أوصاف المفارقين لأهل السنة والجماعة
المفارقون للسنة يدفعهم إلى ذلك أمران رئيسيان:
الأول: هو الجهل بالحق فيحكمون بالظن بلا علم. والثاني: الهوى فيحكمون بالظلم بلا عدل.
(وقد كان أولهم خرج على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما رأى قسمة النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: يا محمد! اعدل فإنك لم تعدل، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: لقد خبت وخسرت إن لم أعدل. فقال له بعض أصحابه: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق. فقال: إنه يخرج من ضِئضىء هذا أقوام يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم) الحديث.
فكان مبدأ البدع هو الطعن في السنة بالظن والهوى، كما طعن إبليس في أمر ربه برأيه وهواه [ج3، ص350]، والمفارقون للسنة يدفعهم الجهل والهوى إلى ...كثرة الآراء وتضاربها واختلافها من جهة، وإلى التفرق والشقاق والمعاداة من جهة أخرى.
إن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، لا سيما المتأخرون من الأمة الذين لم يحكموا معرفة الكتاب والسنة، والفقه فيهما، ويميزوا بين صحيح الأحاديث وسقيمها، وناتج المقاييس وعقيمها. مع ما ينضم إلى ذلك من غلبة الأهواء، وكثرة الآراء، وتغلظ الاختلاف والافتراق، وحصول العداوة والشقاق.
فإن هذه الأسباب ونحوها مما يوجب (قوة الجهل والظلم) اللذين نعت الله بهما الإنسان في قوله: [وحَمَلَهَا الإنسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً] [الأحزاب: 72]، فإذا منَّ الله على الإنسان بالعلم والعدل أنقذه من هذا الضلال [ج3، ص378].
والمفارقون للسنة قد يدفعهم إلى ذلك الغلو الذي ذمه الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.
(فإذا كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وخلفائه الراشدين، قد انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة حتى أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقتالهم فيعلم أن المنتسب إلى الإسلام أو السنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضاً من الإسلام والسنة، حتى يدعي السنة مَن ليس من أهلها، بل قد مرق منها وذلك بأسباب منها الغلو الذي ذمه الله - تعالى - في كتابه حيث قال: [يَا أَهْلَ الكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ولا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلاَّ الحَقَّ..] الآية [النساء: 171].
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين) وهو حديث صحيح.
ومنها التفرق والاختلاف الذي ذكره الله - تعالى - في كتابه العزيز. ومنها أحاديث تُروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي كذب عليه باتفاق أهل المعرفة، يسمعها الجاهل بالحديث فيصدق بها لموافقة ظنه وهواه.
(وأضل الضلال) اتباع الظن والهوى، كما قال - تعالى - في حق من ذمهم: [إن يَتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ ومَا تَهْوَى الأَنفُسُ ولَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهُدَى] [النجم: 23] وقال في حق نبيه -صلى الله عليه وسلم-: [وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ ومَا غَوَى (2) ومَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى (3) إنْ هُوَ إلاَّ وحْيٌ يُوحَى] فنزهه عن الضلال والغواية اللذين هما الجهل والظلم: فالضال هو الذي لا يعلم الحق، والغاوي الذى يتبع هواه، وأخبر أنه ما ينطق عن هوى نفسه، بل هو وحي أوحاه الله إياه، فوصفه بالعلم، ونزهه عن الهوى) [ج3، ص 383].
والمفارقون للسنة: منهم قوم جهال بالدين ومنهم قوم منافقون، ومنهم قوم سماعون للمنافقين يقبلون منهم، وكل من هذه الأصناف قد يكون فتنة للصنف الآخر.
(قد يقع التنازع في تفصيل الكتاب فتارة يكون بين العلماء المعتبرين في (مسائل الاجتهاد) ، وتارة يتنازع فيه قوم جهال بالدين، أو منافقون، أو ... سماعون للمنافقين. فقد أخبر الله - سبحانه - أن فينا قوماً سماعين للمنافقين يقبلون منهم.. وكثيراً ما يضيع الحق بين الجهال الأميين وبين المحرفين للكلم الذين فيهم شعبة نفاق.. فإما أن تضل الطائفتان، ويصير كلام هؤلاء فتنة على أولئك حيث يعتقدون أن ما يقوله الأميون هو غاية علم الدين، ويصيروا على طرفي نقيض، وإما أن يتبع أولئك الأميون أولئك المحرفين في بعض ضلالهم. وهذا من أسباب تغيير الملل، إلا أن هذا الدين محفوظ) [ج25، ص128-131].
والمفارقون للسنة مغالون في التعصب للأشخاص بلا علم ولا عدل، ومغالون في التعصب في المسائل التي يسوغ فيها الاجتهاد مع البغي والعدوان على المخالف لهم.
