجهزة تكنولوجيا الاتصالات الحديثة تزين للمغيب، الواقع في براثن الخطيئة أو مقدماتها، أن يقوم بالتوثيق بالصوت والصورة لزلات البنات وهفواتهن؛ بل وزلات نفسه وهفواتها، فتقع المقاطع الموثقة للجريمة الانحلالية بعد ذلك في يد الغير، فيحدث الابتزاز أحيانًا، والتشهير في معظم الأحيان، وتتعقد الفضيحة، وتنشب الخلافات العميقة داخل المجتمع؛ والبنت في الغالب هي الضحية.

 

4- في ظل كثرة الأجهزة التكنولوجية الحديثة، وسهولة حملها من قبل المراهقين، يصير تصوير اللقاءات الخاصة، والحفلات والأعراس؛ بل وتصوير المواقف الحياتية الخاصة في الحياة المنزلية الطبيعية أمرًا ميسورًا، وفي ظل حماقات بعض المراهقين، والأطفال أحيانًا، أو القرصنة أو السرقة أو اطلاع الغير على خصوصيات المنازل وحرماتها، قد يحدث ما لا تحمد عقباه، وتتسرب الصور والفيديوهات الخاصة، وتحدث الأزمات المجتمعية والأخلاقية، وكثير منها يكون كارثي، وتحدث على أثره مشكلات أسرية كبرى.

 

5- في ظل تطور برامج وتقنيات التواصل الحديثة نجد أن الصور الخاصة تنتشر بطريقة سريعة، والمتربصين بالمحرمات والمحارم كُثر، والنتائج لا ترضي دائمًا أصحاب الأخلاق الحميدة، وتصطدم مع قيم المجتمع وثوابته الشرعية والعقدية والأخلاقية.

 

6- حمل الأبناء، وبخاصة الصغار منهم، لأجهزة الاتصالات المعقدة يجعلهم أصدقاء دائمين للألعاب الغربية المجسمة، وهي مليئة بكثير من الانحرافات الأخلاقية والعقدية، وممتلئة كذلك بالعنف المركب، الأمر الذي قد ينعكس بدوره على أداء الأبناء مع أقرانهم في جَدهم وهزلهم.

 

7- على أفضل تقدير، وبعيدًا عن الاستثمار الانحلالي لهذه الأجهزة التكنولوجية، فإن المتتبع لأحوال الأبناء مع هذه الأجهزة يجد أنها أحدثت عندهم نوعًا من الانعزال، والانشغال بعالمهم التقني الجديد عن الأسر الحاضنة لهم، الأمر الذي قد ينعكس على الرباط الاجتماعي بين الأبناء والآباء، ويخلخل القناة التربوية بين الطرفين، ويفتح قناة تربوية موازية، يتلقى منها الابن مكونه التربوي بصورة قد تكون مغايرة تمامًا لواقع البيئة المحيطة، ومكونها الثقافي والعقدي والتربوي.

 

8- قد يمتد الأمر لانشغال الأبناء بعالمهم التقني عن التحصيل الدراسي؛ مما يؤثر على مستوى الطلاب وأدائهم العلمي.

 

9- قد يمتد الأمر أيضًا إلى انشغال الأبناء بعالمهم التقني عن العبادات والواجبات الشرعية، ويكون التقصير في أدائها هو السمة المميزة لهم.

 

10- هناك بُعد اقتصادي شديد الخطورة في حمل المراهقين والأطفال لأجهزة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات المتطورة، فالقيمة المادية لهذه الأجهزة عالية نسبيًا، فلو اعتبرنا أن متوسط قيمة الجهاز ألف دولار، وهناك أسرة بها أربعة أبناء، فإن قيمة أجهزة الأبناء المحمولة فقط في هذه الأسرة أربعة آلاف دولار، إضافة لجهازي الأب والأم، فضلًا عن الكلفة الدورية المالية العالية لخدمات وبرامج الأجهزة التقنية، والتي تمثل استنزافًا شهريًا يُحمل على أعباء الأسر الاقتصادية، ويؤثر على المسار المالي العام للمجتمع المسلم بصورة إجمالية.

فالسعودية على سبيل المثال، وبحسب دراسة أجريت تحت مظلة مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، تمتلك عددًا من مستخدمي الهواتف المحمولة أكثر من أي دولة في العالم، حيث وصل عدد أجهزة الهاتف إلى 180 جهازًا مقابل كل 100 مواطن سعودي، بواقع 56 مليون جهاز محمول داخل المملكة، بينما وصلت نسبة مستخدمي الهواتف المحمولة المتطورة في المملكة إلى 54 بالمئة من جملة الأجهزة، و65 بالمئة منهم يستخدمون هواتفهم للوصول إلى الإنترنت بشكل يومي، فما بالنا ودورة المال في هذه الصناعة والتجارة التكنولوجية تصب في معظمها خارج العالم الإسلامي، على الأقل على مستوى الجهاز نفسه.

 

11- هناك بعد اقتصادي هام لا يفوتنا، وهو عدم مراعاة مشاعر الأسر الفقيرة، فبعد أن كنا نناشد الأسر الميسورة بمراعاة مشاعر الأسر الفقيرة، عندما تهندم وتزين أبناءها بطريقة مبالغ فيها؛ الأمر الذي جعل أحد أسباب الزي الموحد في المدارس هو تكريس السواسية، ومراعاة مشاعر الفقراء، وهذا هندام لا تتعدى قيمته عشرات الدولارات، أصبحنا الآن نناشد الآباء مراعاة مشاعر الأسر الفقير في حمل الأبناء لأجهزة تقنية بمئات؛ بل آلاف الدولارات.

 

12- لا نستطيع أن نهمل الانعكاسات الصحية لهذه الأجهزة التكنولوجية على صحة الأبناء ونموهم، فساعات المتابعة والمشاهدة ترهق العين، وتسبب لها الكثير من المشكلات البصرية، كما أنها تشرد الذهن، وترهق البدن، وتؤثر على عضلات الجسم، وفقرات الظهر، وبنيان الشاب في سن مبكر.

 

فبعد أن كان سمت مرحلة المراهقة والطفولة الحركة، والرياضة، وتنفس الهواء النقي في الأندية والمنتزهات، أصبحت الألعاب الرياضية مقتصرة على خيال المراهق وشاشة جهازه.

 

بعد هذا الاستطلاع المختصر لسلبيات وانحرافات الأبناء مع الجوالات المتطورة نتساءل: هل من خطوات عملية تُمكِّن الآباء من تدارك هذه الأزمة، التي تتفاقم يومًا تلو الآخر، وتنعكس سلبياتها على المكون العقدي والأخلاقي والعلمي والصحي والاقتصادي للأبناء وأسرهم؟

 

أولًا: ينبغي ابتداءً أن تدرك الأسر أن هناك أزمة فعلية، قد لا تكون واضحة للعيان، تتمثل في الاستثمار السيئ للأجهزة الإلكترونية الحديثة في يد الأبناء، وأن هذه الأجهزة على صغر حجمها إلا أنها تستطيع تدمير مستقبل الولد أو البنت، وقد يمتد التدمير إلى الأسرة نفسها؛ فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته.

 

ثانيًا: عطفًا على النقطة السابقة، فإن الأسر بحاجة إلى تكريس المكون التربوي والعقدي، الذي يعظم في نفوس الأبناء حرمات الله، ويضبط لديهم ضوابط التعامل الشرعي مع النزوات والرغبات، ويربطهم دومًا بالله سبحانه وتعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، والمحافظة على الطهارة والصلوات، ومراقبة الله سبحانه وتعالى في كافة السكنات والحركات.

 

ثالثًا: أن تتساءل الأسر، خاصة التي لديها أبناء في مرحلة المراهقة، عن الهدف من الأجهزة الحديثة؛ وستجد أن هناك هدفين رئيسيين:

 

الأول: الاتصالات الهاتفية.

 

والثاني هو الإنترنت، وما يتعلق به من تطبيقات.

 

وحسبي أن الجوال العادي، غير المتصل بالإنترنت وغير المزود بتقنيات التواصل وتحميل المقاطع والألعاب السيئة، قد يحقق الهدف الأول، والحاسوب، الموضوع في موضع مميز بالمنزل، قد يحقق الهدف الثاني بالنسبة لمن هم دون المرحلة الجامعية، أو ذوي التصرفات الراشدة المنضبطة؛ لذا، فما هو المانع أن تكون هناك مبادرة مجتمعية تربوية، يحمل في ضوئها الأبناء الجولات الآمنة من الاتصال بما قد يدمر أخلاقهم وصحتهم؟، على أن يكون التواصل عبر الإنترنت من خلال متابعة الآباء لأبنائهم، والعبور بهم إلى بر الأمان.

 

ثالثًا: أعلم أن سياسة المنع قد لا تكون حلًا جذريًا للمشكلة، وأن هناك ضرورة ملحة للترشيد الإيجابي، لتوظيف الأبناء لهذه الأجهزة المتطورة فيما ينفعهم، وينمي قدراتهم العلمية، لكن يبقى أن جيل الأجداد لم يترك في يد الأبناء شرائط الفيديو، والمجلات البذيئة، وقالوا: علينا الترشيد الإيجابي، فسن المراهقة سن حرج للغاية، والأبناء والبنات بحاجة لمن يمد اليد كي يعبر بهم المرحلة الحرجة والخطرة بأمان، لا أن يضع النار بجوار البنزين، ويقول للبنزين: إيّاك إياك أن تشتعل.

 

رابعًا: أدعو من هذا المنبر وزارات التربية، في كافة البلدان، أن يُفَعِّلوا قيمة السواسية في المدارس، وأن تمنع الطلاب والطالبات من حمل تلك الأجهزة التقنية في المدارس، مع تفعيل الضوابط الأخلاقية والعلمية في التعامل الإيجابي مع أجهزة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.

 

خامسًا: هناك دور هام يقع على الدعاة والخطباء في توجيه أولياء الأمور من خلال المساجد، المنابر الدوية، في متابعة الأبناء، وترشيد استخدامهم لتلك الأجهزة التقنية، مع وضع برامج استيعابية للأبناء تواكب التطور العصري، وتقلل من الاستثمار السلبي والانحلالي لهذا التطور.

 

يبقى في الختام أن هناك دورًا هامًا يقع على خبراء التربية في العصف الذهني؛ للخروج بأفضل النتائج التي تُمكِّن الآباء، بإذن الله، من التعامل الإيجابي مع هذه الأزمة، وفي هذا الصدد فإنني أقترح عمل دليل استرشادي للأسر عن كيفية التوجيه الإيجابي للأبناء؛ كي يحققوا أعلى استفادة من أجهزة التقنيات الحديثة، دون الوقوع في براثن موبقاتها ومهلكاتها؛ حفظ الله الأبناء وسترهم، وأقر أعين آبائهم وأسعدهم بهم.

المصدر: موقع المسلم