logo

الورع يا رجال الصحوة


بتاريخ : الأحد ، 12 ربيع الأول ، 1438 الموافق 11 ديسمبر 2016
بقلم : محمد بن عبد الله الدويش
الورع يا رجال الصحوة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

الورع مصطلح نبوي شرعي؛ فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا اللفظ في قوله: «يا أبا هريرة، كن ورعًا تكن أعبد الناس، وكن قنعًا تكن أشكر الناس، وأَحِبَّ للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنًا، وأحسن جوار من جاورك تكن مسلمًا، وأقل الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب» [رواه ابن ماجه]، وقال صلى الله عليه وسلم: «فضْل العلم أحب إليَّ من فضل العبادة، وخير دينكم الورع» [رواه البزار والطبراني في الأوسط من حديث حذيفة، ورواه الحاكم أيضًا من حديث سعد رضي الله عنهما].

فالورع إذًا مصطلح شرعي نبوي، وإن كان ليس من شروط هذه المصطلحات أن ترد بنصها عن النبي صلى الله عليه وسلم، فما دام المصطلح لا يعارض النصوص الشرعية فلا مشاحة في الاصطلاح.

أما الأدلة على معنى الورع دون لفظه فهي كثيرة في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومنها:

- حديث النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الحلال بَيِّن وإن الحرام بين، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام؛ كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه...» [رواه البخاري ومسلم وابن ماجه وأبو داود والترمذي والنسائي].

- حديث النواس بن سمعان قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال: «البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس» [رواه مسلم والترمذي والدارمي].

وحين جاء وابصة بن معبد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له صلى الله عليه وسلم: «جئت تسأل عن البر والإثم... استفت نفسك، استفت قلبك يا وابصة»، ثلاثًا «البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك» [رواه أحمد الدارمي]، ولا شك أن هذا الحديث مع ما فيه من الدلالة على الأمر بالتورع مما حاك في الصدر، وإتيان ما اطمأنت إليه النفس، فهو إشارة إلى حال الصالحين، وحال قلوبهم التي ترى بنور الله سبحانه وتعالى، فتطمئن هذه القلوب للبر والهدى والتقى والصلاح، وتشعر باشمئزاز ونفور من الإثم وأسبابه، ولو أفتاها الناس، وهذا المقياس في مسألة البر والإثم ليس إلا لعباد الله الصادقين؛ بل لعله أن يكون أمارة نختبر بها قلوبنا، فإن كانت تطمئن للبر، والصلاح، والتقوى، وتشمئز من المعصية، والسيئة، وتنفر منها، فهي قلوب صالحة بإذن الله، وإن كانت دون ذلك فهي بحاجة إلى تزكية وإصلاح.

 

الورع عند السلف:

قال ابن القيم رحمه الله في المدارج: «وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم الورع كله في كلمة واحدة، فقال: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) [رواه مالك وأحمد وابن ماجه والترمذي]، فهذا يعم الترك لما لا يعني من الكلام، والنظر، والاستماع، والبطش، والمشي، والفكر، وسائر الحركات الظاهرة والباطنة، فهذه الكلمة كافية شافية في الورع».

وقال إبراهيم بن أدهم: «الورع ترك كل شبهة، وترك ما لا يعنيك هو ترك الفضلات».

وقال إسحاق بن خلف: «الورع في المنطق أشد منه في الذهب والفضة، والزهد في الرياسة أشد منه في الذهب والفضة؛ لأنهما يبذلان في طلب الرياسة».

وقيل: «الورع الخروج من الشهوات وترك السيئات».

وقيل: «من دق في الدنيا ورعه أو نظره جل في القيامة خطره».

وقال يونس بن عبيد: «الورع: الخروج من كل شبهة ومحاسبة النفس».

وقال سفيان الثوري: «ما رأيت أسهل من الورع، ما حاك في نفسك اتركه».

وقال سهل: «الحلال هو الذي لا يعصى الله فيه، والصافي منه الذي لا ينسى الله فيه».

وقال الحسن: «مثقال ذرة من الورع خير من ألف مثقال من الصوم والصلاة».

وقال أبو هريرة: «جلساء الله غدًا أهل الورع والزهد».

وقال بعض السلف: «لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس»، ويروى مرفوعًا.

