logo

نزعة من محاكم التفتيش ضد الحجاب الإسلامي


بتاريخ : الخميس ، 1 صفر ، 1445 الموافق 17 أغسطس 2023
بقلم : علية مهدي
نزعة من محاكم التفتيش ضد الحجاب الإسلامي

إلى كل الأخوات اللواتي يتحجبن، رغم أن حقوقهن تداس بأحذية ديناصورات القرون الوسطى الذين ينصبون أنفسهم حماة لدين تائه في عصر الحداثة، تضامنا معكن وإعجابا بشجاعتكن ـ أيتها الأخوات المكافحات ـ أكتب هذه الكلمات..

هكذا أطلق أحد رجالات العلم المشهود لهم بأوربا صيحته المدوية على موقع من أشهر المواقع التي تعرض قضايا المسلمين في أوربا، ناقدا لتصرفات السلطات الفرنسية التي أعلنتها حربا شعواء على الحجاب الإسلامي، ولا غرو في ذلك ففرنسا بنت المسيحية ومهد انطلاقة الحروب الصليبية.

وإليكم ـ أيها الإخوة القراء ـ نص الخطاب الذي كتبه الدكتور "يحيى ميشو" ـ الأستاذ المحاضر في الجامعات الأوربية ـ في اللقاء السنوي الذي يقام في ضواحي باريس بمدينة (لوبورجي) ـ.. وفي شهر أبريل من هذه السنة (2003)، ألقى وزير الداخلية (نيكولا ساركوزي) خطابا في جماهير المسلمين أكد فيه على وجوب تعرية المرأة لرأسها في الصور الفوتوغرافية التي تلصق على الهوية الشخصية. منذ تلك اللحظة والحرب قائمة في فرنسا ضد الحجاب الإسلامي.

في بلجيكا، كما في فرنسا، تتكرر المأساة ويستمر النظام في طرد المسلمات المحتشمات من قاعات الدرس، يحدث هذا تحت شعارات مختلفة منها: لا للدعوة.. لا للأصولية، احذروا من شارة الإسلام السياسي، لا لعلامات التدين الظاهرة في المدارس، يجب التفريق بين الأماكن الخاصة والأماكن العامة، الفصم بين الكنيسة والدولة، الاحترام اللامشروط للعلمانية. قال وزير التعليم الأسبق (كلود ألاقر) في جريدة "لاكسبراس" 8/05/2003: ليس للعلمانية أن تتماشى مع الإسلام، إنما على الإسلام أن يتماشى مع العلمانية الفرنسية.

هذا الشعار الذي ما فتئ بعض المتطلعين إلى المنصب يرددونه، هؤلاء المسلمون "العلمانيون" هم الذين زادوا الطين بلّة عندما هاجموا مبادئ الإسلام. فالذي ينظر إلى زخم الشعارات المرفوعة من طرف العلمانيين، فرنسيين كانوا أو مسلمين، يظن أنه لا يوجد على بطاقات الراهبات غطاء للشعر، ولا على أعناق الآباء المسيحيين ربطات عنق مميزة، والمصيبة أنه لا يزال إلى يومنا هذا في بعض الساحات العامة صلبان ضخمة مغروزة في وسط المدن تذكر بانتماء لم يغب عن الأذهان، فهناك أعياد دينية مسيحية تحتفل بها الدولة وتدفع أجرها للعاطلين، رغم ادعاء الفصل بين الدين والدولة، حتى التقاويم الوطنية أغلب عطلها هي مناسبات دينية بحتة، بل هناك أعلام جهوية مرسوم عليها الصليب بوضوح، بل هناك مدن بكاملها تحمل أسماء شخصيات دينية من أكثر الشخصيات دموية في تاريخ أوربا.

أين بالله عليك ـ أيتها العلمانية ـ الفصل بين الدين والدولة؟! أم أن هذا حرام على المسلمين وحدهم؟! إن المسيحية في أوربا، وفرنسا بالخصوص، لا تزال حاضرة، فعلاماتها تصادفك عند كل منعرج طريق وفي كل مكان، فالثقافة الأوربية مسيحية، والسياسة الأوربية مسيحية، هذا رغم أن الدساتير تدعو إلى تحييد المؤسسات العامة، والمدارس والمناهج التعليمية.

طريقان للتّهميش.. هل هي محض الصدفة؟!

