واجبات الأمة العشر في زمن الانحطاط والقهر
رضوان بن أحمد العواضي
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
يقصد بالأمة في اللغة الجماعة من الناس الذين يجمعهم دين او زمان او مكان، وقد أشار القرآن الكريم الى هذا المعنى في غالب استعماله لهذا اللفظ، من ذلك قول الحق جل وعلا: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]، وقوله
تعالى: ({وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].
ولأن الأمة معنية ومسئولة عن دينها؛ بالدفاع عنه والذود عن مقدساته ومنهجه، حري بأفرادها أن يسلكوا السبل الممكنة والمتاحة لهم لإعادة مجد الإسلام وتخليصه من كيد خصومه، وتكالبهم ومكرهم.
وان مما يجب على أمة الإسلام فعله والقيام به أفرادا وجماعات في زمن الانحطاط والقهر الذي نعيشه اليوم، ثمة واجبات شرعية، بتوفيق من الله وفضل وقفت على عشر منها من خلال اطلاعي على مصادر التشريع الأصلية؛ الكتاب والسنة، تتمثل فيما يلي:
الواجب الأول: الاعتصام بالله جل وعلا:
وأعني به: التمسك بالإسلام عقيدة وشريعة، من خلال تطهير وتخلية القلب من أدران الشرك والرياء، ثم تحليته بمعين التوحيد الصافي. ثم ترك المنهيات، والقيام بالواجبات ما استطاع العبد الى ذلك سبيلا، بدافع الانقياد والتقرب الى الله، والطمع بما عنده من فضل وثواب.
قال في روح البيان (2/ 72): (فالمعتصم بحبل الله هو المتقرب الى الله بأفعال البر ووسائط القربة) اهـ.
فالقيام بهذا الواجب أصل أصيل، وحصن حصين في خلاص الأمة من همومها ومحنها، قال الحق جل وعلا: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101]، وقال سبحانه:
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103].
قال الإمام النسفي رحمه الله في تفسيره (1/ 279): {وَمَن يَعْتَصِم بالله} ومن يتمسك بدينه أو بكتابه، أو هو حث لهم على الالتجاء إليه في دفع شرور الكفار ومكايدهم {فَقَدْ هُدِىَ إلى صراط مّسْتَقِيمٍ} أرشد إلى الدين الحق) أهـ.
الواجب الثاني: ترك النزاع والشقاق الموقعان في الفشل والهزيمة:
قال الله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].
قال الشوكاني رحمه الله عن معنى النزاع كما في فتح القدير (2/ 359):
(الِاخْتِلَافُ فِي الرَّأْيِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَتَسَبَّبُ عَنْهُ الْفَشَلُ، وَهُوَ الْجُبْنُ فِي الْحَرْبِ) أهـ.
ولقد جعل الله عاقبة النزاع والشقاق بين المسلمين العذاب العظيم وعدم الفلاح، فقال سبحانه وتعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105].
فالنزاع والشقاق بين المسلمين سبب رئيس في فرقتهم وقطيعتهم الموقعان في الوهن والضعف. قال السعدي رحمه الله في التفسير (ص: 322): (({وَلا تَنَازَعُوا} تنازعا يوجب تشتت القلوب وتفرقها، {فَتَفْشَلُوا} أي:
تجبنوا {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أي: تنحل عزائمكم، وتفرق قوتكم، ويرفع ما وعدتم به من النصر على طاعة اللّه ورسوله)) اهـ.
وقال القشيري رحمه الله في لطائف الإشارات (1/ 629): (الموافقة بين المسلمين أصل الدّين. وأول الفساد ورأس الزّلل الاختلاف. وكما تجب الموافقة في الدين والعقيدة تجب الموافقة في الرأي والعزيمة.
قال تعالى في صفة الكفّار: «تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى»، وإنما تتحد عزائم المسلمين لأنهم كلّهم يجمعهم التبري من حولهم وقوّتّهم، ويتمحضون في رجوعهم إلى الله، وشهودهم التقدير، فيتحدون في هذه الحالة الواحدة.
وأمّا الذين توهّموا الحادثات من أنفسهم فضلّوا في ساحات حسبانهم، وأجروا الأمور على ما يسنح لرأيهم، فكلّ يبنى على ما يقع له ويختار، فإذا تنازعوا تشعّبت بهم الآراء، وافترقت بهم الطرق، فيضعفون، وتختلف طرقهم) أهـ.
