logo

الريشة التي لم تحلق عاليا


بتاريخ : السبت ، 20 ذو الحجة ، 1436 الموافق 03 أكتوبر 2015
بقلم : هناء الحمراني
الريشة التي لم تحلق عاليا

في حصة الفنية، وبينما المعلم يدور بين طلابه فوجئ بوجود موهبة استثنائية لدى أحدهم .. أشاد بتلميذه الموهوب ..وحمله في ذاكرته إلى ما بعد الحصة الدراسية .. وعند أول فرصة يستطيع المعلم أن يستفيد فيها من موهبة تلميذه تحرك؛ ليطلب منه المشاركة في مسابقة على مستوى المنطقة على أمل أن يفوز وينتقل إلى مسابقة على مستوى الدولة ومن ثم إلى العالمية ..

بنى المعلم على موهبة تلميذه آمالا عريضة، ولم يرفض التلميذ عرض المعلم، واستعد لدخول المسابقة ..

أراد رسامنا الصغير أن يرسم لوحته في حجرته الخاصة، ولكن المعلم رأى أن يخصص له حجرة في المدرسة؛ لكي يراقب عمله عن قرب، وليمده بالنصائح اللازمة ليكون العمل أكثر جودة، وأكثر إتقانا .. وليكون كما كان يحلم ويتمنى .. استثنائيا وقريبا إلى الكمال ..

ومع ذلك لم يرفض التلميذ طلبه .. وكان يحمل في نفسه الكثير من التقدير والثقة لمعلمه العزيز الذي كان له الفضل في إتاحة هذه الفرصة الثمينة .. وبدأ يسرد في نفسه فضائل معلمه التي لم ولن ينساها له ما بقي!

أسند لوحته .. واستل قلمه ليبدأ مشوار الألف ميل .. تأمله المعلم من بعيد، وابتسم فخرا وسعادة بهذا الكنز الذي وقع عليه .. وفجأة لاحظ أن قلم تلميذه تحرك بطريقة خاطئة، وأضاف بعض الخربشات التي لا لزوم لها .. وقبل أن يستدرك التلميذ خطأه كان معلمه يصرخ منبها إلى ذلك الخطأ .. الذي اعتبره (جسيما) و(غير لائق) و(ينبغي تداركه قبل فوات الأوان)!

نظر التلميذ إلى معلمه بقلق .. أراد أن يخبره بأنه عادة ما يحدث ذلك .. وأنه يرغب في اكتشاف فكرة إبداعية مختلفة من جرة القلم تلك .. وأنه قادر على إصلاح الخطأ كما يفعل في كل مرة .. ولكن ثقته بمعلمه جعلته يتوقع الأمر على نحو مختلف .. وهو أن الرائعين لا يخطئون .. ولكي تكون رائعا فعليك أن تتبع نصيحة معلمك!

استمر العمل على اللوحة بهذه الوتيرة. فكل ملاحظة رآها المعلم لم يدعها حبيسة نفسه .. وكان يطلقها دائما بصوت عال .. وفي بعض الأحيان لم تكن تلك الملاحظات تخلو من إحساس المعلم بالخيبة .. وفي أحيان أخرى لم تكن تخلو من نبرة التهديد والغضب .. حتى أحس التلميذ بأنها أصعب لوحة مرت عليه .. وأنه ليس مبدعا كما كان يظن في نفسه ..

انتهت اللوحة بعد شهر من الشطب والمسح والأخذ والرد .. والإبداع والقتل .. أقسم فيها التلميذ ألا يشارك بعدها في أية مسابقة أخرى .. وأقسم المعلم أن يتحرى الدقة في الاختيار، وألا ينخدع بالمظاهر والصدف في المرات القادمة التي يفكر فيها بترشيح أحد طلابه .. وكما توقع الاثنان شاركت اللوحة في المسابقة، ولكنها خرجت كأول لوحة مستبعدة ..

عندما تشحذ ذاكرتك ربما تكتشف أن هذه القصة ليست حكرا على المعلم والتلميذ أعلاه .. قد تكون أنت هذا المعلم .. وقد تكون التلميذ الذي عانى ويلات معلم هذا أسلوب تعامله .. وإن كنت ممن أنجاك الله منهما فقد تعرف أحدا عاش مثل هذه الأحداث ..

الحكاية قد تعاد صياغتها ليكون أبطالها مدير مدرسة ومعلم .. أو مدير إدارة وموظف يعمل في إدارته .. القصة قد تكون عن أب وابنه المبدع .. عن زوج وسيطرته على زوجته أمام أبنائه .. وحتما يمكن تأنيثها إذ ما يحدث في عالم الرجال يمكن أن يحدث أيضا في عالم النساء .. أو في عالم مختلط يضمهما معا ..

لا أتحدث عن أولئك القادة والرؤساء الذين يسعون إلى تحطيم من هم تحت إيديهم .. وإنما أتحدث عن أولئك الذين يتدخلون بغرض التحسين والإصلاح .. ويفسدون من حيث لا يعلمون ..

كم من معلم مبدع بادر وحاول أن يثبت قدرته على العطاء والتغيير فيفاجأ بمدير يغير دفة حركته مع كل تصرف يبدر منه .. فلا يرى إلا أخطاءه .. ولا يتكلم إلا عن زلاته .. ولفرط ما يفعل ذلك يختلط الأمر على المدير فينتقد ما هو صالح ونافع .. ومن باب إحسان الذبحة .. ينهي الحكاية قائلا بأن هذا المعلم أكبر خيبة مرت على هذه المدرسة ..

