الهجرة فعل دائم في المكان والنفس والفكر
على عكس ما هو معروف عن الإنسان من أنه مدني بطبعه، بما يستلزم ذلك ثباتًا في المكان نوعًا ما، واستقرارًا بالبيئة إلى حد كبير؛ حتى يمكن أن ينشأ عن هذا الثبات والاستقرار حضارة بالمكان، وتعمير له، واستثمار لموارده، وتعظيم للمواد الموجودة به.. فإن الهجرة تبدو فعلاً مهمًّا للإنسان، لا يقل عن حاجته للاستقرار.
فكم كانت الهجرات في التاريخ البشري سببًا لاستكشاف أمم وبيئات، وكم كانت وراء معرفة عوالم جديدة أكثر ثراءً وأشد تنوعًا.. وما زالت الهجرات أحد الأسباب المهمة لتبادل الخبرات، وتطعيم بيئة ما بروافد جديدة، ومهارات مضاعفة..
والدول الذكية هي من ترى في المهاجرين إضافة لها، لا عبئًا عليها؛ فضلاً عما في استقبال المهاجرين من معان إنسانية ينبغي أن نتحمل تكلفتها، حتى لا تتحول الحياة إلى “مادة” بما في ذلك حقوق الإنسان الأساسية!
هذا عن الهجرة بوجه عام.. أما الهجرة في المنظور الإسلامي فلا تختلف كثيرًا عن هذه المعاني..
صحيح أن الهجرة المخصوصة قد انقطعت بفتح مكة، لكن الهجرة كفعلٍ مستمرٍ باقيةٌ متى توافرت دواعيها وأسبابها؛ ولهذا جاء في الحديث عن ابن عباس أنه قال: “قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ لَا هِجْرَةَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا” (متفق عليه).
قال ابن حجر في (الفتح): قوله : (باب لا هجرة بعد الفتح) أي: فتح مكة، أو المراد ما هو أعم من ذلك إشارةً إلى أن حكم غير مكة في ذلك حكمها؛ فلا تجب الهجرة من بلد قد فتحه المسلمون، أما قبل فتح البلد فمن به من المسلمين أحد ثلاثة:
الأول قادر على الهجرة منها لا يمكنه إظهار دينه ولا أداء واجباته، فالهجرة منه واجبة.
الثاني قادر لكنه يمكنه إظهار دينه وأداء واجباته، فمستحبة لتكثير المسلمين بها ومعونتهم وجهاد الكفار والأمن من غدرهم والراحة من رؤية المنكر بينهم.
الثالث عاجز يعذر من أسر أو مرض أو غيره، فتجوز له الإقامة فإن حمل على نفسه وتكلف الخروج منها أُجِرَ. أ.ه.
كما أن بالحديث إشارة مهمة، وهي أن الهجرة ليست فقط فعلاً في المكان، وإنما هي أيضًا فعلٌ بالنفس يقتضي الجهاد والنية والاستعداد للنفرة والتضحية. والحديث الصحيح “الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ “، هو أوضح في الدلالة على هذا المعني الذي نريد لفت النظر إليه؛ فالهجرة ليست فقط فعلاً خارج النفس، يعني الانتقالَ من مكان إلى آخر؛ وإنما هي كذلك فِعلٌ داخل النفس، يعني الانتقال من حال إلى حال: من المعصية إلى التوبة، من الشرود إلى الأوبة، مما يُغضب الله إلى ما يرضيه.. وهي بهذا المعني فعل مستمر، غير محصور في زمن من الأزمان.
بجانب ذلك، فالهجرة فعل عقلي يقتضي الانتقال من فهم إلى فهم، ومن فكر إلى فكر، ومن عالم أفكار ومفاهيم ونظريات إلى عوالم أخرى أكثر إبداعًا، وأقدر على تلبية الحاجات، ومراعاة التغيرات، واستشراف المستجدات. فالهجرة، إذن، فعل في المكان.. وفي النفس (أو الحال).. وفي العقل (أو الفكر)..
إن الجمود العقلي الذي أصاب المسلمين وقعد بهم عن النهوض بتكاليف الرسالة الخاتمة التي أنيطت بهم، بل وقعد بهم عن الرقي بأحوالهم وتمدينها.. هذا الجمود آن لنا أن نهجره، إلى تفتح عقلي وإبداع فكري، وإلى رؤى أكثر اتساعًا وأكثر إدراكًا بالواقع.
بل إن الأفهام الخاطئة للإسلام، والتي حسبناها- نتيجة التراكمات- أمورًا صحيحة لا غبار عليها.. هذه الأفهام آن لنا أن نعيد النظر فيها، ونغربلها؛ لنستبقي الصحيح منها ونطرح السقيم؛ حتى لا يكون حالنا مثل حال السابقين، حين قابلوا دعوات الأنبياء لهم بهجران ما نشأوا عليه من عبادة الأوثان أو من المعصية والكبائر، بالرفض والتكذيب مستندين إلى أن هذا ما نشأوا عليه، وما توارثه عمن قبلهم! {وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} (الزخرف: 23).
آن لنا أن نهجر الفهم التجزيئي للإسلام إلى الفهم الكلي، الذي يراعى المقاصد والغايات، ويفهم الإسلام كمنهج كلي مترابط.. وليس كنصوص متقطعة يضرب بعضها بعضًا، أو يَرضى من الإسلام بناحية من النواحي، هروبًا من التكاليف والتبعات؛ فيصوِّر الإسلام كما لو كان مذهبًا روحيًّا لا شأن له بالحياة، ولا دخل له في تصحيح مساراتها ونُظمها..!
آن لنا أن نهجر طريقة ليِّ النصوص، واعتساف التفسير، لتوافِق الأحكام أهواءنا ومصالحنا.. ينبغي أن تكون الأحكام هي القاطرة ونحن من خلفها نسير، وعلى ضوء هديها نرتب حياتنا.. وليس العكس؛ فنتخذ الإسلام مطية للأهواء، وذريعة لإضفاء الشرعية على الانحرافات!
آن لنا أن نهجر تصوراتنا غير المنضبطة عن الذات.. عن الآخر.. عن مضامين الرسالة وآليات التغيير.. عن الأولويات.. عن الثوابت وكيف نحافظ عليها.. عن المتغيرات وكيف نستوعبها.. عن المستجدات وكيف نستعد لها.. عن الثبات والخيط الفاصل بينه وبين الجمود.. عن التجديد وكيف لا يكون تبديدًا وتفلُّتًا..! أمور كثيرة- من المفاهيم والتصورات، والآليات والوسائل- تنتظر منا هجران الخطأ منها إلى الصواب.. حتى تكون الهجرة فعلاً عقليًّا فكريًّا، بمثل ما هي فعل نفسيّ، وفعل مكانيّ..
المصدر: إسلام أون لاين