وقال بعض الصحابة: «كنا ندع سبعين بابًا من الحلال مخافة أن نقع في باب الحرام».

 

 قواعد وضوابط في الورع:

هي قواعد مهمة حول الورع، وأكثرها مما قررها شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله، فله حديث حول الورع في مجموع الفتاوى في الجزء العاشر، وفي الجزء العشرين.

 

القاعدة الأولى: الورع منه واجب ومنه مستحب:

كثير من الناس حينما يطلق مصطلح الورع ينصرف ذهنه إلى دقائق الورع، والبعد عن المشتبهات، فيرى أن الورع ليس ضمن دائرة الواجبات، إنما هو مقام للخاصة والصالحين، وليس واجبًا على آحاد الناس، قال شيخ الإسلام: «فأما الورع المشروع المستحب، الذي بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم، فهو اتقاء ما يخاف أن يكون سببًا للذم والعذاب عند عدم المعارض الراجح، ويدخل في ذلك أداء الواجبات، والمشتبهات التي تشبه الواجب، وترك المحرمات والمشتبهات التي تشبه الحرام، وإن أدخلت فيه المكروهات، قلت: يخاف أن تكون سببًا للنقص والعذاب، وأما الورع الواجب فهو اتقاء ما يكون سببًا للذم والعذاب، وهو فعل الواجب وترك المحرم، والفرق بينهما [أي بين الورع الواجب والمستحب] فيما اشتبه أمن الواجب أم ليس منه، وما اشتبه تحريمه أَمِن المحرم أم ليس منه».

 

القاعدة الثانية: أن ما لا ريب في حِله ليس فيه ورع؛ بل الورع فيه من التنطع:

قال رحمه الله: «وأما ما لا ريب في حله فليس تركه من الورع، وما لا ريب في سقوطه فليس فعله من الورع».

 

القاعدة الثالثة: لا ورع عند وجود المعارض الراجح:

قال رحمه الله: «وقولي عند عدم المعارض الراجح فإنه قد لا يترك الحرام البين أو المشتبه إلا عند ترك ما هو حسنة، موقعها في الشريعة أعظم من ترك تلك السيئة؛ مثل: أن يترك الائتمام بالإمام الفاسق فيترك الجمعة والجماعة والحج والغزو، وكذلك قد لا يؤدي الواجب أو المشتبه إلا بفعل سيئة أعظم إثمًا من تركه؛ مثل من لا يمكنه أداء الواجبات من الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر لذوي السلطان إلا بقتال فيه من الفساد أعظم من فساد ظلمه».

 

القاعدة الرابعة: الورع يكون في الفعل كما هو في الترك:

وذلك أن البعض من الناس يعتقد أن الورع يكون في الترك، قال شيخ الإسلام: «لكن يقع الغلط في الورع من ثلاث جهات: أحدها اعتقاد كثير من الناس أنه من باب الترك، فلا يرون الورع إلا في ترك الحرام لا في أداء الواجب، وهذا يبتلى به كثير من المتدينين المتورعة؛ ترى أحدهم يتورع عن الكلمة الكاذبة، وعن الدرهم فيه شبهة لكونه من مال ظالم، أو معاملة فاسدة، ويتورع عن الركون إلى الظلمة من أجل البدع في الدين وذوي الفجور في الدنيا، ومع هذا يترك أمورًا واجبة عليه، إما عينًا وإما كفاية، وقد تعينت عليه من صلة رحم، وحق جار ومسكين وصاحب ويتيم وابن سبيل، وحق مسلم وذي سلطان وذي علم، وعن أمر بمعروف ونهي عن منكر، وعن الجهاد في سبيل الله، إلى غير ذلك مما فيه نفع للخلق في دينهم ودنياهم مما وجب عليه، أو يفعل ذلك لا على وجه العبادة لله تعالى؛ بل من جهة التكليف ونحو ذلك».