كم من مدير مدرسة عانى من تدخلات مديره الأعلى في منطقته .. فكل مبادرة تعد تهورا وتجاوزا للصلاحيات .. وكل محاولة لإصلاح الأخطاء هي غياب للشفافية التي يجب أن تكون بين المدير ومرؤوسه .. وكل فشل يحدث هو نتيجة طبيعية لهذا المدير الذي كان غلطة فظيعة يجب أن يتم التخلص منها في أقرب فرصة ..

معاول هدم الثقة كثيرة .. ومن السهل على أي منا أن يحمل معولا منها .. ومن السهل على أي منا أن يغلق الأبواب في وجوه الآخرين بحجة أنهم ريح يجب سده لنستريح ..

ومشكلة المبدع والمبادر ليست في أعداء النجاح الذين يعرفهم ويعاينهم ويستطيع بجلاء فهم تصرفاتهم ودوافعهم .. وإنما مشكلته وكارثته فيمن يثق فيهم ويفترض أنهم يشاركونه الهدف .. وأن المصلحة التي يسعون لتحقيقها واحدة .. مهما كانت الطرق المؤدية إليها ..

اجلس مع نفسك عزيزي القارئ وفكر .. هل كنت يوما رئيسا أو قائدا لمجموعة عمل أو مجموعة طلاب أو حتى أفراد أسرتك، ومارست هذا النوع من السيطرة التي تجعل كل فرد يفقد ثقته في الآخر .. كما يحدث حين يفقد الأبناء ثقتهم في آراء والدتهم؛ لكثرة ما يرون والدهم يصحح لها جميع تصرفاتها بحجة أن الخطأ لا يمكن السكوت عنه .. بل ويرى أن عملها إذا كان جيدا .. فيمكنه برأيه أن يجعله أكثر جودة!

هل أنت من الصنف الذي استطاع أن يجعل من الرؤساء الذين يرأسهم مجرد خيال أو وهم يضطر فيه من هم دونهم إلى الرجوع إليك والاعتماد عليك في تحقيق مطالبهم وتنفيذ أمورهم ..

في كتاب سرعة الثقة للكاتب ستيفن.إم.آر.كوفي نجد وصفة سحرية لإنجاز الأعمال وتحقيق الأهداف بسرعة وجودة عالية .. هذه الوصفة هي كلمة واحدة .. (الثقة)

الثقة التي تجعل من كل شيء لا قيمة له عملا ذا قيمة .. ليس شرطا أن تكون الأعمال منذ البدء صحيحة .. وليس شرطا أن يكون النجاح حليف العمل منذ السنة الأولى .. مع أن ذلك ممكن .. فبشيء من التوجيه والتدريب المبدئي، وتنمية روح المبادرة بالتحفيز والتشجيع، وذكر الإيجابيات في كل عمل يقوم به من يعمل تحت إدارتك .. ستجد كيف يتكاثر الإنجاز، ويصبح إبداعا يتخطى الحدود والآفاق ..

أي استقرار نفسي سيحصل عليه القادة والأفراد الذين يعملون معهم عندما يدركون أن هؤلاء القادة أهل للثقة ممن هم أعلى منهم ..

إن هؤلاء القادة سواء كانوا (مديرين .. معلمين .. أزواج أو أبناء) الذين توسمت فيهم خيرا، ورأيت فيهم قدرة وعونا على تسيير دفة العمل .. هم فعلا قادرون على ذلك .. شريطة ألا تتوقع أن يكونوا نسخة منك .. يفكرون كما تفكر، ويقررون مثلما تقرر .. فالبشر أنماط .. وكل يعمل وفق خبرته وقدراته والظروف المتاحة له .. ونمط الأشخاص الآخرين الذين يعمل معهم ..

وإن كنت من أولئك الذين عانوا من هذا الصنف من القادة .. فاصنع بينك وبين قائدك جسرا من الثقة الحقيقية .. وهذا الجسر أدواته الصدق .. والحزم .. والتطوير المستمر للذات .. والاطلاع على خبرات الآخرين .. واستخدام تقنيات الذكاء الاجتماعي؛ لكسب القلوب قبل كسب العقول ..

إننا لا نريد مجتمعا سائبا لا رقابة فيه أو متابعة .. بل نريد مجتمعا قادرا على تحمل المسئولية .. فكن أيها القائد قريبا لترى الإنجازات .. رفيقا لتصلح الأخطاء .. بعيدا لتتغافل عن الزلات ..

أين رسامنا الصغير الذي تركناه في بداية المقالة؟ من سيتحمل مسئولية إعادة الريشة إلى كفه .. من سيصفق له مع كل جرة قلم؛ ليقول له مرحى .. استمر ..

الخبر الجميل أن الإبداع مثل الدماء .. يجري في عروق من أودع الله فيهم هذه الملكة .. وهؤلاء لا تموت فيهم روح المثابرة ..

كل ما في الأمر أنهم يحتاجون إلى بعض الوقت؛ ليعاودوا الوقوف على أقدامهم، ولاستخلاص العبر مما مضى، والانطلاق مجددا ..

والخبر الآخر ولا أدري أهو محزن أم مبكي هو أن أولئك الذين يمارسون قتل الإبداع ليسوا إلا ذكرى سيئة في ذاكرة الآخرين .. فاختر عزيزي القارئ .. أي نوع من الذكرى تود أن تكون ..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: موقع الإسلام اليوم