logo

هل تديننا حقيقي أم صناعي؟


بتاريخ : الخميس ، 24 شعبان ، 1436 الموافق 11 يونيو 2015
بقلم : د. جاسم المطوع
هل تديننا حقيقي أم صناعي؟

(بطاقة للفقير وبيوت للقطط وفريق خاص للمعاقين وحاويات جميلة بالطرقات والعاب ترفيهية للأطفال عند كل بناية)، هذا ما لفتنظري في زيارتي الأخيرة لتركيا، فقد زرنا مدينة (باشاك شهير) وهذه المدينة كانت مشهورة بكثرة أماكن اللهو وبيع المخدرات وكثرة الجريمة، وقد وضعت لهاالبلدية خطة تطويرية منذ خمس سنوات، فتحولت المدينة إلى أجمل مكان سياحيب تنظيم بنائها ونظافة طرقها وجمال حدائقها وبساتينها، وفيها وادٍ كان يسيلفيه مياه المجاري، والآن تراه جميلا بالألعاب الرياضية والحدائق المعلقة والمطاعم التركية الشهيرة، وبعد هذه الجولة الجميلة في المدينة، زرنا رئيسبلديتها لنتعرف علي تجربتهم في كيفية تحويل المدينة، من مدينة كانت رمزاللجريمة والمجرمين، إلى أشهر مدينة سياحية تمتاز في التكافل الاجتماعي بين الجيران والاهتمام بالفقير والمعاقين،وبعد شرح الخطة التطويرية ذكر لنا ابتكارا عملته البلدية للتعامل مع الفقراء، يحفظ لهم كرامتهم ولا يشعرهمبذل السؤال، وذلك من خلال صرف بطاقة لكل فقير يشتري بها ما يحتاجه شهريا منالأسواق، وقد تفاعل معها الفقراء وشعروا باحترام وتقدير لذاتهم، ثم تحدثمعنا عن تشكيل فرقة تطوعية تتكون من 50 شابا وفتاة، يجلسون علي الكراسي المتحركة لذوي الاحتياجات الخاصة، ويجوبون كل أسبوع في شوارع المدينة وسككها، فيكتشفون الطرق التي لا تصلح لسير كرسي المعاق فيرفعون فيها تقريراليتم تسويتها واصلاحها، ثم سألناه عن سبب كثرة ألعاب الأطفال التي رأيناها ونحن نمشي بالمدينة، فقال: إن قانون البلدية في تركيا لا يسمح لأي تاجريبني بناية تجارية ليس فيها حديقة ومكان مخصص لألعاب الأطفال، وإلا لا يسمحله بالبناء ولا يرخص له، وحسب ما أفاد أن بالمدينة أكثر من ألف بنايةتجارية للسكن.
كرر لنا رئيس البلدية أكثر من مرة أن شعارهم هو (خدمة الناس ودعم العم لا لاجتماعي وتطويره)، ولهذا فإن البلدية تتبنى مثل هذه المبادرات الاجتماعية، بل ومن جميل ما رأيت على الأرصفة وأنا أمشي بالطرقات بيوت صغيرة علي شكل مثلث، فسألت صاحبي: ما هذه الأكشاك الصغيرة ؟ فقال: هذه بيوت جديدة للقطط الضالة بالشوارع، تحتمي فيها ليلا أو وقت البرد، وقد تم توزيع هذه البيوت في كل شوارع استانبول.
مثل هذه المشاريع الاجتماعية من أشخاص حريصين على خدمة الناس وكسب قلوبهم؛ليحققوا لهم العيش الاجتماعي الآمن ذكرني بما كان يفعله عمر الفاروق، رضي الله عنه، لتحقيق الأمن الاجتماعي، وذلك بفرض مبلغ لكل رضيع وتحديد مدةسفر المجاهد حتي لا يطيل علي أهله، وقد زرت أكثر من مؤسسة اجتماعية فيتركيا، ولمست حبهم للدين وخدمته من خلال المشاريع الاجتماعية، وتلمستالتدين الحقيقي عندهم، على الرغم من أننا نتعامل مع أشخاص أحيانا لا يوحي شكلهم أنهم متدينون، ولكنهم ذوو أخلاق عالية وملتزمون بصلاتهم ويسعون لخدمة الناس ومجتمعهم، فتذكرت كلمة جميلة للأديب والمؤرخ المصري أحمد أمين(متوفى 1954)، عندما قال (هل تعرف الفرق بين الحرير الطبيعي والحريرالصناعي، وبين الأسد وصورة الأسد، وبين النائحة الثكلي والنائحة المستأجرة …فإذا عرفت ذلك عرفت الفرق بين التدين الحقيقي والتدين الصناعي) تذكرت هذه الكلمات وأنا أرى تدين الأتراك، فالمشاريع التي يقيمونها مستمرة لا تتوقفوهم منطلقون في خدمة الإسلام والمسلمين، بل إنني زرت أكاديمية الفاتح واجتمعت مع مديرها وهو (د.آدم) فعلمت أن من أهدافه تعليم اللغة العربية لخمسة مليون تركي، وقد حقق حتي الآن ثلث هدفه، فسألته عن سبب ذلك فقال: إن اللغة العربية هي لغة القرآن وهي هويتنا، كما أنها جزء من عقيدتنا، وهي وسيلة الخطاب والتفاهم بين كل المسلمين.
إن هناك فرقًا واضحًا بين من يحمل الدين برأسه ومن يحمله بقلبه، وهناك فرقبين من يكثر الكلام في الدين ومن يكثر العمل به، وهناك فرق بين المتدين الفاضي الذي يجوب الأسواق ويقلب صفحات النت، ويدمن على شبكات التواصل الاجتماعي، والمتدين صاحب المشروع الذي يعمل من أجله، كما أن هناك فرقًا بين المتدين الحقيقي والصناعي، إن النموذج الديني التركي العملي نموذج يستحق الدراسة والتأمل.

 

المصدر: موقع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين