logo

زمن البحث عن الدعوة والدعاة


بتاريخ : الخميس ، 6 محرّم ، 1441 الموافق 05 سبتمبر 2019
بقلم : عبدالعزيز كحيل
زمن البحث عن الدعوة والدعاة

الدعوة لله تعالى امتداد للنبوة، والدعاة ورثة الأنبياء، فهم نفر من الخطباء والوعاظ والمفكرين والكتاب والنشطاء يتولَّون أمور الدين، فيعلِّمون مَن جهل، ويذكِّرون من نسي، ويدعون المدبر، ويثبتون التائب، يبلِّغون آيات الله، ويفقِّهون الناس بأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، سلاحهم الحجة العقلية، وترقيق القلوب، ولفت الأنظار إلى الآيات الربانية في الكون والأنفس.

بجهودهم بَقِيَ الإسلام غضًّا طريًّا سالِمًا مُعافًى، قد يخسر أتباعُه معركة عسكرية هنا، لكنهم يكسبون، بفضل الدعوة والدعاة، قلوبًا وعقولًا، ويفتحون قرًى ومدنًا وأقطارًا هنا وهناك، هؤلاء هم الذين حققوا معجزة تحوُّل التتار الهمج المتوحشين إلى الإسلام، بعد أن تغلبوا على أهله، وخربوا بلده، وقتلوا خليفة المسلمين.

أجل، هزم التتار المسلمين بالسيف، لكن المسلمين احتووهم بالدعوة، كما أن كثيرًا من أصقاع الدنيا لم تفتحها الجيوش الإسلامية، وإنما فتحها الدعاة، وها هي أوروبا وأمريكا تشهدان في الأزمنة الأخيرة موجات ملحوظةً من الإقبال على الإسلام، كان محركها رجالًا ونساءً من الربانيين والربانيات، يخاطبون الأذهان بالحجة الواضحة القوية، ويحركون القلوب بلمسة الفطرة السليمة، ويردون على الشبهات بالأدلة المناسبة، فيحببون هذا الدين للناس، ويبغضون لهم الكفر والفسوق والعصيان، وكان يمكن للعمل الدعوي أن يكتسح الدنيا، وينشر نور الله، لولا المثبطات التي تضخمت منذ نحو عشرين عامًا، فأصبحت كوابح تعرقل النشاط الدعوي، وتكاد تلغيه في بعض الأحيان، حتى غدونا نعيش في زمن البحث عن الدعوة والدعاة؛ ليستمر صمود الإسلام، وتمتد حركة البعث الإسلامي في الزمان والمكان.

ولئن كانت المثبطات كثيرة، فإن أخطرها يتمثل في خيار العمل المسلح بغير موجب لذلك ضد المسلمين وتكفيرهم؛ وقد قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]، وقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125].

أما خيار العمل السياسي فحديث ذو شجون، وموضوع ذو ذيول، يحتاج إلى بحوث متعددة، وحسبي الإشارة إلى انتقاله من شكل من أشكال الحضور الإسلامي في الساحات الوطنية تقتضيه مراحل معينة، وهو بهذا خيار إيجابي من غير شك، إلى مصيدة تستنفد الطاقات في غير طائل؛ بل إلى مستنقع تحول فيه حملة المشروع الإسلامي إلى سياسيين محترفين، لا يفرق بينهم وبين غيرهم سوى خط رقيق، ما أسهل قطعه وتجاوزه! وتحولت أحزاب إسلامية إلى مجرد أحزاب دنيوية، كما حذر الداعية الهندي الكبير الأستاذ وحيد الدين خان من قديم، ترفع لافتات إسلامية، وهي تلهث خلف المناصب واقتسام المنافع.

لا أقصد التعميم على الحركات والأحزاب الإسلامية؛ لكني عشت بنفسي تجربة هي أصدق أنباء من الكتب، ورأيت دعاة تربوا على توجيهات القرآن والسنة، وصنعوا على عين رسالة التعاليم وأركان البيعة، وهدى الله على أيديهم خلقًا كثيرًا، وقدموا إضافات طيبةً، وأبلوا بلاءً حسنًا في العمل الخيري والفكري والتربوي، فلما أسسوا أحزابًا، ودخلوا انتخابات، وأسهموا في حكومات علمانية، تآكلوا وقدموا تنازلات متتالية في ميدان القيم والأخلاق والضوابط الشرعية، وأصبحوا حراسًا للنظام القائم، فانتهوا إلى نتيجة غاية في السوء والخطورة، هي هجرهم الكامل والنهائي للعمل الدعوي، ولما خلت الساحة من دعاة الحق غزاها دعاة الباطل، وعششوا وباضوا وفرخوا حتى أصبحت بلاد، كان العلماء والمفكرون وكبار الدعاة يعدونها نقطة انطلاق النهضة الإسلامية وعودة الخلافة، مقفرة من أي نشاط دعوي أو عمل تربوي؛ بل هي مرتع لتهديدات التكفيريين من جهة، ووعود السياسيين التي لا يصدقها أحد من جهة ثانية، وصارت الثلة المؤمنة الثابتة غريبة غربة صالح في ثمود، ألسنا بهذا في زمن البحث عن الدعوة والدعاة؟!