أن يتم توجيه أصابع الاتهام إلى الإسلام فقط؟ فهذا ليس جديدا، وبالتالي فقد تعودنا، أو بالأحرى سئمنا، هذه الحملات المتكررة ضد الإسلام، مع أننا لسنا في فلسطين، ولا أفغانستان، ولا العراق، ولا كشمير، ولا البوسنة.. إن الهجوم الكاسح الذي تتعرض له المسلمات العفيفات في العديد من الدول الأوربية يفجأ الجميع، ذلك أن الفقرة رقم 09 من المعاهدة الأوربية لحقوق الإنسان تجعل من المستحيل منع طالبات الثانويات من لبس الحجاب عن طريق سن القوانين، فالسياسيون يصيحون اليوم: ممنوع الحجاب في المدارس، تماما كما كان النازيون يصيحون ضد اليهود: لا تقبلوا يهوديا أو غجريا في جيش الرّايخ العظيم، أو كما صاح في القرن الـ 16 زعماء محاكم التعذيب الأسبان: لا بقاء للدم الإسلامي النجس في المملكة الكاثوليكية. لقد عارضني بعضهم ـ يقول الأستاذ ميشو ـ عندما خالفتهم في قضية الحجاب فقال لي: إنه لا مقارنة بين ما فعله النازيون لليهود برسم نجمة صفراء على أذرعهم، فهم كانوا يفعلون ذلك بقصد التفرقة العنصرية، أما نحن فإننا بإجبار المسلمات على نزع حجابهن إنما نعمل على تحريرهن، وتسويتهن بالرجل، ودمجهن في المجتمع ورفعهن إلى مستوى حضاري.

مهما كانت عظمة المبادئ التي يدّعون العمل من أجلها ـ يقول الأستاذ ميشو ـ فإن التجارب أثبتت أن احتقار الفروق والخصوصيات البشرية يؤدي إلى إحباط أشد من آثار التمييز العنصري، فالتهميش الاجتماعي، ونمو مشاعر الظلم عند هؤلاء الذين واللواتي يريدون البقاء أوفياء لدينهم قدر الإمكان لا يشكلون بالتزامهم خطرا على المجتمع ولا على الناس لا من قريب ولا من بعيد، فإذا كانت الخصوصية التي هي أصل المجتمعات البشرية تدفع ضيقي الأفق من مسؤولين سياسيين أو مديري مدارس إلى التدخل لحرمان الطالبات من التعليم، فهو أمر يأتي بعكسه تماما حيث ينمو الشعور بالوحدة وبضياع الحقوق في مجتمع يدّعي أنه جنّة حقوق الإنسان، وبالخصوص إذا كان الأمر يتعلق بمواطنين كاملي الأهلية.

ونحن نقول إن الذي يحصل إنما يحصل؛ لأن هؤلاء المسؤولين لا يتحملون أن يروا غيرهم سعيدا بالمحافظة على دينه، أو خصوصيته الثقافية، ومن ثَمّ فهم يدعون إلى أيديولوجية ليس فقط تقهقرية وبربرية ولا إنسانية، إنما أيضا متطرفة ومتعصبة ومجرمة إلى درجة ليس لها مثيل، لا فرق في واقع الأمر بين أن تجبر فتاة لتتخلى عن حشمتها وتنزع حجابها، وبين أن تجبرها على حمل نجمة داوود الصفراء بدافع العنصرية، أو حمل هلال أخضر بدافع التمييز.

لا أحد يتصور أنه يمكن في عصرنا هذا أن تفرض النجمة الصفراء على أيّ كان، فمحرقة اليهود كانت سببا في لعنة أبدية سلطت على أيديولوجية النازية المتمثلة في الصفاء العنصري للجنس الآري وفي قيم القومية - الاشتراكية وغيرها من المبادئ التي حملها هتلر لدعم سياسته الرهيبة. فما سر وحقيقة إجبار المسلمات على نزع حجابهن؟ لن نفهم ذلك إلا بكشف محرقة المسلمين في الأندلس: إن الحقائق التي تدفع إلى محاربة الحجاب هي نفسها التي دفعت زعماء محاكم التعذيب الأسبان إلى محاربة الحجاب. كيف؟ ففي هذه القضية بالذات يسهل مراجعة التاريخ ونكران حقائقه أو تزييفها عن مواضعها.

