من لوازم الحكم على الآخرين: سلامة القلب والتجرد من الهوى
إن محاولة تقويم أي رجل من الرجال، أو مؤلَّف من المؤلَّفات، بمقررات سابقة وخلفيات مبيتة تجعل الإنسان يميل عن الحق ميلًا واضحًا، فهو لا ينظر إلى المرء بمجموع أعماله؛ بل يتغاضى عن المحاسن، ولا يقع بين عينيه إلا الهفوات؛ بل قد يعطيها أكثر مما تستحق من النقد والتجريح.
لذا كان التجرد في التقويم من الأسباب المهمة التي تجعل الحكم صوابًا أو قريبًا من الصواب، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء:135].
وكما يجب التجرد من هوى العداوة والبغضاء في النقد فإنه يجب التجرد من هوى الحب في المدح، وكما لا يجوز التحامل فإنه لا تجوز المحاباة.
قال شعبة: «لو حابيت أحدًا لحابيت هشام بن حسان، كان ختني ولم يكن يحفظ».
وسئل علي بن المديني عن أبيه فقال: «سلوا غيري»، فأعادوا فأطرق، ثم رفع رأسه فقال: «هو الدين».
وكان أبو داود السجتساني يكذّب ابنه، وقال عبيد الله بن عمرو: «قال لي زيد بن أبي أُنيسة: (لا تكتب عن أخي؛ فإنه كذاب)».
وتدبروا، أيها الإخوة، وصية الله لنبيه داود عليه السلام: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} [ص:26]، فلا ينبغي أن تكون المحبة لشخص أو البغضاء له دافعًا إلى إهمال العدل: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8].
والقلب إن لم يسلم من التأثر بهذه العواطف القلبية فلا بد من الخطأ في التقويم، قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله: «ومن المعلوم أن مجرد نفور النافرين، أو محبة الموافقين، لا يدل على صحة قول ولا فساده، إلا إذا كان ذلك بهدى من الله؛ بل الاستدلال بذلك استدلال باتباع الهوى بغير هدى من الله؛ فإن اتّباع الإنسان لما يهواه هو أخذ القول والفعل الذي يحبه، وردّ القول والفعل الذي يبغضه بلا هدى من الله».
وقال أيضًا رحمه الله: «وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه، فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك، ولا يطلبه، ولا يرضى لرضا الله ورسوله، ولا يغضب لغضب الله ورسوله؛ بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه، ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه، ويكون مع ذلك معه شبهة دين: أن الذي يرضى له ويغضب له أنه السنة، وأنه الحق، وهو الدين».
اقصد وجه الله والنصح للمسلمين:
وبهذا يتبين أن التجرد في القول والعمل وسلامة المقصد أصل مهم في تقويم الرجال وأعمالهم، حتى لو كان رأي الإنسان صحيحًا، لكنه لم يقصد به وجه الله تعالى ثم النصح للمسلمين فإن عمله مردود غير مقبول، وهو مأزور غير مأجور إذا لم يتجاوز عنه ربه؛ قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5].
قال شيخ الإسلام بن تيمية: «وهكذا الرد على أهل البدع، من الرافضة وغيرهم، إن لم يَقصِد فيه بيانَ الحق وهدى الخلق ورحمتهم والإحسان إليهم لم يكن عمله صالحًا، وإذا غلظ في ذم بدعة ومعصية كان قصده بيان ما فيها من الفساد ليحذرها العباد، كما في نصوص الوعيد وغيرها، وقد يُهجَر الرجل عقوبةً وتعزيزًا، والمقصود بذلك ردعه وردع أمثاله للرحمة والإحسان لا للتشفي والانتقام، كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الثلاثة الذين خُلِّفوا في غزوة تبوك».
فعلى الإنسان المسلم أن يفتش في قلبه، ويطهّره من جميع آثار الهوى قبل أن يبدأ في تقويم شخص من الأشخاص أو كتاب من الكتب؛ لكي يكون متين الرأي منصفًا، بعيدًا عن الجور والظلم المذموم شرعًا، وذلك أن صاحب هذا القلب الطاهر السليم مطمئن البال، هادئ النفس، يحب الخير للناس، ويبذل النصح لهم، وهذه هي صفات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين مدحهم الله عز وجل بقوله: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29].