 

القاعدة الخامسة: أن الورع إنما هو بأدلة الكتاب والسنة:

قال رحمه الله: «الجهة الثانية من الاعتقاد الفاسد أنه إذا فعل الواجب والمشتبه، وترك المحرم والمشتبه، فينبغي أن يكون اعتقاد الوجوب والتحريم بأدلة الكتاب والسنة وبالعلم لا بالهوى، وإلا فكثير من الناس تنفر نفسه عن أشياء لعادة ونحوها، فيكون ذلك مما يقوي تحريمها واشتباهها عنده، ويكون بعضهم في أوهام وظنون كاذبة، فتكون تلك الظنون مبناها على الورع الفاسد، فيكون صاحبه ممن قال الله تعالى فيه: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهوَى الأَنفُسُ...[23]} [سورة النجم]... ومن هذا الباب الورع الذي ذمه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لما ترخص في أشياء، فبلغه أن أقوامًا يتنزهون عنها، فقال: «ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه، فوالله، إني لأعلمهم بالله، وأشدهم له خشيةً» [رواه البخاري ومسلم]، وكذلك حديث صاحب القبلة، ولهذا يحتاج المتدين المتورع إلى علم كثير بالكتاب والسنة والفقه في الدين، وإلا فقد يفسد تورعه الفاسد أكثر مما يصلحه، كما فعله الكفار وأهل البدع من الخوارج والروافض وغيرهم».

 

القاعدة السادسة: الورع لا يكون إلا بالإخلاص:

قد تأتي الإنسان اعتبارات تدفع إلى الورع، فقد يكون له مقام واعتبار، ويرى أنه مما ينبغي ألا يليق بأمثاله أمام الناس، فيكون دافعه إلى ذلك مراءاة الناس، وقد يكون دافعه حظ النفس أو هوى النفس، أو غيرها من الأمور، فالورع، مثل سائر الأعمال الصالحة، لا بد فيه من الإخلاص، قال شيخ الإسلام: «واعلم أن الورع لا ينفع صاحبه ويكون له ثواب إلا بفعل المأمور به من الإخلاص».

 

القاعدة السابعة: التدقيق في مسائل الورع للخاصة وليس لآحاد الناس:

قال الحافظ ابن رجب: «وهاهنا أمر ينبغي التفطن له؛ وهو أن التدقيق في التوقف عن الشبهات إنما يصلح لمن استقامت أحواله كلها، وتشابهت أعماله في التقوى والورع، فأما من يقع في انتهاك المحرمات الظاهرة، ثم يريد أن يتورع عن شيء من دقائق الشبه، فإنه لا يحتمل له ذلك؛ بل ينكر عليه، وهذا حال بعض المتكلفين المرائين يسلك هذا المسلك، كما قال ابن عمر لمن سأله عن دم البعوض من أهل العراق: انظروا إلى هذا، يسألني عن دم البعوض وقد قتلوا ابن النبي صلى الله عليه وسلم، وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «هما ريحانتاي من الدنيا» [رواه البخاري].

 

وهذا الأمر مهم أن نعيه ونحن نقرأ بعض الروايات عن السلف في ورعهم؛ حتى لا نقع في هذا الغلط الذي له آثار سلبية على نفوسنا، فنحن أحوج ما نكون إلى الورع الواجب، وأحوج ما نكون إلى اجتناب المحرمات الظاهرة الواضحة، وأحوج ما نكون إلى إصلاح قلوبنا، فإذا انشغلنا بهذه الدقائق تركت آثارًا على أنفسنا، منها: أن تشعر أنفسنا بالزهو، واحتقار الآخرين، وأن الناس لا يتورعون، ومنها: أن تنشغل النفس عما هي أولى به من إصلاح القلب والورع الواجب.

 

نماذج من الورع:

 

ورع النبي صلى الله عليه وسلم:

عن أنس رضي الله عنه قال: «مر النبي صلى الله عليه وسلم بتمرة, مسقوطة, فقال: (لولا أن تكون من صدقة لأكلتها)» [رواه البخاري ومسلم].

 

وكان صلى الله عليه وسلم نائمًا فوجد تمرةً تحت جنبه فأخذها فأكلها، ثم جعل يتضور من آخر الليل، وفزع لذلك بعض أزواجه، فقال: «إني وجدت تمرةً تحت جنبي فأكلتها، فخشيت أن تكون من تمر الصدقة» [رواه أحمد].

 

من ورع السلف:

 

أبو بكر رضي الله عنه:

فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يومًا بشيء فأكل منه أبو بكر, فقال له الغلام: (أتدري ما هذا؟)، فقال أبو بكر: (وما هو؟)، قال: (كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية، وما أحسن الكهانة، إلا أني خدعته، فلقيني فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلتَ منه)، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه» [رواه البخاري).

 

مع أن هذا الأمر لا يلزمه، والطعام ليس حرامًا لأنه أكله وهو لم يعلم بتحريمه، وهو معذور كل العذر في ذلك، ولكن هذا من ورعه رضي الله عنه.

 

وسقط من كهمس دينار ففتش عنه فلقيه، ثم لم يأخذه، قال: «لعله غيره».

 

وعن ابن المبارك قال: «استعرت قلمًا بأرض الشام على أن أرده، فلما قدمت مرو نظرت فإذا هو معي، فرجعت إلى الشام حتى رددته على صاحبه».

 

وروى ابن أبي الدنيا في الورع أن امرأة من الصالحات أتاها نعي زوجها وهي تعجن، فرفعت يدها من العجين وقالت: «هذا طعام قد صار لنا فيه شريك»؛ لأن هذا الطعام قد صار للورثة.

 

هذه بعض النماذج من ورع السلف، والأمثلة على ذلك كثيرة، وحين تقرأ في أي كتاب من كتب التراجم لا تخطئك مثل هذا المواقف وغيرها عن سلف الأمة رضوان الله عليهم.

 

الصحوة والورع:

تحدثنا حول قضايا لتأصيل الورع، وبعض القواعد المهمة فيه، ثم نعود بعد ذلك إلى الحديث إلى الصحوة وحاجتها إلى الورع، وهي تتمثل في أمور:

 

الأمر الأول: أن نكون قدوة في الورع:

فنحن أولًا نحتاج إلى الورع في الجانب الشخصي والسلوك عند الناس، فنحن قدوة أمامهم، بدءًا بالورع الواجب مما أوجبه الله، من فعل الواجبات وترك المحرمات، ولعلنا نتساءل بأسى وحزن: أين نماذج العباد الصالحين، الأخيار الأتقياء، التي كنا نسمع عنها في حياة السلف؟ أين صور العبادة والإقبال على الله، والزهد والورع والخوف من الله وصلاح القلوب؟ أين تلك الأحوال التي سقنا بعضها، والتي نسمع عنها من أخبار السلف؟ ما بالنا حينما نسمعها نشكك فيها أو في نسبتها، أو نبحث عن المعاذير لأننا لم ترق نفوسنا أصلًا لإدراك هذه المعاني؟!

 

ها نحن نرى جيل الصحوة المبارك وقد ملأ الآفاق، وانتشر بحمد الله، وعلا صوته، فهل نرى في جيلنا العباد والزهاد والورعين؟ نحن لا نحكم على الناس، ولا شك أن هذا الجيل فيه خير كثير والحمد لله، لكننا نفتقد هذا الجانب كثيرًا في سلوكنا، ونحن أحوج ما نكون إلى دعوة الناس بأعمالنا وسلوكنا، فالمقالة التي يقولها المرء قد تحرك القلوب وتؤثر في النفوس، وقد تسطر وتتداولها الأجيال، لكنها لا ترقى إلى موقف وحدث يروى، فيترك أثرًا عظيمًا في النفوس أبعد بكثير من آثار هذه الكلمة المجردة، لماذا لا نسعى أن نتمثل هذه النماذج في أنفسنا؟ فندعو الناس بأعمالنا وأحوالنا قبل أن ندعوهم بأقوالنا، وأن نكون ممن إذا رءوا ذكر الله عز وجل؟!

 

الأمر الثاني: تربية الجيل على الورع:

ثمة سؤال له أهميته يفرض نفسه: ما مدى اعتنائنا بهذه الأمور في تربيتنا لجيل الصحوة؟ وأين موقعها من أهدافنا وبرامجنا التربوية؟ إن هذا الجيل المقبل اليوم على التدين، من الشباب والفتيات، ينظر الناس إليه بعين الأمل، وينتظرون منه الكثير، وفي المقابل ينظرون إليه بنظرة المشفق الخائف عليه من ألا يواصل الطريق، فهو جيل يعاني في ظل هذا الواقع من أزمات ومن مشكلات، يعاني من تفتح أبواب الفساد والمعصية أمامه، ومن ثم فهو أحوج ما يكون إلى أن يربى على الورع والتقوى، من خلال اختيار المربين الذين يعيشون هذه المعاني، ومن خلال الاعتناء بتناول هذه الموضوعات فيما يُقدم للشباب من برامج تربوية.

