حكم الترحم على أموات غير المسلمين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن والاه، واقتدى بسنته، واهتدى بهداه، وبعد:
فإنهُ من المؤسفِ أن نرى الانحرافَ الخطيرِ في ثوابتِ الدينِ من أجلِ إرضاءِ غيرِ اللهِ جل وعلا، فهذا يترحمُ على موتِ "البابا"، وذاك على هلاك نلسون مانديلا وآخر يجعل الإنسانيةَ هي الجامع بينهُ وبينهم!، والبعضُ يختارُ الفتاوى أو الآياتِ التي تناسبُ هواهُ لينصر فكرتهُ بالهوى المتبعِ، وكأن القرآن والسنة النبوية لم يبينا الموقفَ من موتِ الكفارِ، ورابعٌ يستدلُ بالمتشابهِ ويتركُ المحكمَ ليلوي أعناقَ النصوصِ لتوافق هواهُ، حتى وصل الأمر إلى أن بعضهم يمدحهم بأنهم خدموا أهل ملتهم ونشروا دينهم، بدعوى التسامح، والتعايش، ونشر المحبة والسلام بين أتباع الأديان، فكلها من عند الله!
ولا شك أن صاحب هذا القول يُخشى عليه؛ لأن خدمتهم لدينهم هو نشر الكفر والشرك وحرب الإسلام – كما هو مشاهد وواقع– نسأل الله أن لا يؤاخذنا بما فعل السفهاء والجهّال منا.
والواجب على كل مسلم غيور على دينه، فضلًا عن أهل العلم، والدعاة الصادقين، حيال هذا الوضع الذي وصل إليه حال كثير من المسلمين؛ الواجب الأكيد أن يبينوا زيف هذا المذهب الهدام، وأن يدحضوا شبهات القائلين به، ذلك المذهب القائم على تمييع العقيدة، والمؤدي إلى ما زعمته طائفة من أهل الكفر والضلال من القول بوحدة الأديان، هادفين في الحقيقة إلى هدم دين الإسلام لا غير، وإلى تفريغ الشرائع السماوية من مادتها وموضوعها الرئيس القائم على عقيدة التوحيد والولاء والبراء.
وقد ذكر العلماء أن هذا الذي يترحم على الكافرين هو أحد اثنين: إما أن يكون جاهلًا بالمنع فهو أقل إثما من العالم بالمنع.
وأما العالم بالمنع فهو على إثم عظيم؛ لأنه بهذا يضاد حكم الله، ويحادد الله ورسوله[1].
وقد حكى بعضهم الإجماع على حرمة الاستغفار للكافر. قال النووي: (وأما) الصلاة على الكافر والدعاء له بالمغفرة فحرام بنص القرآن والإجماع[2].
بل ذهب البعض إلى تكفيره؛ لأن فيه جحودا لأمر الله وكذا اعترافا ضمنيا بما عليه أهل الكفر من كفر وضلال.
قال القرافي: (اعلم أن الدعاء الذي هو الطلب من الله تعالى له حكم باعتبار ذاته، من حيث هو طلب من الله تعالى، وهو الندب، لاشتمال ذاته على خضوع العبد لربه وإظهار ذلته وافتقاره إلى مولاه، فهذا ونحوه مأمور به، وقد يعرض له من متعلقاته ما يوجبه أو يحرمه، والتحريم قد ينتهي للكفر وقد لا ينتهي، فالذي ينتهي للكفر أربعة أقسام:
القسم الأول: أن يطلب الداعي نفي ما دل السمع القاطع من الكتاب والسنة على ثبوته وله أمثلة:
الأول: أن يقول: اللهم لا تعذب من كفر بك أو اغفر له، وقد دلت القواطع السمعية على تعذيب كل واحد ممن مات كافرا بالله تعالى، لقوله تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به {النساء: 48} وغير ذلك من النصوص، فيكون ذلك كفرا، لأنه طلب لتكذيب الله تعالى فيما أخبر به، وطلب ذلك كفر، فهذا الدعاء كفر)[3].
ونحن في هذا المقام نرد على أهم شبهات القوم التي لبسوا بها على ضعاف الإيمان دينهم، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة.
