logo

أَمْسِك الشَمْس..!


بتاريخ : الخميس ، 19 جمادى الأول ، 1438 الموافق 16 فبراير 2017
بقلم : سحر شعير
أَمْسِك الشَمْس..!

عزيزي القارئ، أهلًا بك.

 

كان هذا هو الشرط الذي اشترطه التابعي الجليل عامر بن عبد القيس على صاحبه؛ حتى يقف ليحدثه ساعةً من الزمان؛ كي لا تحسب عليه هذه الساعة من عمره، وكأن لسان حاله يقول: إن الشمس تعمل عملها، والليل والنهار دائبان إلى أجل مسمى، وهما يعملان عملهما، ويهدمان عمري وعمرك يومًا بعد يوم، فإن كنت تريد وقتًا للمسامرة والكلام فأوقف الشمس عن المضيّ في فلكها ساعةً لا تُحسَبُ من أعمارنا وأنا أكلمك!

إذًا فعامر بن عبد قيس لم يكن باستطاعته أن يهدر وقته في حديث ليس من ورائه هدفٌ أو منفعة في أمر دينٍ أو دنيا؛ فخسارته عندئذٍ خسارة لا يمكن تعويضها أو استدراكها، رحمه الله تعالى، ما أعقله!

 

شرف الزمان في القرآن الكريم:

جاء الإسلام داعيًا إلى تعمير الأوقات بكل خصال الخير، ناهيًا عن قطع الأعمار في اللهو واللعب، آمرًا بالجدية في استثمار الوقت، ومعرفة شرف الزمان، فالمُطلع في كتاب الله العظيم يجد أن الله تعالى أقسم بالوقت في فواتح عدد من سور القرآن الكريم، ومن ذلك {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)}، ويدل قسم الله بالمخلوق على عظم شأنه.

قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى في تفسير سورة العصر ما ملخصه ومعناه:

«أقسم الله تعالى بالعصر، الذي هو الزمن، لما فيه من الأعاجيب؛ لأنه يحصل فيه السراء والضراء، والصحة والسقم، والغنى والفقر؛ ولأن العمر لا يُقوَّمُ بشيء نفاسةً وغلاءً.

فلو ضَيَّعتَ ألف سنة فيما لا يعني، ثم تُبْت وثبتت لك السعادة في اللمحة الأخيرة من العمر، بقيت في الجنة أبد الآباد، فعلمت أن أشرف الأشياء حياتك في تلك اللمحة، فكان الزمان من جملة أصول النعم، فلذلك أقسم الله به، ونبّه سبحانه على أن الليل والنهار فرصة يضيعها الإنسان! وأن الزمان أشرف من المكان فأقسم به، لكون الزمان نعمة خالصة لا عيب فيها».

 

 

تنظيم الوقت هو هَدْي القرآن والسُنَّة:

ولأن الوقت هو عمر الإنسان ومادة حياته، كما قال الحسن البصري: «يـا ابن آدم، إنما أنت أيام، كلما ذهب يوم ذهب بعضك»، فقد سبق الإسلامُ النظريات الحديثة في إدارة الوقت إلى بيان ذلك بأوضح عبارة في القرآن والسنة، فقد خلق الله تعالى الكون مؤسسًا على النظام والتوقيت لكل عمل؛ ولذلك خلق الله الآيات الكبرى؛ كالشمس، والقمر، والكواكب السيارة، ورتب على حركتها الدائبة حدوث ظواهر الليل والنهار والفصول الأربعة، وأخبر الله تعالى عباده أنه سخَّر لهم كل هذه الآيات لتيسير العبادات، ومعرفة حساب الأزمنة والأوقات التي فُرضت فيها العبادات، ولا يصح أداؤها إلا عند حلول أوقاتها المعلومة التي عينها الله تعالى في الكتاب والسنة؛ قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} [النساء:103]، وقال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185]،  وقال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197].

وقال عز وجل منبهًا المؤمنين إلى فعل المتقين هو أن يستعدوا لآخرتهم مدة أعمارهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:18-19].

وقد نبّه النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى أنهم مسئولون عن أوقاتهم بين يدي الله عز وجل يوم القيامة، فيم أمضوا أوقاتهم وشغلوا سِنِيِّ أعمارهم.

عن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع خصال: عن عمره فيم أفناه, وعن شبابه فيم أبلاه, وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه, وعن علمه ماذا عمل فيه» [رواه الترمذي].