 

إنه جيل محاط بفتن الشهوات والشبهات، وبوسائل تصده عن سبيل الله وتفتنه، إن هؤلاء وأولئك لو تربوا على الورع والإيمان والتقوى والصلاح لسمت نفوسهم، ولاستطاعوا بإذن الله وتوفيقه اجتياز هذا البلاء وهذا الامتحان.

 

الأمر الثالث: الورع عن ترك الدعوة:

من العجائب أن ترى من الناس من يسكت ويقعد عن الدعوة؛ فيتورع عن الحديث إلى الناس، وعن نشر علم آتاه الله إياه، ولا يتورع من أن يكون ممن قال الله سبحانه وتعالى فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ يَكتُمُونَ مَا أَنزَلنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالهُدَى مِن بَعدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصلَحُوا وَبَيَّنُوا...(160)} [سورة البقرة]، فمن الذي يتورع من أن يكون من أهل هذه الآية؟ إنه يتورع من أن يقول ما لا يفعل، أو يعرفه الناس ويشيروا إليه بالصلاح، لكنه ينسى أنه قد يكون ممن يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون، وممن يكتم ما أنزل الله من البينات والهدى، أو أن يلجمه الله بلجام من نار يوم القيامة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة» [رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه]، فكما أننا ينبغي أن نتورع في كلامنا ومنطقنا فلا يتحدث المرء إلا بما يعلم، ولا يقول إلا ما يحسن، ولا يدعو إلا بعلم، فيجب أن نتورع عن كتمان العلم.

 

لقد أخذ الله الميثاق على الذين أوتوا الكتاب أن يبينوه للناس: {وَإِذ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِم وَاشتَرَوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئسَ مَا يَشتَرُونَ (187)} [سورة آل عمران] ومن هم أهل العلم؟ إن أهل العلم هم كل من آتاه الله علمًا في مسألة من المسائل، فمن علم أمرًا من شرع وتيقنه فهو من أهل العلم في هذا الميدان، ويصدق عليه قول الله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكتُمُونَ مَا أَنزَلنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالهُدَى مِن بَعدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)} [سورة البقرة] وكان بيان الحق مما بايع عليه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، كما في حديث عبادة بن الصامت قال: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في المنشط والمكره، وألا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم» [رواه البخاري ومسلم].

 

إذًا فالقعود عن المشاركة في الأعمال الدعوية، وعن إنكار المنكرات، وعن تعليم ما يحتاجه الناس هو إخلال بالورع الواجب، وهو مجلبة لاستحقاق لعنة الله، ولعنة اللاعنين، وهذا من كيد الشيطان ببعض المتدينين والعابدين.

 

الأمر الرابع: الورع عن القول على الله بغير علم:

وكما أن المسلم يجب أن يتورع عن كتمان العلم وترك بيانه، فعليه أن يتورع من أن ينطبق عليه قول الله تعالى: {قُل إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنهَا وَمَا بَطَنَ... وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعلَمُونَ (33)} [سورة الأعراف]، أو قوله: {وَلَا تَقفُ مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ إِنَّ السَّمعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنهُ مَسئُولًا (36)} [سورة الإسراء]، وعليه أن يعلم أنه مسئول أمام الله عن كل كلمة يقولها، فيبذل جهده ووسعه في البحث عن الحق، والله سبحانه وتعالى يغفر له؛ بل هو مأجور على اجتهاده، وحينما تريد أن تقول كلمة تنقل عنك، أو تريد أن تنكر منكرًا أو تأمر بمعروف، فعليك أن تسأل نفسك: هل هذا مما يرضاه الله ويرضاه رسوله صلى الله عليه وسلم؟ هل هذا مما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ هل هذا من الحق الذي لا مرية فيه؟ أم أن ثمة مداخل؟ فعليه أن يتورع، ويعلم أنه مُوَقع عن رب العالمين.

 

الأمر الخامس: التورع في الأنشطة الدعوية والتربوية:

يقع بعض المربين في مخالفات شرعية ظاهرة واضحة، وكثيرًا ما ننسى الضوابط الشرعية المهمة في مثل هذه الميادين، فمن ذلك:

 

أن نتصور أن المربي ينبغي أن يعلم من أحوال من يربيه أمورًا كثيرة، فيعطي نفسه صلاحيات واسعة تتيح له تجاوز كثير من الضوابط الشرعية.