الشبهة الأولى: قال الله تعالى: (ورحمتي وسعت كل شيء)، وقال: (أهم يقسمون رحمت ربك). فلم نحجر واسعا؟ ولم نقصر الرحمة على البعض دون البعض الآخر؟ فرحمة الله تشمل كل أحد، ومن ثم فسر العلماء اسمه تعالى (الرحمن ) بذي الرحمة العامة الشاملة لجميع الخلائق وللمؤمن والكافر، تفريقا بينه وبين اسمه تعالى (الرحيم ) فقد فسروه بذي الرحمة الخاصة بالمؤمنين.
والجواب من وجوه:
الأول: أن الترحم على الميت يراد به رحمة مخصوصة، وهي مغفرة الذنوب والنجاة من النار، فهو بمعنى الاستغفار[4].
الثاني: أن الله تعالى قد أخبر عن الكافرين بقوله: (والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي) العنكبوت 23، وهذا يفيد أن الترحم عليهم من التعدي في الدعاء، وعليه فلا يجوز.
الثالث: لعن الله تعالى الكافرين في غير موضع من كتابه، منها قوله تعالى: (فلعنة الله على الكافرين) البقرة 89، وقوله: (ألا لعنة الله على الظالمين)، واللعن هو الطرد والإبعاد من رحمته. فكيف يدعى لهم بالرحمة، مع تحقق لعنة الله عليهم؟! وهل هذا إلا مناقضة لمراد الله.
الرابع: روى البخاري وغيره أن اليهود كانوا يتعاطسون عند النبي رجاء أن يقول لهم ( يرحمكم الله ) فكان يشمتهم بقوله ( يهديكم الله ويصلح بالكم ) وكان لا يترحم عليهم[5].
الخامس: بعد أن بيّن سبحانه أن رحمته وسعت كل شيء، بيّن سبحانه أنه سيكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة إلى قوله سبحانه: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي ...] الآية. الأعراف 156، 157. وعليه، فالاستدلال بقوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} في هذا المقام هو بتر للدليل، وهروب من الحق، وهو مع ذلك جهل شنيع من قائله.
ومن يفعل ذلك، هو كمن يريد أن يحرم الصلاة بقوله تعالى: (لا تقربوا الصلاة)، ويتجاهل بقية الجملة وتمام العبارة، وهي قوله: (وأنتم سكارى). وهكذا هنا، فالمتأمل في بقية هذه الآية يجد فيها الرد الدامغ على أصحاب هذا القول القائلين بجواز الترحم على الكفار.
ذلك أن الله قد بين في الآية ذاتها من هم المستحقون لرحمته، وهم المتقون، وهم أهل الإسلام بالله، وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
يؤكد هذا ويبنه الحديث الصحيح: ( والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ، ولا يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار)[6].
وعلى هذا فرحمته، سبحانه، خاصة بأهل الإيمان والتقوى، وناره وجحيمه لمن أبى ذلك، فكفر، وأشرك بالله، وجحد رسالة نبيه.
وسؤال الله الرحمة التي وسعت كل شيء إنما هي في الدنيا، وأما في الأخرة، فالرحمة للمؤمنين فحسب.
وأما استدلالهم بقوله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَة ربك}؟! فنقول لقائل هذا: لا، وليس لأحد ذلك، وإنما نحن نخبر بحكم ربك، الذي تجهله أنت، وتجادل فيه بلا علم.
الشبهة الثانية: نحن لا نعلم بم ختم لهؤلاء فلا نستطيع الجزم بكفرهم، والظاهر لنا أنهم قدموا الكثير مما انتفعت به البشرية، فلعل هذا يشفع لهم، وتشملهم رحمة الله أرحم الراحمين.
والجواب:
أولا: أما ما قدَّموه من خدمات للإنسانية! أو غير ذلك فهو لا ينفعهم، وليس بمسوِّغٍ للترحُّم عليهم، بل هؤلاء كما أخبر الله تعالى عنهم: (ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا). وإنما يجزون بأعمالهم الحسنة في الدنيا فقط.
وقد اتفق أهل العلم على أن أعمالُ البرِ والخير، ولعل منها الاختراعات التي تفيد الانسانية التي فعلها وقام بها الكافر في حياته لا تنفعه في آخرته؟ والأدلة على ذلك كثيرة، منها: قول تعالى: (وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالهمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبهُ الظَّمْآن مَاء حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدهُ شَيْئاً) [النور:39].
وَقَالَ تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا). وَقَالَ تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ).
وبيَّن الله تعالى أن الشرك محبط للعمل؛ فقال: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (65) الزمر.
وعن عائشة قلت: يا رسول الله، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذاك نافعه؟ قال: " لا ينفعه، إنه لم يقل يوما: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين "[7].
وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله إن أبي كان يصل الرحم، وكان يفعل ويفعل قال: "إن أباك أراد أمرا فأدركه"[8] يعني: الذكر.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة، يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة، لم تكن له حسنة يجزى بها»[9].
هذا هو حكم الله فهل نحكم العقل ونترك حكم الله؟! قال تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدون في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما).
ثانيا: ماذا نفعل بالنهي الصريح الصحيح عن ذلك؛ أليس قد نهى الله تبارك وتعالى نبيه محمد من الاستغفار لأمه؛ فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله: (استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي)[10].
فهذا رسول الله أكرم الخلق على الله، منعه ربه من الاستغفار لأمه مع أنها ماتت قبل بعثته، فلا يمنع رسول الله من الاستغفار لأمه، ويؤذن لآحاد المسلمين أن يستغفروا لمن جاء بعد بعثته.
يقول ابن باز رحمه الله: " أما من مات من اليهود أو النصارى أو عباد الأوثان وهكذا من مات تاركاً للصلاة أو جاحداً لوجوبها هؤلاء كلهم لا يدعى لهم ولا يترحم عليهم ولا يستغفر لهم؛ لقول الله عز وجل: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) سورة التوبة.
وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه استأذن ربه أن يستغفر لأمه فلم يأذن له سبحانه، مع أنها ماتت في الجاهلية لم تدرك الإسلام، لكنها ماتت على دين قومها على عبادة الأوثان، فاستأذن ربه فلم يأذن له أن يستغفر لها، فإذا كانت امرأة ماتت في الجاهلية على دين الأوثان لا يجوز له أن يستغفر له وهي أمه فكيف بغيرها؟ عليه الصلاة والسلام فالذي مات على الكفر لا يستغفر له ولا يدعى له، لا تارك الصلاة ولا عابد القبور ولا اليهودي ولا النصراني ولا الشيوعي ولا القادياني ولا أشباههم ممن يتعاطى ما يكفره ويخرجه من دائرة الإسلام "[11].
ثالثا: لا أرحم بعباد الله من الله تعالى، فهل نعلِّم الله الرحمة! وقد حجبها عمَّن لا يستحقُّها ؟!
رابعا: لا يمكن لأي كافر أن يبذل إحسانا للمسلمين وقصده إحسانا للمسلمين أبدا، لأن الله بين أن الكفار أعداء فقال:
{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء}، وقال تعالى: {فإن الله عدو للكافرين}. فلا يمكن أن يعمل كافر إحسانا في بلاد الإسلام يريد به الخير أبدا، إنما يريد أن يقول الناس: هذا رجل أو امرأة نصراني يحسن للناس، يرحم الضعفاء، ويعين الفقراء وما أشبه ذلك، دعوة للنصرانية؛ لكن أحيانا تكون دعوة واضحة وأحيانا دعوة مبطنة، وليس هذا من الخير أبدا[12].
الشبهة الثالثة: الترحم على هؤلاء المشاهير من الكفار من أهل الفن أو الاختراع أو الكرة أو غيرها، جائز، وهو غير الاستغفار المنهي عنه بآية التوبة، أو الغفران المنفي في آية النساء، وإنما نهينا عن الاستغفار للمشركين ولم ننه عن الترحم عليهم، لأن النهي يختص بقوم تبين أنهم أصحاب الجحيم بخلاف هؤلاء المخترعين ونحوهم من أموات غير المسلمين ممن لم نتبين كيف ختم لهم، وربما لم تصلهم الدعوة او وصلتهم بطريقة مشوهة ومنفرة، فيكونون داخلين في حكم أهل الفترة، وتحت قوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا).
وهكذا، فإن حديث مسلم، المقصود بالسماع فيه هو السماع الخاص لا العام؛ فالسماع العام هو أن يسمعوا عن الرسول، لكن ما عرفوا عن هديه ولا عن دينه، وهذا يسميه العلماء: إبانة الحجة. بينما السماع الخاص فهو السماع المقنع، الذي يؤول إلى الإيمان وهو ما يسميه العلماء: إقامة الحجة.
والجواب:
قولكم بهذا التفريق قول بلا دليل، ولم يقل به أحد من أهل العلم.
بل قد أجمع العلماء على أن أهل الديانات الأخرى من غير المسلمين كفار، للحديث الذي سبق ذكره: "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار"، ذلك لأن جميع الأديان منسوخة بدين الإسلام.
وكذلك من مات على دينه، ولم يتلفظ بالشهادتين، فلنا ظاهر الحال، أنه كافر. يؤيد ذلك ما ورد في سبب نزول آية التوبة، من أنها نزلت في أبي طالب، ومع ما قدمه لابن أخيه صلى الله عليه وسلم من نصرة وحماية.
ويؤيده أيضا ما ورد في تفسير قوله تعالى: (من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم). فقد قال ابن جرير الطبري، في بيان معناها:
" ما كان ينبغي للنبي محمد صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا به "أن يستغفروا"، يقول: أن يدعوا بالمغفرة للمشركين، ولو كان المشركون الذين يستغفرون لهم "أولي قربى"، ذوي قرابة لهم.
"من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم"، يقول: من بعد ما ماتوا على شركهم بالله وعبادة الأوثان، وتبين لهم أنهم من أهل النار، لأن الله قد قضى ألا يغفر لمشرك، فلا ينبغي لهم أن يسألوا ربهم أن يفعل ما قد علموا أنه لا يفعله.
فإن قالوا: فإن إبراهيم قد استغفر لأبيه وهو مشرك؟ فلم يكن استغفار إبراهيم لأبيه إلا لموعدة وعدها إياه. فلما تبين له وعلم أنه لله عدو، خلاه وتركه، وترك الاستغفار له، وآثر الله وأمره عليه، فتبرأ منه حين تبين له أمره "[13].
أما على افتراض أن هناك من لا يعرف شيئا عن الإسلام أو يعرف ولكن معرفة مشوشة، فأمرهم محتمل، وربما يحكم بأنهم يدخلون في عموم "أهل الفترة"، وأهل الفترة على أصح الأقوال فيهم أن أمرهم إلى الله تعالى؛ فلا نحكم عليهم بأنهم في النار ولا في الجنة، ولكنهم داخلون في عموم الكفار من حيث التصنيف والاسم[14].
وعلى ذلك فتجري عليهم أحكام الكفار في الدنيا، كما أنهم يدفنون في مقابر الكفار، كما أنهم لا يدعى لهم بالرحمة والمغفرة، ولا يقوم المسلم على قبورهم، بل ولا يأسى عليهم. وقد قال الله تعالى لنبيه: (فلا تأس على القوم الكافرين).
لكن، ومع هذا الافتراض البحثي، أعني الذي يدعو لذكره بحث المسألة والرد على الشبهة القائمة، فإن الجزم بعدم عذاب هذا القسم فيه نظر، ولا يرتضيه كثير من أهل العلم؛ لأن الواحد من هؤلاء، وإن سمع سوءا عن الإسلام، فإنه ينبغي عليه أن يبحث عن الحق من أهله، ولا يكتفي فقط بكتب أعداء الإسلام، فالعقل السليم يقول ان من اراد معرفة دين او مذهب طائفة من الناس ان يقرأ كتبها وليس قراءة كتب معارضيهم أو مبغضيهم.
ولأننا لو توسعنا في هذا القسم لاعتبرنا أكثر النصارى كذلك، لأنهم ما سمعوا عن الإسلام ولا عرفوا عنه شيئا إلا من خلال القساوسة الذين أضلوهم وأغوهم[15].
وفي هذا رد كاف على دعواهم أن حديث مسلم، المقصود بالسماع فيه هو السماع الخاص لا العام.