ومظاهر النزاع كثيرة لا تعد؛ لعل من أهمها النزاع والشقاق في الرأي، القائم على تمسك كل جماعة او فرد برأي قد يحتمل صوابا او خطأ، سواء كان ذلك في فروع الدين، او في فروع الدنيا، والسلامة ترك ذلك كله. وان وقع اختلاف في أمور كهذه كما هو شأن الخلق وفطرتهم، فالواجب الا يؤدي هذا الاختلاف الى الشقاق والخصام والقطيعة. وليسعنا في خلاف كهذا ما وسع سلف الأمة الصالح، الذين تعددت أراؤهم، واختلفت مذاهبهم في فروع الدين، لكنهم ومع هذا كله كانوا أخوة متحابين لا سبيل للشيطان عليهم.
الواجب الثالث: حسن الظن بالله:
والمراد به وجوب اعتقاد العبد بفرج الله للأمة وتمكينها، مهما كان حالها ومهما وصلت اليه من ضعف وقهر وانحطاط.
لأن هذا هو موعود الله، وموعود رسوله صلى الله عليه وسلم الذي لا يتخلف، الثابت عندنا بصريح القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لأنه تنزيل من حكيم حميد، وبصريح السنة الصحيحة الثابتة عن المعصوم صلى الله عليه وسلم.
قال رب العزة والجلال في كتابه الكريم: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55].
وقال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5].
وعن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والدين والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب) رواه أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم والبيهقي وقال الحاكم: صحيح، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 6).
وقد أرشد الحق جل وعلا عباده الى حسن الظن به، وذلك بتوقع الخير لأنفسهم ولأمتهم، في صغير الأمر وكبيره، لأنه جل وعلا يكتب من القدر لعبده ما تمناه لنفسه وظنه به.
في الصحيحين من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خير مِنْهُم) متفق عليه.
وفي الحديث الصحيح: (فألك من فيك) صحيح الجامع الصغير وزيادته (ص: 23).
فان نطق العبد بالخير ورجاه في نفسه وقع، وإن ظن الشر وتوقعه او نطق به وقع أيضًا.
الواجب الرابع: محبة المسلمين:
حب المسلم لأخيه عمل قلبي تعبدنا الله به، وجعله من كمال إيماننا به، وسبب من أسباب قوة أهل الإسلام ومصدر عزهم ومجدهم.
في الصحيحين من حديث أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤمن أحد حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وعنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار) صحيح، انظر الجامع الصغير وزيادته (ص: 536).
وقال الله {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103].
فجعل من أسباب نجاة العباد في الدنيا والآخرة رسوخ أخوتهم وتحابهم، فقال:
(فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)، وقال جل وعلا: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71].
وإن مما يترتب على قطيعة المسلمين وعدم محبتهم وتوادهم، الفشل والضياع والانحطاط، في الحديث: (دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء هي الحالقة حالقة الدين لا حالقة الشعر والذي نفس محمد بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أنبئكم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم) حسنه الألباني رحمه الله في الجامع الصغير وزيادته (ص: 568).
الواجب الخامس: التراحم:
تراحم المسلمين وتعاطفهم فيما بينهم دليل على صدق إيمانهم بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله جل وعلا: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].
وقال سبحانه وتعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54].
وقد رتب الإسلام على خلق التراحم والعطف على عموم المسلمين النجاة والتوفيق لعموم المسلمين ولولاة أمرهم، سواء كانت هذه الولاية في البيت الواحد، او المجتمع، او في شئون الدولة.
عن عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بهم فارفُقْ بِهِ» رَوَاهُ مُسلم.
وعَن جَرِيرِ بْنِ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ لَا يَرْحَمُ النَّاسَ» مُتَّفق عَلَيْهِ.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) رواه أبو داود والترمذي بزيادة وقال حديث حسن صحيح، صححه الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 272).
وقال صلى الله عليه وسلم: (ارحموا ترحموا واغفروا يغفر لكم، ويل لأقماع القول ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون) (صحيح) انظر حديث رقم: 897 في صحيح الجامع.
الواجب السادس: النصيحة لكل مسلم:
وهذا الواجب من أهم الواجبات التي يلزم كل مسلم القيام به، فالنصيحة من أهم قوائم الدين وأسسه الثابتة التي لا ينبغي التقصير فيه، في الصحيح: (الدين النصيحة) رواه مسلم.
قال الصنعاني رحمه الله في التنوير شرح الجامع الصغير (6/ 155): (أي عماده وقوامه النصيحة على "نحو الحج" عرفة، بولغ في النصيحة حتى جعل الدين كله إياها) أهـ.
ولقد جعل الله العاقبة في ترك النصح والتعاون على تغيير المنكر والأمر بالمعروف؛ مشينة ومهينة؛ من حرمان رحمة الله، وهلاك الأمم وسوء حالها، قال الحق جل وعلا: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78، 79].
وروى الترمذي في سننه من حديث حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذابا منه ثم تدعونه فلا يستجيب لكم) حسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 286).
الواجب السابع: الكف عن نقل الشائعات المخذلة، وعدم الخوض فيها بين المسلمين:
وهذا ما سماه الله في كتابه الكريم بالإرجاف وحذر منه، وجعل عاقبته اللعن والطرد من رحمته سبحانه وتعالى، فقال في محكم كتابه: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الأحزاب: 60، 61].
قال البيضاوي رحمه الله في أنوار التنزيل وأسرار التأويل (4/ 238).
(وأصله التحريك من الرجفة وهي الزلزلة سمي به الإِخبار الكاذب لكونه متزلزلاً غير ثابت) أهـ.
والمراد بالإرجاف هنا نقل كل ما من شأنه إضعاف المسلمين وكسر شوكتهم، ودب الخوف في نفوسهم من الأخبار والأنباء، سواء كان ذلك بالكلمة او الإشارة او الفعل.
قال السعدي رحمه الله في تفسيره (ص: 671): (ولم يذكر المعمول الذي ينتهون عنه، ليعم ذلك، كل ما توحي به أنفسهم إليهم، وتوسوس به، وتدعو إليه من الشر، من التعريض بسب الإسلام وأهله، والإرجاف بالمسلمين، وتوهين قواهم، والتعرض للمؤمنات بالسوء والفاحشة، وغير ذلك من المعاصي الصادرة، من أمثال هؤلاء) أهـ.
الواجب الثامن: الشعور بالمسئولية:
شعور المسلم بالمسؤولية تجاه دينه وأمته شيء من الإيمان ودليل صادق عليه، لأن الدفاع عن بيضة الإسلام أمر واجب على عموم المسلمين.
والمتتبع لنصوص الكتاب والسنة يجد الشيء الكثير من الأدلة التي تثبت بجلاء أن جميع المسلمين مكلفون ومسؤولون عن هذا الدين والدفاع عنه.
من ذلك أن جعل الحق سبحانه وتعالى خلاص الأمة ونجاتها من بؤسها وشقائها منوط بتعاون جميع أفرادها على تغيير حالهم والعمل الجماعي في تخليصها مما قد يصيبها، فقال سبحانه وتعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 53].
الواجب التاسع: الالتفاف حول القادة المخلصين لله، وتعيين او اختيار أمثالهم في قيادة الأمة لتخليصها من انحطاطها وقهرها.
وهذا أمر في غاية الأهمية، لأن الأمة التي لا تجتمع على قائد مخلص لدينه وأمته، قد تجتمع على منافق خوار، لا يزيد أمته الا ذلًا وخنوعًا وقهرًا.
والواجب على الأمة تعيين الصالح من المسلمين وأقواهم على أمرها، ليدفعه صلاحه للعمل النافع لدينه وأمته، وتعينه قوته على الذب عن بيضة الإسلام ومقدساته. قال الله: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26].
وإذا لم تعين الأمة أميرا صالحا عليها تخبطها الشيطان، وجعلها لقمة سائغة لأعدائها، يعيث بها الفساد، وفي الحديث عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا كَانَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أحدهم»، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح (2/ 1145).
قال الإمام الهروي رحمه الله في مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (6/2518) :(إِذَا كَانَ جَمَاعَةٌ وَأَقَلُّهَا ثَلَاثَةٌ، وَكَذَا إِذَا كَانَ اثْنَانِ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى الثَّلَاثَةِ لِمَا سَبَقَ أَنَّ الرَّاكِبَانِ شَيْطَانَانِ (فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ)؛ أَيْ: فَلْيَجْعَلُوا أَمِيرَهُمْ أَفْضَلَهُمْ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: إِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ لِيَكُونَ أَمْرُهُمْ جَمِيعًا وَلَا يَقَعُ بَيْنَهُمْ خِلَافٌ، فَيَتْعَبُوا فِيه) اهـ.
الواجب العاشر: الدعاء:
وهو الواجب الذي لا يجوز لمسلم تركه في شدته او رخائه، اذ به يظهر العبد ضعفه لربه وحاجته المطلقة لخالقه ومعبوده، ويكون آكد في شدائده ومحنه، قال الحق جل وعلا: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].
فعلى عموم المسلمين الدعاء للأمة بالخلاص مما تعانيه اليوم من قهر وذل وهوان، شريطة ان يكون العبد في دعائه؛ حاضر القلب، ملحا على ربه به، حلال كسبه، طيب مطعمه ومشربه، موقن بإجابة ربه ومولاه.
المصدر: صيد الفوائد.