إن الجنون الأوربي النابع من خوفه من الآخر صار هستريا عامة، مما أدى إلى نسيان تاريخ التفتيش الرهيب، وصار بذلك الكثير من الأوربيين يتبنى أفكار محاكم التفتيش، بل عفت المسيحية عن نفسها بنفسها حتى صار لا أحد يتذكر أيام القرون الوسطى الحالكة الظلام والمغرقة في الإرهاب. نعم، تناسى الجميع أنه في القرن الـ16 كانت قضية نزع حجاب المسلمات الأسبانيات من مُسَلُّمات السياسة الكاثوليكية لمحاكم التفتيش، وهي سياسة كانت تعتمد على القوانين والسلطة لإجبار المسلمات على ترك الحجاب، حيث أدت في النهاية إلى سحق عشرات الآلاف، سواء قتلا أو ترحيلا عن وطنهم، كان ذلك بين 1609 و 1610.

وفي 29 جويلية 1513 صدر مرسوم من الملكة "جان المجنونة" ـ كما يلقبونها ـ يمنع المسلمات من التّنقّب، وهكذا صارت الأحكام التعسفية شيئا فشيئا قاسية وظالمة في حق من لم تلتزم بالقانون، وفي سنة 1526 قامت هيئة برئاسة الدون "ألونزو منريكي" ـ كبير رؤساء محاكم التعذيب ـ بدراسة الطريقة الأمثل لتذويب الموريسكيين المسلمين في غرناطة، فتم القرار بوجوب تغيير ألقابهم الإسلامية، وجوب تخليهم عن اللغة العربية، وجوب أخذ ألقاب قشتالية، ووجوب تمزيق ملابسهم ثم إعادة خياطتها حسب التقاليد الأسبانية، ليس هذا فحسب، بل وجوب نزع الحجاب عن نسائهم.

في سنة 1566 صدر قانون يوجب على المسلمين ارتداء ملابس النصارى ويوجب على المسلمات نزع حجابهن، أما في سنة 1600 فقد قام كاتب الديوان العام المدعو (بيدرو فرانكويزا) بكتابة مذكرة إلى الملك فيليب الثالث يدعوه فيها إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع المسلمين: "من دفن موتاهم حسب مراسيم دينهم، وإجبارهم على التخلي عن لغتهم وعن ملابسهم الدينية وعن تناولهم اللحم الحلال، ثم هدم كل مساجدهم وحماماتهم ومدارسهم". وعندما أصر المسلمون على عدم التنازل عن تقاليدهم ودينهم وعاداتهم، أعاد ذلك الكاتب الكرة وأخبر الملك بأنه لا جدوى من هؤلاء المسلمين الموريسكيين فهم ملتزمون تماما بتقاليدهم حتى لو أدى بهم ذلك إلى الموت.

وفي مدينة "بلنسية" سنة 1600 كتب الأب الفرانسيسكان "أنطونيو سوبرينو" إلى الملك "فيليب الثالث" مذكرة جاء فيها: "إنه شيء عظيم أن نجرد المسلمين من كل ما يبين هويتهم الثقافية، يجب أن يتشبهوا بالنصارى في ملابسهم، في كلامهم في تقاليدهم، في مأكلهم وكتابتهم، وفي كل ما يتعلق بالتقاليد النصرانية الحسنة، يجب على أرباب الأبرشيات أن يجبروا المسلمين على الالتزام التام بكل ما هو نصراني حلال، مثل اللباس، الولائم العامة، أكل اللحوم، وشرب الخمر...إلخ".

يقول الأستاذ "يحيى ميشو" ـ صاحب المقال ـ: فعلى مدى 120 عاما حصل اغتصاب أيديولوجي منظم ضد المسلمين في أسبانيا، بدأ بالتجهيل المتعمد والاضطهاد الجماعي، ووصولا إلى التقتيل الجماعي والممنهج، حيث قلب حياة المسلمين إلى جحيم، استمر ذلك منذ اغتصاب غرناطة في 1492 إلى طرد حوالي300 ألف منهم سنة 1609-1610 وقتل أضعاف مضاعفة لهذا العدد.