ومثل هذا يُلقى له القبول بين الناس، حتى وهو يرد على الأخطاء والانحرافات؛ فإنه يصاحبه في ذلك شعور بالشفقة، وحب الهداية للغير، لا مجرد الرد والخصومة والجدال كما هو الحال في كثير ممن يتصدى للمخالفين له أو لشيخه؛ حيث إن الأمر يصل به إلى الاعتداء في كلامه لمن يخالفه في الفروع التي يسعها الخلاف، فضلًا عن الأصول، لا لشيء إلا لأنه خالفه أو خالف شيخه وكفى.
لا تشغل قلبك بما ينالك من الأذى، فبسلامة القلب، إخوة الإسلام، يتم العدل في جميع الأمور, وصاحب القلب السليم لا يؤذي المسلمين ولو آذوه، ولا ينتقم لنفسه، وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين أحد عشر مشهدًا فيما يصيب المسلم من أذى الخلق وجنايتهم عليه, نكتفي بمشهد واحد؛ حيث يقول رحمه الله: «المشهد السادس: مشهد السلامة وبرد القلب، وهذا مشهد شريف جدًا لمن عرفه وذاق حلاوته، وهو ألَّا يشغل قلبه وسِره بما ناله من الأذى وطلبِ الوصول إلى درك ثأره وشفاء نفسه؛ بل يفرّغ قلبه من ذلك، ويرى أن سلامته وبرده وخلوّه منه أنفع له وألذ وأطيب، وأعون على مصالحه؛ فإن القلب إذا اشتغل بشيء فاته ما هو أهم عنده وخير له منه، فيكون بذلك مغبونًا، والرشيد لا يرضى بذلك، ويرى أنه من تصرفات السفيه، فأين سلامة القلب من امتلائه بالغلّ والوساوس، وإعمال الفكر في إدراك الانتقام».
ولابن تيمية رحمه الله رسالة كتبها إلى تلامذته بدمشق، تبرز فيها هذه الصفة (سلامة القلب) بجلاء, نذكر مقاطع منها، يقول رحمه الله في رسالته لتلامذته: «وتعلمون من القواعد العظيمة، التي هي من جماع الدين، تأليف القلوب, واجتماع الكلمة, وصلاح ذات البين؛ فإن الله تعالى يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103], ويقول: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105], وأمثال ذلك من النصوص التي تأمر بالجماعة والائتلاف، وتنهى عن الفرقة والاختلاف, وأهل هذا الأصل هم أهل الجماعة، كما أن الخارجين عنه هم أهل الفرقة».
إلى أن قال في الرسالة نفسها: «وأول ما أبدأ به من هذا الأصل ما يتعلق بي, فتعلمون، رضي الله عنكم، أني لا أحب أن يؤذى أحد من عموم المسلمين، فضلًا عن أصحابنا، بشيء أصلًا, لا باطنًا ولا ظاهرًا، ولا عندي عتب على أحد منهم ولا لوم أصلًا؛ بل لهم عندي من الكرامة والإجلال والمحبة والتعظيم أضعاف أضعاف ما كان كلٌّ يحسبه, ولا يخلو الرجل إما أن يكون مجتهدًا مصيبًا أو مخطئًا أو مذنبًا، فالأول مشكور، والثاني مع أجره على الاجتهاد فمعفو عنه مغفور له، والثالث فالله يغفر لنا وله ولسائر المؤمنين، فنطوي بساط الكلام المخالف لهذا الأصل؛ كقول القائل: فلان قصّر، فلان ما عمل، فلان أوذي الشيخ بسببه، فلان كان سبب هذه القضية، فإني لا أسامح من آذاهم من هذا الباب ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ بل مثل هذا يعود على قائله بالملام إلا أن يكون له من حسنة، وممن يغفر الله له إن شاء الله, وقد عفا الله عما سلف».