(فمن جعل شخصاً من الأشخاص غير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أحبه ووافقه كان من أهل السنة والجماعة، ومن خالفه كان من أهل البدعة والفرقة - كما يوجد ذلك في الطوائف من أتباع أئمة في الكلام في الدين وغير ذلك - كان من أهل البدع والضلال والتفرق) [ج3، ص347].
(ومن والى موافِقه وعادى مخالفه وفرق بين جماعة المسلمين، وكفّر وفسق مخالفه دون موافقه في مسائل الآراء والاجتهادات، واستحل قتال مخالفه دون موافقه، فهؤلاء من أهل التفرق والاختلاف) [ج3، ص349].
(إن الناس لا يفصل بينهم النزاع إلا في كتاب منزل من السماء، وإذا ردوا إلى عقولهم فلكل واحد منهم عقل. ومن هنا يعرف ضلال من ابتدع طريقاً أو اعتقاداً زعم أن الإيمان لا يتم إلا به. مع العلم بأن الرسول لم يذكره، وما خالف النصوص فهو بدعة باتفاق المسلمين.. ويروى عن مالك - رحمه الله - أنه قال: )إذا قل العلم ظهر الجفاء، وإذا قلت الآثار كثرت الأهواء).
ولهذا تجد قوماً كثيرين يحبون قوماً ويبغضون قوماً لأجل أهواء لا يعرفون معناها ولا دليلها، بل يوالون على إطلاقها أو يعادون من غير أن تكون منقولة نقلاً صحيحاً عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وسلف الأمة، ومن غير أن يكونوا هم يعقلون معناها، ولا يعرفون لازمها ومقتضاها. وسبب هذا إطلاق أقوال ليست منصوصة، وجعلها مذاهب يدعى إليها، ويوالى ويعادى عليها، وقد ثبت في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول في خطبته: (إن أصدق الكلام كلام الله.. إلخ ) فدين المسلمين مبني على اتباع كتاب الله وسنة نبيه وما اتفقت عليه الأمة، فهذه الثلاثة هي أصول معصومة، وما تنازعت فيه الأمة ردوه إلى الله والرسول. وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصاً يدعو إلى طريقته، ويوالي ويعادي عليها، غير النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا ينصب لهم كلاماً يوالي عليه ويعادي، غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمة. بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصاً أو كلاماً يفرقون به بين الأمة، يوالون به على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون. والخوارج إنما تأولوا آيات القرآن على ما اعتقدوه، وجعلوا من خالف ذلك كافراً؛ لاعتقادهم أنه خالف القرآن، فمن ابتدع أقوالاً ليس لها أصل في القرآن، وجعل من خالفها كافراً كان قوله شراً من قول الخوارج) [ج 20، ص163-164].
فالمفارقون للسنة إذن يقدمون بين يدي الله ورسوله: فيخرجون عن السنة أولاً، ثم يبادرون أهل السنة بالبغي والظلم والعدوان، فيخرجون عن الجماعة ...
ثانياً، وهذا هو الأصل الذي تدور حوله وتتولد منه البدع والأهواء! ... ...
(أول البدع ظهوراً في الإسلام وأظهرها ذماً في السنة والآثار: بدعة الحرورية المارقة.. ولهم خاصتان مشهورتان فارقوا بهما جماعة المسلمين وأئمتهم:
- إحداهما: خروجهم عن السنة، وجعلهم ما ليس بسيئة سيئة، أو ما ليس بحسنة حسنة، وهذا الوصف تشترك فيه البدع المخالفة للسنة، فقائلها لابد أن يثبت ما نفته السنة وينفي ما أثبتته السنة، ويحسّن ما قبحته السنة أو يقبح ما حسنته السنة، وإلا لم يكن بدعة، وهذا القدر قد يقع من بعض أهل العلم خطأً في بعض المسائل، لكن أهل البدع يخالفون السنة الظاهرة المعلومة. والخوارج جوزوا على الرسول نفسه أن يجور ويضل في سنته، ولم يوجبوا طاعته ومتابعته، وإنما صدقوه فيما بلغه من القرآن دون ما شرعه من السنة التي تخالف - بزعمهم - ظاهر القرآن، وغالب أهل البدع غير الخوارج يتابعونهم في الحقيقة على هذا، فإنهم يرون أن الرسول لو قال بخلاف مقالتهم لما اتبعوه..
- الفرق الثاني في الخوارج وأهل البدع: أنهم يكفرون بالذنوب والسيئات، ويترتب على تكفيرهم بالذنوب استحلال دماء المسلمين وأموالهم، وأن دار الإسلام دار حرب ودارهم هي دار الإيمان. وكذلك يقول جمهور الرافضة، وجمهور المعتزلة، والجهمية، وطائفة من غلاة المنتسبين إلى أهل الحديث والفقه ومتكلميهم فهل أصل البدع التي ثبت بنص سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإجماع السلف أنها بدعة، وهو جعل العفو سيئة وجعل السيئة كفراً.
فينبغي للمسلم أن يحذر هذين الأصلين الخبيثين، وما يتولد عنهما من بغض المسلمين وذمهم ولعنهم واستحلال دمائهم وأموالهم. وهذان الأصلان هما خلاف السنة والجماعة، فمن خالف السنة فيما أتت به أو شرعته فهو مبتدع خارج عن السنة، ومن كفر المسلمين بما رآه ذنباً، سواء كان ديناً أو لم يكن ديناً، وعاملهم معاملة الكفار فهو مفارق للجماعة. وعامة البدع والأهواء إنما تنشأ من هذين الأصلين.
أما الأول فشبه التأويل الفاسد أو القياس الفاسد: إما حديث بلغه عن الرسول لا يكون صحيحاً، أو أثر عن غير الرسول قلده فيه ولم يكن ذلك القائل مصيباً، أو تأويل تأوله من آية من كتاب الله أو حديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صحيح أو ضعيف، أو أثر مقبول أو مردود، ولم يكن التأويل صحيحاً، وإما قياس فاسد أو رأي رآه اعتقده صواباً وهو خطأ.
فالقياس والرأي والذوق هو عادة خطأ المتكلمة والمتصوفة وطائفة من المتفقهة وتأويل النصوص الصحيحة أو الضعيفة عامة خطأ طوائف المتكلمة والمحدثة والمقلدة والمتصوفة والمتفقهة. وأما التكفير بذنب أو اعتقاد سني فهو مذهب الخوارج. والتكفير باعتقاد سني مذهب الرافضة والمعتزلة وكثير من غيرهم. وأما التكفير باعتقاد بدعي فقد بينته في غير هذا الموضع [ج12، ص464 وبعدها].
ودون التكفير قد يقع من البغض والذم والعقوبة - وهو العدوان - أو من ترك المحبة والدعاء والإحسان - وهو التفريط - ببعض هذه التأويلات مما لا يسوغ، وجماع ذلك ظلم في حق الله - تعالى - أو في حق المخلوق. كما بينته في غير هذا الموضع، ولهذا قال أحمد بن حنبل لبعض أصحابه: أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس) [ج19، ص71-75].
والمفارقون للسنة منهم المغالون المعتدون ومنهم المفرطون الجاهلون:
صار كثير من أهل البدع مثل الخوارج والروافض والقدرية والجهمية والممثلة - يعتقدون اعتقاداً هو ضلال يرونه هو الحق، ويرون كفر من خالفهم في ذلك، فيصير منهم شوب قوي من أهل الكتاب في كفرهم بالحق وظلمهم للخلق.
ولعل أكثر هؤلاء المكفرين يكفر (بالمقالة) التي لا تفهم حقيقتها ولا تعرف حجتها.
وبإزاء هؤلاء المكفرين بالباطل أقوام لا يعرفون اعتقاد أهل السنة والجماعة كما يجب، أو يعرفون بعضه ويجهلون بعضه، وما عرفوه منه قد لا يبينونه للناس بل يكتمونه، ولا ينهون عن البدع المخالفة للكتاب والسنة، ولا يذمون أهل البدع ويعاقبونهم، بل لعلهم يذمون الكلام في السنة وأصول الدين ذماً مطلقاً، لا يفرقون فيه بين ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع. وما يقوله أهل البدعة والفرقة، أو يقرون الجميع على مذاهبهم المختلفة كما يقر العلماء في مواضع الاجتهاد التي يسوغ فيها النزاع، وهذه الطريقة قد تغلب على كثير من المفارقين للسنة الذين سقطوا في هذه البدع وفي غيرها لأنهم يقرنون بين الخطأ والإثم.
(فأما الصديقون والشهداء والصالحون فليسوا بمعصومين، وهذا في الذنوب المحققة، وأما ما اجتهدوا فيه: فتارة يصيبون، وتارة يخطئون، فإذا ما اجتهدوا فأصابوا فلهم أجران، وإذا اجتهدوا وأخطأوا فلهم أجر على اجتهادهم، وخطؤهم مغفور لهم. وأهل الضلال يجعلون الخطأ والإثم متلازمين، فتارة يغلون فيهم، ويقولون إنهم معصومون، وتارة يجفون عنهم، ويقولون: إنهم باغون بالخطأ.
وأهل العلم والإيمان لا يعصمون ولا يؤثمون. ومن هذا الباب تولد كثير من فرق أهل البدع والضلال) [ج35، ص69-70].
المصدر: مجلة البيان (العدد: 4).