قوة التربية الإيمانية
يتساءل المربون:
كيف نستطيع أن نحمي ابناءنا من الانحرافات الكثيرة والمتنوعة في هذا الزمان؟
وكيف أستطيع أن أحصّنهم ضد الأمراض النفسية بدءًا من الاحباط والقلق ووصولًا إلى والاكتئاب الانتحار؟
كيف نربي أبناءً معتزين بهويتهم، واثقين من أنفسهم، يؤثرون ولا يتأثرون؟
الإجابة في كلمتين: التربية الإيمانية
إنها البرهان الذي حجز يوسف الصديق عليه السلام عن الوقوع في المعصية وقد توفرت كل الأسباب الداعية إليها.
وهي الضمير الذي جعل ابنة بائعة اللبن تزجر أمها عن غشّه قبل بيعه.
إنها قوة التربية الإيمانية التي تجعل المسلم يدور مع أمر الله تعالى حيث دار، فهل من الممكن أن نربي أبناءنا وطلابنا تربية إيمانية تصل بهم إلى هذه الدرجة؟ والجواب بكل تأكيد: نعم، إذا أحسن المربي القيام بها متوكلًا على الله تعالى؛ فإنه يُعان عليها، قال تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}.
وبينما يفهم البعض التربية الإيمانية على أنها إلزام الطفل بالعبادات الظاهرة، وتخويفه من النار عند كل خطأ يصدر منه، فإن المقصود بالتربية الإيمانية هو البناء المبكر لصلة الطفل بالله عز وجل حُبًّا وتعظيمًا، ثم خوفًا ورجاءً، ليتكون بداخله الضمير الإيماني اليقظ، الذي يمثّل البوصلة الموجِّهة له في طريقه مدة حياته، فلا يوجد رادع يحجز المرء عن المعصية ومقارفة النقائص والدنايا؛ أقوى من امتلاء القلب بتعظيم الله عز وجل ومحبته.
الاهتمام ببناء عقيدة الطفل هو منهج الأنبياء والرسل:
فهم رأس القدوات في تربية الأبناء أيضًا؛ ولذلك جاء في القرآن الكريم بيانا مفصّلاً لأساليبهم في الحوار مع الأبناء، ووعظهم والدعاء لهم، ووصيتهم بالتوحيد عند الموت، يقول تعالى عن الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {ووَصَّى بِهَا إبْرَاهِيمُ بَنِيهِ ويَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إلاَّ وأَنتُم مُّسْلِمُونَ}، وفي أول وصايا لقمان لابنه تحذيره له من الشرك قال تعالى {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يوصي ابن عباس رضي الله عنهما فيقول: "يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك ، وإذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ..." الحديث.
حفظ الفطرة مسئولية الوالدين:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟"، ثم كان أبو هريرة - رضي الله عنه- يقول: فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم. [رواه البخاري ومسلم]، وهذا الحديث يبين عظم مسئولية الوالدين في الحفاظ على فطرة الإيمان والتوحيد التي جبل عليها الطفل، فكل طفل يولد على الفطرة متهيئا لقبول الحق طبعا وطوعا، والوالدان هما من يقيمه على فطرة التوحيد والإيمان أو يغيرا مساره إلى ما سواها؛ لذلك لا تعتبر التربية الإيمانية أمر اختياري ولكنه واجب على كل مربي لا يسعه أن يتهاون فيه، ,يقول الغزالي: "الصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفسية ساذجة، خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش، ومائل إلى كل ما يمال إليه، فإن عوّد الخير وعلّمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة، وشاركه في ثوابه أبواه وكل معلم له ومؤدب. وإن عوّد الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيّم عليه والوالي له.
حماية عقيدة الأبناء من الاستهداف:
لا يخفى على المربي أن عقيدة أبناء المسلمين مستهدفة، لا يحتاج الأمر أكثر من متابعة برامج الأطفال وأفلام الكرتون، والألعاب الألكترونية حتى يتأكد المربي من السموم المسربة في هذه المواد، وهذا الكم الهائل من الأفكار الهدامة التي تعاكس وتضاد العقيدة والأخلاق الإسلامية، وتؤصل لعقائد وأخلاقيات منحرفة عقول أبنائنا؛ ولذلك فإن مراجعتها وتفنيدها وانتقاء الصالح منها لأن يشاهده الأبناء هو عمل المربي الذي لن يقوم به غيره، وهذا الفرز والتوجيه هو من صميم التربية الإيمانية الوقائية لأبنائنا.
أهم الخطوات العملية للتربية الإيمانية:
لقد أمرنا الله تعالى بتعزيز فطرة التوحيد في نفس الطفل منذ اللحظات الأولى لولادته، الأذان في الأذن اليمنى والإقامة في الأذن اليسرى للمولود، وسر ذلك كما ذكر "ابن القيم" في: تحفة المودود بأحكام المولود: "أن يكون أول ما يقرع سمع المولود كلمات الأذان المتضمنة لكلمة التوحيد والشهادة التي هي أول ما يدخل بها الإنسان لهذا الدين، وعندما يبدأ الكلام يكون أول ما يلقنه الوالدان له هو كلمة التوحيد أيضاً، لقوله صلى الله عليه وسلم: "افتحوا على صبيانكم أول كلمة بلا إله إلا الله"".