 

إن الأصل أن أعراض الناس محفوظة لا يجوز الحديث عنها، ولا ذمهم ولا غيبتهم، وحين تأتي حاجة تتيح ذلك فإنها ينبغي أن تكون محصورة في هذه الدائرة، فأحيانًا يغفل المرء عن هذا فيتوسع في مثل هذه الميادين، وتتحول الحاجة إلى قاعدة عامة، وننسى أن أعراض المؤمنين أعراض محفوظة، وأن الحديث عنهم في غيبتهم داخل في قول الله: {وَلَا يَغتَب بَعضُكُم بَعضًا أَيُحِبٌّ أَحَدُكُم أَن يَأكُلَ لَحمَ أَخِيهِ مَيتًا فَكَرِهتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)} [سورة الحجرات]، والتطلع على دقائق أمور الناس وخفاياهم أمر حرمه الله عز وجل، فقال: {وَلَا تَجَسَّسُوا} [سورة الحجرات].

 

وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه مأمور بأن يعامل الناس على ظاهرهم، فقال: «... إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم» [رواه البخاري ومسلم]، وتوعد صلى الله عليه وسلم من تتبع عورات الناس بقوله: «...من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله» [رواه الترمذي]، وهذا نص عام يخاطب كل الناس، ومن يتولى أمرًا أو مسئولية لا يعفيه ذلك من هذا الخطاب.

 

فينبغي أن نراجع أنفسنا في أعمالنا الدعوية، وفي جهودنا، ووسائلنا، وبرامجنا، هل هي تنضبط بالضوابط الشرعية أم لا؟ ويجب أن نعرف أن الداعية والمربي غير مُعفى من النصوص الشرعية، وأنه مخاطب بها، شأنه شأن سائر الناس، وقد يظن بعضهم أن في هذا الأمر مصلحة شرعية، ولو كان كذلك لأجازه النبي صلى الله عليه وسلم للزوج، ولاستجاز أن يستمع لمن يخبره عن أصحابه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: [لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئًا...] رواه الترمذي وأبو داود.

 

إن الواجب على الداعية أن يتعامل مع الظاهر، والظاهر مرآة للباطن، في الغالب، فما يُسِره الإنسان لا بد أن يظهر على جوارحه.

 

وصورة ثانية من الإخلال بالورع الشرعي الواجب؛ ما نراه الآن من كثير من الدعاة على مستوى العالم الإسلامي، من أعمال وتصرفات وتجاوزات فيها مجاوزة لحدود الله؛ كالتحالف مع الأحزاب العلمانية؛ بل وُجِد من الدعاة من يثني على الاشتراكيين، ويثني على الشيوعيين، أو الترخص في كثير من الأحكام الشرعية؛ كالاختلاط، وسفر المرأة دون محرم، وغير ذلك.

 

ويجب أن نتساءل: هل نحن نراجع برامجنا ووسائلنا وفق الضوابط الشرعية ابتداءً؟ أم أننا نذهب لتسويغها بعد أن نعملها؟ ففرق بين صورتين:

 

الأولى: أن نتخذ القرار، ثم نذهب للبحث عما يسوغه ويبرره.

 

والثانية: أن نأتي متجردين لله، ونبحث ورائدنا هو الحق.

 

إن أي إنسان صاحب هوى يستطيع أن يصرف النصوص الشرعية كما يشاء، فإذا قررت أمرًا ثم ذهبت بعد ذلك تبحث له عن مسوغ شرعي، فسوف تجد ألف شبهة وشبهة، كما يقول أحد علماء السوء: أعطوني أي قانون من القوانين المترجمة عن الفرنسية والإيطالية، فأخرجها لكم على الفقه الحنفي أو على الفقه المالكي.

 

ومن ذلك أن يكون التأصيل الشرعي قضية لاحقة، إنما جاء إسكاتًا لأولئك الذين تساءلوا: ما مدى الانضباط الشرعي في هذا العمل؟ وما مدى اتفاقه مع الضوابط الشرعية والمنهج الشرعي؟

 

نسأل الله الهداية والسداد والصلاح، وأن يرزقنا وإياكم الورع، ويجعلنا وإياكم من المتورعين الصالحين، إنه سميع مجيب.

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.

 

المصدر: موقع مداد