الشبهة الرابعة: قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ {الأنبياء:107}، فمعنى الآية أنه رحمة للإنس والجن، والمسلم والكافر، وهذا يتنافى مع النهي عن الترحم عليهم.
والجواب:
لا تنافي بينهما بوجه من الوجوه؛ فقد قال فيه ابن القيم: وأصح القولين في قوله تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين {الأنبياء 107} أنه على عمومه، وفيه على هذا التقدير وجهان:
أحدهما: أن عموم العالمين حصل لهم النفع برسالته، أما أتباعه: فنالوا به كرامة الدنيا والآخرة، وأما أعداؤه فالمحاربون له عجل قتلهم وموتهم خير لهم من حياتهم، لأن حياتهم زيادة لهم في تغليظ العذاب عليهم في الدار الآخرة، وهم قد كتب عليهم الشقاء، فتعجيل موتهم خير لهم من طول أعمارهم في الكفر، وأما المعاهدون له: فعاشوا في الدنيا تحت ظله وعهده وذمته، وهم أقل شرا بذلك العهد من المحاربين له، وأما المنافقون: فحصل لهم بإظهار الإيمان به حقن دمائهم وأموالهم وأهلهم واحترامها وجريان أحكام المسلمين عليهم في التوارث وغيره، وأما الأمم النائية عنه: فإن الله سبحانه رفع برسالته العذاب العام عن أهل الأرض، فأصاب كل العالمين النفع برسالته.
الوجه الثاني: أنه رحمة لكل أحد، لكن المؤمنون قبلوا هذه الرحمة فانتفعوا بها دنيا وأخرى، والكفار ردوها فلم يخرج بذلك عن أن يكون رحمة لهم، لكن لم يقبلوها، كما يقال هذا دواء لهذا المرض، فإذا لم يستعمله المريض لم يخرج عن أن يكون دواء لذلك المرض[16]. اهـ.
[1]- ذلك أن هذه المسألة من المسائل الظاهرة البينة في دين الإسلام، والآيات الدالة على أن الكفار في النار ولا تنفعهم أعمالهم ولا الدعاء لهم ولا الاستغفار لهم كثيرة جدا يصعب حصرها، وكذا نصوص السنة الصحيحة. ومن المعلوم من الدين بالضرورة أن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الخلق كافة، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (28) سبأ، وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} الفرقان، وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (158) الأعراف. وعن جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة». متفق عليه، واللفظ للبخاري. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي، ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار». رواه مسلم. فكل من لم يدخل دين الإسلام الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم فهو كافر، قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (19) آل عمران، وقال الله تعالى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (85) آل عمران. وقال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا} (13) الفتح.
[2]- المجموع شرح المهذب (5/ 144).
[3]- وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية (4/ 43): (اتفق الفقهاء على أن الاستغفار للكافر محظور، بل بالغ بعضهم فقال: إن الاستغفار للكافر يقتضي كفر من فعله، لأن فيه تكذيبا للنصوص الواردة التي تدل على أن الله تعالى لا يغفر أن يشرك به، وأن من مات على كفره فهو من أهل النار. وأما من استغفر للكافر الحي رجاء أن يؤمن فيغفر له، فقد صرح الحنفية بإجازة ذلك، وجوز الحنابلة الدعاء بالهداية، ولا يستبعد ذلك من غيرهم، كذلك استظهر بعضهم جواز الدعاء لأطفال الكفار بالمغفرة، لأن هذا من أحكام الآخرة. ولننتبه هنا إلى أن هذا غير الدعاء للكافرين بالهداية حال حياتهم رغبةً في إسلامهم، فإن ذلك جائز، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لدوس وكانوا كفاراً فقال: "اللهم اهد دوساً وائت بهم" متفق عليه).
[4]- أما الحي فتحتمل الاستغفار وتحتمل الدعاء له بالهداية، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (اللهم اغفر لقومي)، والمراد اهدهم للإسلام الذي هو سبب المغفرة، والظاهر أن الترحم على الكافر الحي مثل الاستغفار له يجوز بنية الدعاء له بالهداية إلى الإسلام الذي هو سبب الرحمة. انظر: مقال بعنوان: الترحم على الكفار، للشيخ وليد بن إدريس المنيسي.
