وفي الشتاءِ للمربينَ غنائمُ!
أعزائي المربين والمربيات، أهلًا بكم في ليلة تربوية مطيرة، نتدثر فيها بفوائد الشتاء التربوية الرائعة، التي تتجاوز بكثير جو الدفء العائلي الذي يوفره الشتاء لنا، مع أكواب المشروبات الساخنة تلتف حولها الأسرة كل مساء.
فإلى هذه السطور نتعرف على أهم القيم التربوية، التي يهيئها لنا فصل الشتاء هبةً ومعونةً من الله تعالى للمربين.
كيف تتخلل التربية حياتنا اليومية؟
أعزائي، إن عملية التربية ليس لها وقت محدد؛ فعمل المربي لا ينقطع، وإنما هو عمل مستمر متواصل على مدار اليوم والليلة، والتربية الإيمانية، على وجه الخصوص، يمارسها المربي على مدار اللحظة؛ حيث يكون في حالة تركيز دائم من أجل استغلال كل موقف أو حدث أو مناسبة لغرس مفردات الإيمان في نفس الطفل، أو تعزيز القيم الخُلُقية التي سبق أن تعلمها، والتأكيد عليها، فيتناولها المربي بالشرح أو التعليق وبيان الحكمة عندما تحين مناسبتها العملية، ويلقنه ما يناسب كل موقف من الأذكار المشروعة فيه، إضافة إلى توجيهه إلى التفكر والاعتبار من تلك المواقف، عن طريق الربط بين القيمة والمعرفة الإيمانية والحدث اليومي الذي يمر به.
غنائم الشتاء وأفراحه:
وفصل الشتاء غنيمة تربوية، وموسم تطبيقي رائع للعديد من مفاهيم التربية الإيمانية؛ لذلك لا بد لكل أب وأم، وكل من ولِيَ عملية التربية، أن يستغل أيام فصل الشتاء الرائعة، وما يتكرر فيها من ظواهر جوية؛ كالرياح والمطر والرعد والبرق وغيرها في تثبيت قضايا الإيمان في نفوس الأبناء، من بواكير أعمارهم إلى مرحلة التمييز، كلٌ بما يناسبه من الأساليب؛ مثل قضايا الإيمان بالغيب، ومعرفة الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته، ربطًا بآثارها في الواقع المشاهد؛ مما يثمر استشعارهم لعظمة الله سبحانه، وخشيته ومراقبته في السر والعلن، وتعظيم أمره ونهيه، وهذه المعاني تحديدًا هي الحصانة الإيمانية التي نبغيها جميعًا لأبنائنا، والكفيلة بحجزهم عن الوقوع في المنكرات والرذائل، والدافعة بهم ذاتيًا إلى ما يحبه الله تعالى ويرضاه.
وإليك، عزيزي المربي، أهم ما تركز عليه خلال فصل الشتاء:
لفت انتباه الطفل إلى التفكر في آيات الشتاء؛ مثل:
التدرج في الانتقال من الحرّ إلى البرد:
لله الحكمة البالغة في دخول الشتاء على الصيف, والصيف على الشتاء، كيف يكون بالتدرُّج والمهلة، ولو كان دخول أحدهما على الآخر مفاجأةً لأضرَّ بالأبدان وأهلكها، يقول ابن القيم رحمه الله: «فكر في دخول أحدهما [أي البرد والحر] على الآخر بالتدريج والمهلة حتى يبلغ نهايته، ولو دخل عليه مفاجأة لأضر ذلك بالأبدان وأهلكها وبالنبات، كما لو خرج الرجل من حمام مفرط الحرارة إلى مكان مفرط في البرودة».
آية الله تعالى في إنزال المطر سببًا لتنوع الثمار، ومثلًا لإحياء الموتى:
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)} [فاطر:27-28]، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: «فلو كان نبات الصيف إنما يوافي في الشتاء لصادف من الناس كراهية واستثقالًا بوروده، مع ما كان فيه من المضرة للأبدان والأذى لها، وكذلك لو وافى ما في ربيعها في الخريف أو ما في خريفها في الربيع لم يقع من النفوس ذلك الموقع، ولا استطابته ولا التذاذه ذلك الالتذاذ».
تبصير الأبناء بكيفية تكوّن المطر وأنه ينزل بقدر:
وذلك من خلال تفعيل عبادة التأمل في عظيم قدرة الله عز وجل في تكوين تلك السحب الثقال بين السماء والأرض؛ كالجبال تحمل معها الماء الزلال، قال الله تعالى: {ألَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَـزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} [النور:34]، وهذا التأمل يُحدث مزيد خضوع وتذلل لله تعالى، قال ابن القيم رحمه الله: «فإذا تأملت السحاب الكثيف المظلم كيف تراه يجتمع في جو صاف لا كدورة فيه، وكيف يخلقه الله متى شاء وإذا شاء، وهو مع لينه ورخاوته حامل للماء الثقيل بين السماء والأرض، إلى أن يأذن له ربه وخالقه في إرسال ما معه من الماء حيث يشاء سبحانه».