كانت حقيقة محرقة رهيبة تشبه تماما محرقة النازية الممتدة بين سنة 1933 إلى سنة 1945، فكما أن المحرقة جعلت فرض أية شارة معينة بمثابة نجمة صفراء؛ فإن تدمير مسلمي الأندلس المنظم والممنهج من طرف الدولة آنذاك، ومحاكم التعذيب الرهيبة التي أقيمت باسم الدين في القرن السادس عشر، يجعل أي تصرف تحت أية دعوة كانت ترمي إلى تذويب أية مجموعة من الناس في أي مجتمع، سواء أكان ذلك التذويب بالقوة أو بالعناية المركزة، فيعتبر في مجال حقوق الإنسان جريمة ضد الإنسانية، وما يجري للمسلمات اليوم من اضطهاد مماثل للذي تحدثنا عنه، عن طريق إجبارهن على خلع الحجاب بواسطة القوانين هو تماما ما فعله ملوك أسبانيا ونفذته محاكم التعذيب!

مستقبل بدون ديناصورات السياسة:

نخلص في النهاية إلى نتيجة مفادها: أن العلمانية، والدمج الاجتماعي، وغيرهما من الأفكار، والتي يفترض فيها الديكارتية، فكل من يحملون هذه الأيديولوجية، سواء أكانوا ليبراليين أو جمهوريين، نسويين أو تقدميين، يجمعون ـ من خلال تلك الأيديولوجيات ـ على تجريد المسلمات من حجابهن، إنما يكشفون بذلك عن حقيقة أن أفكارهم هذه ليست بقيم موضوعية، ولا مبادئ إنسانية كونية، وهذا التصرف البربري في دولة حقوق الإنسان إنما يفضح تلك الأنفس المريضة التي لا تتحمل لا الاختلاف الثقافي ولا الرأي الآخر، وهي مجموعة ممن يسمون أنفسهم "المتنوّرين" وما هم في الحقيقة سوى أبواق للسلطة المركزية وللخطاب الديماغوجي المعروف.

إنه لجدير بالإشارة أن الحجاب لم يزعج أحدا لا في إيطاليا ولا في بريطانيا حيث ترتديه الطالبة في الثانوية، والعاملة في الأروقة التجارية، والبرلمانية في البرلمان، بل حتى الشرطية ترتديه دون أن يزعج ذلك لا السلطات والناس.

علينا جميعا أن نبين أن محاولة تذويب الناس على اختلاف ألوانهم وثقافاتهم في مجتمع متماثل هو امتداد لأفكار الحروب الصليبية في القرون الوسطى، إن السياسة التي تتبعها السلطات الفرنسية هي من بقايا محاكم التعذيب، التي قد تجر كوارث على المجتمع والناس، كما حدث في التاريخ الذي يعيد نفسه الآن ولكن تحت مسميات مختلفة. فقد بدأت تلك المحاكم بما بدأت به فرنسا الآن، ووصلت في النهاية إلى الإعدامات الجماعية، والتعذيب اللاإنساني، وإجبار الآخر على ترك دينه، بل حتى الذين تنصروا أحرقوا بالنار بحجة تطهير دمائهم التي لم تزل مخلوطة بدماء المسلمين، جرى ذلك مدة قرنين من الزمان من 1492الى 1610، ما جعلنا نصرخ بأعلى صوتنا: حذار حذار، فإن ماضيا كماضي أوربا يجعل المبادئ العظمى التي ننادي بها فارغة من معناها الحقيقي، ونحن نمارس ما مارسه زعماء محاكم التعذيب.

إن النضال من أجل أن تحافظ المسلمة على حجابها، ليس وفاء للإسلام فحسب، بل هو التصدي لأفكار الملكة "جان المجنونة"، و"منريكي" الجلاد، و"فيليب الثالث" في عصرنا هذا، وهو بنفس الوقت تصدي لكل الفاشيين والنازيين لتحرير أوربا من شياطينها الذين لا يزالون لم يفارقوا ساستها وحكماءها، فلا مستقبل لأبنائنا في ظل هذا العسف والظلم، الذي يفرضه ديناصورات السياسة في الغرب، ولكي لا تبقى أخواتنا وحدهن في ميدان النضال من أجل الحقوق الشخصية والحق في الاختلاف، فإنني أقترح على كل الشباب المسلم أن يوفروا لحاهم ويلبسوا العمائم في كل مكان.

بهذه الكلمات ختم الأستاذ الدكتور "يحيى" ميشو خطابه.

المصدر: موقع لها أونلاين