-[5] رواه أحمد (19586)، والترمذي (2739)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (5/ 119) ح (1277) - قال السندي: قوله: يتعاطسون، أي: يتكلفون في العطسة، والمراد يتعاطسون، ويحمدون، والحديث يدل على أن الكافر لا يدعى له بالرحمة، وإن كانت رحمة الدنيا شاملة، لقوله تعالى: (ورحمتي وسعت كل شيء) [الأعراف: 156] بل يدعى له بالهداية، وصلاح البال. اهـ. انظر: هامش مسند أحمد ط الرسالة (32/ 357).
[6]- رواه مسلم (153).
[7]- رواه مسلم (214).
[8]- رواه أحمد (19374)، وصححه ابن حبان، واللفظ له. وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة (7/ 50) ح (3022).
[9]- رواه مسلم (2808).
-[10] رواه مسلم (976).
[11]- فتوى على موقع الإمام ابن باز.
[12]- الشرح المختصر لبلوغ المرام، لابن عثيمين، نقلا عن مقال بعنوان: حكم الترحم على الكافر والاستغفار له - على موقع الألوكة.
[13]- تفسير الطبري - جامع البيان ت شاكر (14/ 509).
[14]- انظر: مقال بعنوان: هل يجوز في الإسلام الترحم والاستغفار لغير المسلم؟ لعبد السلام أجرير. على موقع مغرس.
[15]- ومع ذلك نقول: لا بد من الفصل في هذا الباب بين من أقيمت عليه الحجة والبيان كالأحبار والرهبان والقساوسة المطلعين على دين الإسلام، وبين من لم يصله الإسلام أو سمع عنه دون أن يعرف حقيقته أو وصله مشوشًا بأنه إرهاب أو عنف أو سحر... فالأولون لا عذر لهم كأقباط مصر ومسيحيي الدول العربية، حيث يستيقظون على سماع القرآن ومخالطة المسلمين وقراءة الكتب العربية ويبيتون على ذلك، وكذلك كبراء رجال الدين في الغرب الذين يعرفون عن الإسلام الشيء الكثير، فهؤلاء لا عذر لهم قطعًا. انظر: منتدى التوحيد، تحت عنوان: التفصيل في حكم من سمع عن الإسلام بصورة مشوهة بين المعرض والمجتهد في البحث عن الحق.
ويقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " وذلك أن الجهل بالمكفر على نوعين: الأول: أن يكون من شخص يدين بغير الإسلام، أو لا يدين بشيء، ولم يكن يخطر بباله أن دينًا يخالف ما هو عليه: فهذا تجري عليه أحكام الظاهر في الدنيا، وأما في الآخرة: فأمره إلى الله تعالى، والقول الراجح: أنه يمتحن في الآخرة بما يشاء الله عز وجل، والله أعلم بما كانوا عاملين، لكننا نعلم أنه لن يدخل النار إلا بذنب لقوله تعالى: (ولا يظلم ربك أحداً). وإنما قلنا: تُجرى عليه أحكام الظاهر في الدنيا - وهي أحكام الكفر -: لأنه لا يدين بالإسلام، فلا يمكن أن يُعطى حكمه، وإنما قلنا بأن الراجح أنه يمتحن في الآخرة: لأنه جاء في ذلك آثار كثيرة ذكرها ابن القيم رحمه الله، في كتابه: "طريق الهجرتين" عند كلامه على المذهب الثامن في أطفال المشركين تحت الكلام على الطبقة الرابعة عشرة.
النوع الثاني: أن يكون من شخص يدين بالإسلام، ولكنه عاش على هذا المكفِّر، ولم يكن يخطر بباله أنه مخالف للإسلام، ولا نبَّهه أحدٌ على ذلك: فهذا تُجرى عليه أحكام الإسلام ظاهرًا، أما في الآخرة: فأمره إلى الله عز وجل، وقد دلَّ على ذلك الكتاب، والسنَّة، وأقوال أهل العلم ". انظر الفتوى رقم: (111362)، بعنوان: قول الشيخ العثيمين في مسألة "العذر بالجهل" – موقع الإسلام سؤال وجواب.
[16] جلاء الأفهام (ص: 181).