ربط الأبناء بعقيدة القضاء والقدر:
تعريف الأبناء أن نزول المطر، وما يصاحبه من شدة البرودة والسيول، وما قد يترتب عليها من فوائد أو مصائب، هو من أقدار الله تعالى وحده، هو الذي يصرّفه ويقدّره كيف يشاء، وأن رد الفعل الصحيح إزاء هذه الظواهر والآيات الكونية، خصوصًا إذا اشتدت وتأذى بها العباد، هو التزام أدب العبودية، وذلك بانضباط القلب واللسان، فواجب القلب الخضوع، والرضا بالقدر، والإنابة إلى الله تعالى، والاستغفار من الذنب رجاء ارتفاع البلاء، {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:43].
وانضباط اللسان فلا تسخّط ولا اعتراض على أقدار الله تعالى، يقول الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله: «وقد أصبح من المعتاد لدى الناس تتبع تَقَلّبات الجو ومقياس درجاته: حرارة، وبرودة، وما أكثر لهجهم بذلك، وإتباعه بالتأفف والتألم من شدة الحر وشدة البرد...، ويَجْمُل بالمسلم التوقِّي عن متابعة مثل هذا واتِّخَاذِه حديثًا في المجالس»، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سبّ الريح، وكان السلف يتأثمون من قولهم: اليوم حار، اليوم بارد!
الفرح بقدوم الشتاء لسهولة أداء العبادة:
كان السلف رضي الله عنهم يفرحون بقدوم الشتاء؛ التماسًا لما يكون فيه من البركة، وتهيُؤ الظروف للعبادة، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «مرحبًا بالشتاء؛ تنزل فيه البركة، ويطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام»، فهو فرصة يستغلها المربي في تدريب الأبناء على العبادات؛ مثل الصيام وقيام الليل بيسر وسهولة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة» [رواه الإمام أحمد، وحسنه الألباني].
قال الخطابي: «(الغنيمة الباردة)؛ أي السهلة، ولأن حرة العطش لا تنال الصائم فيه».
- ومن أهم هذه العبادات أيضًا: الدعاء؛ لأن وقت نزول المطر من أوقات إجابة الدعاء، قال صلى الله عليه وسلم: «ثنتان ما تردان: الدعاء عند النداء وتحت المطر» [صحيح الجامع الصغير].
- ومنها أيضًا الأذكار الخاصة بفصل الشتاء؛ مثل الذكر عند هبوب الرياح، وعند سماع صوت الرعد، وعند نزول المطر.
عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل المطر قال: «اللهم صَيِّبًا [المطر الذي يجري ماؤه] هنيئًا» [رواه أبو داود بسند قوي]، وعند اشتداد المطر والخوف من تبعاته: «اللهم حواليْنا لا علينا» [رواه البخاري].
- ومما يتعلق بالعبادات تعريف الأبناء بيسر الدين وسماحة الشريعة:
من خلال الرخص التي شرعها الله تعالى أن فتح الله رخصًا هي فيه أحوج؛ كالمسح على الخفين، والجمع عند المطر والريح الباردة، فالحمد لله على تخفيفه وتيسيره.
قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78].
تربية الأبناء وتدريبهم عمليًا على التكافل:
من خلال الإحساس بالفقراء، الذين لا يجدون ما يدفعون به عن أنفسهم برد الشتاء، فيدعو المربي أبناءه إلى التصدق بما زاد عن احتياجاتهم من الملابس الثقيلة، والأحذية، والأغطية، ويدربهم على إعداد هذه الأشياء وتجميعها وتوصيلها إلى مستحقيها عمليًا، وأثناء ذلك يحدثهم بما ورد في الحث على التكافل بين المسلمين.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أطعم مؤمنًا على جوع أطعمه الله يوم القيامة من ثمار الجنة, ومن سقاه على ظمأ سقاه الله يوم القيامة من الرحيق المختوم، ومن كساه على عري كساه الله من خُضر الجنة» [حديث حسن أخرجه الترمذي].
وهكذا، أعزائي المربين، مع كل مرة ينزل فيها المطر يكون للمربي فيها مشهدًا تربويًا متجددًا مع أبنائه، ومختلفًا وثريًا بقدر اختلاف أحداث فصل الشتاء وثرائها وتتابعها؛ فيثمر ذلك في قلوب الأبناء، مع آبائهم، عبودية بعد عبودية، وصلة بالله تعالى لا تنقطع.
___________
المراجع:
- مسئولية الأب المسلم في تربية الولد، د. عدنان حسن باحارث.
- العقيدة في الله تعالى، د. عمر سليمان الأشقر.
- التربية بالآيات، عبد الرحمن النحلاوي.
- كيف تربي طفلًا سليم العقيدة؟ د. سميحة غريب.