إن هذه الشكوى ليست حكمًا نهائيًا رافضًا للعمل السياسي، إنما هي صرخة من أجل عودة الدعاة إلى محاضنهم ومهامهم؛ حتى لا تبقى الساحة فارغةً من كلمة الحق، فيستحوذ عليها المد العلماني المتسلط، وبعضه يلبس لبوس الإسلام، فتضيع ثمرات الأشجار المباركة التي غرسها جيل من الدعاة جمعوا بين الإخلاص والصواب، وماتوا قبل أن يعيشوا زمن غربة الدعوة وضياعها بين من غلب عليهم منهج الخوارج، ومن فتحت عليهم الدنيا، باسم السياسة، فتنافسوها كما تنافسها غيرهم، ويوشك أن يتشابه مصيرهم جميعًا.

إن ترك الساحة الإسلامية والعالمية بلا دعوةٍ تفريطٌ كبير في حق الإسلام، وحق واحد من أكبر فروض الكفاية، فكيف إذا كان ذلك في زمن تكالب العلمانية على الإسلام، وهي تجلب عليه بخيلها ورجلها، بوسائل الإعلام والإغراء و(الإنترنت)، تثير الشبهات وتزين الشهوات، وتستهدف الصغار والكبار، وتقصف العقائد والشرائع والشعائر والأخلاق، والمسلمون حيارى ينتظرون من يشد أزرهم، ويقوي عزائمهم، ويثبتهم ويحررهم وينصر دينهم.

لقد آن أوان العودة إلى الحلقات المسجدية لتعليم الناس دين الله من مصادره غير المكدرة؛ لينعموا بالمجالس التي تحفها الملائكة، وتغشاها الرحمة، وإني أعيش في بلد لم يعد فيه تضييق على النشاط المسجدي، لكن الدعاة تواروا أو استقالوا، وتركوا بيوت الله للفراغ، أو لأدعياءٍ ضررُهم أكبر من نفعهم.

وآن أوان إقامة المحاضرات والندوات الكبرى لتأصيل الانتماء، ونشر الوعي، ومواجهة رياح التغريب، وعدم ترك الساحة لأصحاب الخطاب الإسلامي المبدل الذين يبيعون دينهم بدنياهم، فلم تعد لهم مصداقية عند الجماهير المتعطشة للخطاب المنزل، الذي ينير العقول ويرقق القلوب، وينشط المؤمنين ويقيهم أنواع الزيغ والتعثر.

وآن أوان إحياء سنة المخيمات الشبابية والملتقيات الإيمانية؛ لتوطيد أواصر الأخوة، وإرساء قواعد الوحدة، وتحريك معاني الإيثار والمحبة والصدق والتراحم والتعاون؛ ليكون ذلك سندًا قويًا لمواجهة التحديات الضخمة، وإكراهات الواقع المنحرف.

وآن أوان رجوع الفتاة المسلمة إلى سلك الالتزام والدعوة، فكم خسرت منذ خمدت جذوة الدعوة وغاب الدعاة! حتى إنها تخلت نهائيًا، أو تكاد، عن اللباس الشرعي؛ لتتبرج تبرج الجاهلية الأولى، وهي تضع على رأسها غطاءً هو أقرب إلى شاهد زور! هذا فضلًا عن غيابها عن ساحات العمل الإسلامي والدعوة والمرابطة على ثغور الإسلام؛ ليتخطفها دعاة الموضة والمساحيق والميوعة، بعد أن كانت إبان الصحوة المباركة علامة على القوة والفضيلة والالتزام.

وآن أوان الرجوع إلى عهد المأثورات، والأوراد اليومية، والقراءات الواعية، والكتابات الملتزمة، ومزاحمة العلماء بالركب في حلقات التلاوة والتحصيل العلمي وتزكية الأنفس، بعد أن طال بنا أمد التيه والتخبط كأنما نحن المخاطبون بقول الله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16].

إنّني أدعو جنود هذا الدين إلى التعجيل بالعودة إلى محاضن التربية، وميادين الكلمة الطيبة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واستعلاء الإيمان، ولا حرج أن يشتغلوا بالعمل السياسي من غير أن يذوبوا فيه؛ بل من المفروض أن يجعلوا منه رافدًا للدعوة، فالأمة تنتظر، والعالم ينتظر، فهل من فزع كفزع الأنصار؟! وهل من وثبة إيمانية تقر بها أعين المؤمنين، وترغم بها أنوف خصوم الإسلام وأعدائه؟!

{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33].