 

 

غياب الهدف والرسالة وراء التهاون في حفظ الوقت:

لو تأملنا في أهم أسباب التقدم والنجاح على مستوى الأفراد والأمم لوجدنا أن المحافظة على الوقت وحسن توظيفه يأتي في مقدمة تلك الأسباب، وعند المسلمين سيكون الأمر أكثر وضوحًا وأشد تأكيدًا، فلقد خلق الله تعالى الإنسان، وجعل له تصورًا واضحًا نحو الكون والحياة، كما جعل له منهجًا قويمًا ودورًا عظيمًا في هذا الوجود، ولن يحدث الإصلاح الحقيقي إلا إذا أدرك المسلم ذلك، وما أحسن ما قيل في ذلك: «إن منهجنا يبدأ من نقطة تصحيح مركز الإنسان في هذا الوجود، وتعيين دوره، ووظيفته وحقوقه وواجباته» [د. محمد أمين شحاتة، إدارة الوقت بين التراث والمعاصرة، ص145، نقلًا عن (سيد قطب، الإسلام ومشكلات الحضارة، ص174)].

أما أولئك الذين لا يستحضرون هذه الغايات والأدوار التي خلقهم الله تعالى من أجلها، فغالبًا ما يملكون سلوكًا مستهترًا تجاه أوقاتهم.

إنهم لا يملكون رسالة في الحياة، ولا يملكون هدفًا أو خططًا واضحة، وربما لأن لديهم عادات سيئة تجاه الوقت؛ مثل أنهم لا يهتمون بالإنجاز وتحديد البدايات والنهايات للأعمال، ويؤجلون الأعمال، ويستمتعون بالعمل تحت ضغط.

وهي نفس المشكلة التي عبر عنها مالك بن نبي رحمه الله، وهو الرائد الإصلاحي الجزائري في القرن الماضي، مبينًا أن أحد أهم أسباب التخلف الذي لحق بأمتنا هو عدم إدراك قيمة الزمن في حياة الأفراد والشعوب بشكل جدّ مفيد، قال: «...إن الزمن نهر قديم يعبر العالم، ويروي في أربع وعشرين ساعة الرقعة التي تعيش فيها كل الشعوب، والحقل الذي يعمل به، ولكن هذه الساعات، التي تصبح تاريخًا هنا وهناك، قد تصير عدمًا إذا مرت فوق رءوس لا تسمع خريرها!».

ومما رصده ابن الجوزي رحمه الله منذ قرون بعيدة في هذا الباب: «ولقد شاهدت خلقًا كثيرًا لا يعرفون معنى الحياة، فمنهم من أغناه الله عن التكسب بكثرة ماله، فهو يقعد في السوق أكثر النهار، ينظر إلى الناس، وكم تمر به من آفة ومنكر! ومنهم من يخلو بلعب الشطرنج! ومنهم من يقطع الزمان بكثرة الحديث عن السلاطين، والغلاء والرخص، إلى غير ذلك، فعلمت أن الله تعالى لم يُطْلِع على شرف العمر ومعرفة قدر أوقات العافية إلا من وفقه وألهمه اغتنام ذلك، {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}» [أبو الفرج ابن الجوزي، صيد الخاطر، ص241].

 

 

المحافظة على الوقت أهم سمات الناجحين:

عندما نتكلم عن الناجحين من البشر عبر التاريخ فلا بد أن نصدّر الكلام بالنماذج الرائعة التي ضربها سلفنا الصالحون في حسن تقديرهم لقيمة الوقت، وذكائهم في استغلاله، فإنهم، بتوفيق الله تعالى أولًا ثم نتيجةً لذلك، قد بنوْا في سنوات قليلة حضارة عظيمة، تعلمَتْ منها البشرية، فقد كانوا أحرص الناس على كسب الزمن، والإفادة منه في الخير، فقد كانوا ينافسون الزمان، يسابقون الساعات، ويبادرون اللحظات، حرصًا منهم على الزمن، وعلى ألا يذهب منهم هدرًا، كان أبو الوفاء علي بن عقيل رحمه الله يقول: «إنني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري؛ حتى إذا تعطل لساني عن المذاكرة، وتعطل بصري عن المطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا مستطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره».

ولأن من عاش على شيء مات عليه، فقد وجدنا في سيرهم من يحافظ على هذه الفضيلة حتى في آخر لحظات حياته، نقل في ذلـك عن ثابت البناني أنه قال: «ذهبت ألقن أبي [يلقنه الشهادة وهو يحتضر]، فقال: يا بني، دعني، فإني في وردي السادس»! كما يروي الفقيه أبو الحسـن الولوالجي أنه دخل على أبي الريحان البيروني، وقد حشرج نفسه، وضاق به صـدره، فقال لي في تلك الحال: «كيف قلت لي يومًا حساب الجدات الفاسدات [مسألة في المواريث]؟»، فقلت له إشفاقا عليه: «أفي هذه الحالة؟»، قال لي: «يا هذا، أودع الدنيا وأنا عالم بهذه المسألة، ألَا يكون خـيرًا من أن أخليها وأنا جـاهل بها»، فأعدت ذلك عليه، فحفظ، وعلمني ما وعد، وخـرجت من عنده، وبينما أنا في الطريق سمعت الصراخ عليه!