تنمية الصلة بالله والاعتماد عليه في كل أمر:
إنّ قوة الصلة بالله والثقة به، والاعتماد عليه يمثل الأساس الوقائي للأبناء من الأمراض النفسية والوساوس والمحبِطات، ويقوم المربي ببناء هذا الجانب مبكرًا ليظل هذا الاتصال دائمًا لا ينقطع، ويعزز هذا الجانب الإيماني أداء الطفل لأنواع العبادة المختلفة؛ مثل: الصلاة وتلاوة القرآن والذكر بتدبر، والصيام، والصدقة الخفية، فالعبادة بجميع أنواعها تشعر المؤمن أنه موصول بالله يستمد منه الهداية والعون، وبتحقيق هذه الصلة تقوى نفسه وتكون حياته خالية من اليأس والاضطرابات النفسية. (د. سميحة غريب: كيف تربي طفلاً سليم العقيدة؟،ص:48)
تعزيز الإيمان باليوم الآخر:
لأن الإيمان باليوم الآخر من أكبر ضوابط السلوك، لأنه يؤدي مباشرة إلى استمرار المراقبة لله عزّ وجلّ، ومحاسبة النفس، وإقبالها على الخير، وانتهائها عن الشر، بحسب قوته في نفس الطفل، وتعتبر قصار الصور مدخلاً جيداً للحديث مع الطفل عن اليوم الآخر، لأنه غالباً سيسأل عن معاني الكلمات الغريبة التي وردت فيها، مثال: (سورة الزلزلة، والقارعة، والتكوير والانشقاق والانفطار). (عبد الرحمن النحلاوي: التربية بالآيات، ص:85 بتصرف)
توظيف الأحداث والمواقف اليومية في بناء الإيمان:
ومن أحسن المواقف التي نقوم فيها بتوظيف الأحداث؛ الخروج بالطفل إلى نزهة في حديقة مثلًا أو على شاطيء البحر، وهنا يلفت الأب نظر الطفل إلى عظيم قدرة الله تعالى في الخلق والإيجاد من عدم؛ فيكون ذلك بمثابة التدريب العملي على عبادة التأمل والتي تثمر إيمانًا راسخًا في قلب الصغير والكبير، قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191،190].
الربط الميسر بين الأخلاق والعقيدة:
يبدأ المربي مبكرًا منذ السنوات الأولى من عمر الطفل في زرع القيم والمبادئ الأخلاقية، وربطها بالإيمان بالله عز وجلّ بطرق سهلة ميسرة، كقراءة القصص التربوية الهادفة والقدوة الحسنة أمامه، واستخدام أساليب الحوار الهادفة، واستغلال المواقف اليومية في عمل الخير والإحسان أمام ناظري الطفل مع ربطها باطّلاع الله تعالى عليها وأنه يجزي عليها الثواب العظيم، مع ذكر مفردات هذا الجزاء: (قصور رائعة في الجنة – لحم طير وفواكه لذيذة – ملابس خضراء من الحرير الفاخر- أساور من الذهب والفضة نملأ من اليدين مواضع الوضوء...) مع الاستشهاد عليها بأقصر الآيات القرآنية وأوضحها مما تضمن ذكر هذا النعيم، مثال: "وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ ، وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ" [الواقعة:21،20].
الاهتمام بأسئلة الطفل الدينية:
على المربي أن يكون متوقعًا ومستعدًا للإجابة على أسئلة الطفل الدينية، فقد يسأل الطفل عن الله تعالى ولماذا لا نراه، ولماذا نموت؟ ولماذا لم يخلق الله تعالى الناس جميعاً مؤمنين؟ وغيرها من الأسئلة، وعلى المربي أن يتسع صدره لأسئلة طفله؛ فكثرة الأسئلة من سمات الطفل الطبيعي، وعليه أيضاً أن يجيب عليها إجابات صادقة وسهلة بما يتناسب مع سنه ومستوى إدراكه. (عبد الله ناصح علوان: تربية الأولاد في الإسلام/ ج1، ص:162)
وأخيرًا، تجنب الأساليب التربوية المدمرة:
كل ما ذكرناه من أساليب التربية الإيمانية لا يمكن أن يُؤتي ثماره في بيئة أسرية تحطم شخصية الطفل وتحط من كرامته، وتعتمد في تربيتها له أساليب خاطئة؛ كالضرب والتوبيخ والمقارنات وكثرة الانتقاد والتسلط؛ فتكون النتيجة شخصية ضعيفة مصطبغة بالتدين الظاهري الضحل وليس العميق الذي نريد؛ لأن الطفل في مثل هذه البيئة قد يطيع المربي بدافع الخوف وكف الأذى، وشتان ما بين ذلك وبين غراس الإيمان الحقيقي الذي يُقوِّي لديه الوازع الإيماني والعقائدي، فشخصية الطفل يمكن تنميتها وبناؤها بشكل سليم وقوي إذا تم استخدام الأساليب الصحيحة في التعامل معه كإنسان محترم له قيمة وكرامة ورأي؛ لأنه سيشعر بقيمته الذاتية التي من خلالها يستمد قوته وثقته بنفسه، وبالتالي ينشأ عنده الشعور بالمسئولية في وقت مبكر، وهذا مانصبو اليه ونتمناه، فيكون طفلاً صالحاً وسليماً ومعافى نفسيًا وواثقًا من نفسه وراضيًا ومعتزًا بذاته، مترفعًا عن الزلل والانحراف، ساعيًا لمرضاة الله تعالى.