وتأمل كيف كان ابن الجوزي رحمه الله يحتال على البطّالين، الذين لا يعرفون قيمة الوقت، فيجهز من الأعمال ما يجعل وقته لا يضيع هباءً بسبب ثقلهم في الزيارة، يقول رحمه الله: «لقد رأيت خلقًا كثيرًا يجرون معي فيما قد اعتاده الناس من كـثرة الزيارة، ويسـمون ذلك الـتردد خدمـة، ويطيلون الجـلوس، ويجرون فيه أحاديث الناس وما لا يعني، ويتخلله غيبة؛ وهذا شيء يفعله في زماننا كثير من الناس، وربما طلبه المزور وتشـوق إليـه، واستوحش من الوحدة، وخصوصًا في أيام التهاني والأعياد، فنراهم يمشي بعضـهم إلى بعـض، ولا يقتصـرون على الهناء والسـلام؛ بل يمزجون ذلك بما ذكرته من تضييع الزمان.

فلما رأيت أن الزمان أشرف شـيء، والواجب انتهازه بفعل الخـير، كرهت ذلك، وبقيت معهم بـين أمرين: إن أنكـرت عليهم وقعت وحشة لموضع قطع المألوف، وإن تقبلته منهم ضاع الزمان، فصرت أدافع اللقاء جهدي، فـإذا غُلبت قصرت في الكلام لأتعجل الفراق، ثم أعددت أعمالًا لا تمنع من المحادثة لأوقات لقائهم؛ لئلا يمضي الزمان فارغًا، فجعلت من المستعد للقائهم قطع الكاغد، وبري الأقلام، وحزم الدفاتر، فإن هذه الأشياء لا بد منها، ولا تحتاج إلى فكر وحضور قلب، فأرصدتها لأوقات زيارتهم؛ لئلا يضيع شيء من وقتي».

وعلى نهجهم سار أهل العلم والفضل المعاصرون؛ فقد رأينا من علمائنا المعاصرين حفاظًا شديدًا على أوقاتهم يحاكي سيرة هؤلاء وأكثر، يقول الشيخ محمد المنجد حفظه الله: «وأنتم لو نظرتم إلى حال علمائنا في هذا العصر لوجدتم من استغلالهم لأوقاتهم أمورًا عجيبة، فأنت مثلًا عندما تتصل بالشيخ ابن عثيمين لتسأله، فإنك تجد أنه يجيب على الهاتف من خلال المكبر ولا يرفع السماعة، وأنت تسأله تسمع صوت الأوراق وهي تقلب، فهو يتكلم ويقرأ ويجيب ويراجع في هذا الوقت، وتجد أيضًا أنهم مع محافظتهم على أوقاتهم يحددون أوقاتًا معينة، فهذا الوقت للقراءة، وهذا الوقت للتدريس، وهذا الوقت للإجابة على الهاتف، وهذا الوقت للنوم، وهذا الوقت للذهاب إلى العمل...، وهكذا.

وعندما تتأمل حياة شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله، هذا الرجل الذي فقد بصره وله من العمر تسعة عشر عامًا، لوجدت في استغلاله لوقته أمرًا عجيبًا، فإنه يسأل ويناقش حتى على الطعام؛ بل وحتى عند المغسلة وهو يغسل يديه، وفي المجلس، وفي الطريق إلى المسجد، وبعد الخروج منه، حتى إنه ربما أعاد ذكرًا فاته لسؤال أجاب عليه» [محمد المنجد، محاضرة: كيف ينظم المسلم وقته؟].

 

وأخيرًا عزيزي القارئ، إليك هذه الوصية للإمام الموفق ابن قدامة رحمه الله، يقول: «فاغتنم رحمك الله حياتك النفيسة, واحتفظ بأوقاتك العزيزة, واعلم أن مدة حياتك محدودة, وأنفاسك معدودة, فكل نَفَسٍ ينقص به جزء منك، والعمر كله قصير, والباقي منه هو اليسير؛ فلا تضيع جواهر عمرك النفيسة بغير عمل، ولا تذهبها بغير عوض، واجتهد ألَّا يخلو نَفَس من أنفاسك إلا في عمل طاعة أو قربة تتقرب بها إلى الله تعالى» [غذاء الألباب شرح منظومة الآداب (2/ 351)].