إلى أن قال رحمه الله في الرسالة نفسها: «فلا أحب أن يُنتصر من أحد بسبب كَذِبِه عليّ، أو ظُلمِه وعدوانه؛ فإني أحب الخير لكل المسلمين، وأريد لكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي، والذين كذبوا وظلموا في حلّ من جهتي»، انتهى كلامه رحمه الله، وهو كلام عظيم، يستشعر قارئه فيه الصدق وقمة التجرد من الهوى، وقلّ من يكون كذلك.
وقد قال الإمام ابن ناصر الدين الدمشقي: «هيهات هيهات! إن في مجال الكلام في الرجال عقبات، مرتقيها على خطر، ومرتقيها هوًى لا منجى له من الإثم ولا وزر، فلو حاسب نفسَه، الرامي أخاه، ما السبب الذي أهاج ذلك؟ لتحقق أنه الهوى الذي صاحبه هالك».
كلام الأقران بعضهم في بعض يطوى ولا يروى:
ونظرًا لأهمية هذه القاعدة (سلامة القلب والتجرد من الهوى) في تقويم الأشخاص والكتب كان من منهج أئمة الحديث في تقويم الرجال أن (كلام الأقران بعضهم في بعض يطوى ولا يروى)، والأقران هم النظراء في المكانة والعلم أو المتنافسون في مجال ما، فهؤلاء الأقران كثيرًا ما يقع بينهم شيء من الاختلاف لأي سبب من الأسباب؛ فيؤدي ذلك إلى وقوع بعضهم ببعض دون عدل أو تأنٍّ، حتى إن الواحد منهم قد يصف صاحبه بأوصاف يعلم يقينًا أنه بريء منها، ولكنّ حبّ الذات والانتصار للنفس يزكي فيه روح الغيرة والاعتداء.
ومن أجل هذا كان النقاد الجهابذة من المحدثين يهملون هذا الجرح؛ لأنه، في الغالب، لا يسلم من التجرد من الهوى، ولا يصدر عن سلامة في القلب.
قال الإمام الذهبي: «كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به، لا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد...، وما ينجو منه إلا من عصمه الله، وما علمت أن عصرًا من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئت لسردت من ذلك كراريس».
فإذا كان هذا كلام الذهبي في زمانه السالف وما قبله فكيف بحالنا اليوم؟!
وقال السبكي: «الصواب عندنا أن من ثبتت إمامته وعدالته، وكثر مادحوه ومزكّوه، وندر جارحوه، وكانت هناك قرينة دالة على سبب جرحه، مِن تعصب مذهبي أو غيره، فإنا لا نلتفت إلى الجرح فيه ونعمل فيه بالعدالة، ولو فتحنا هذا الباب، وأخذنا تقديم الجرح على إطلاقه لما سلم لنا أحد من الأئمة؛ إذ ما من إمام إلا وقد طعن فيه طاعنون، وهلك فيه هالكون».
فتأمل، أخي المسلم، كيف كان منهج سلفنا في تقويم الأشخاص، وكيف أصبحنا اليوم نقع في الأشخاص وننقدهم النقد اللاذع، ليس لأننا رأينا أخطاءهم بالعمل، ولكن اعتمادًا على كلام أقرانهم وقدح منافسيهم فيهم، مع أن ذلك لا يصلح الاعتماد عليه في النقد والتقويم؛ بل يطوى ولا يروى كما قال الأئمة.
ومن المهم أن ندرك أن صورة ذلك الاختلاف بين الأقران لا تقف عند المحدثين فحسب؛ بل تتعداه في عصرنا إلى العلماء والدعاة وشتى العاملين في حقل الدعوة الإسلامية؛ ولذا كان المنهج القسط أن ينظر إلى الخلفيات التي تكمن وراء الجرح والنقد، ومن ثم يوزن الجرح أو النقد بما يقتضيه الحال، مع التحري والإنصاف، حتى لا يُتَّهم أحد بما ليس فيه، فليس كل جرح مؤثرًا، وليس كل اتهام مقبولًا.
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: «كل رجل ثبتت عدالته لم يقبل فيه تجريح أحد حتى يتبين ذلك عليه بأمر لا يحتمل غير جرحه»، فتأمل كيف ابتعد الناس اليوم عن معنى هذا الكلام المستقيم؛ حيث أصبحوا يفقدون الثقة بعضهم ببعض اعتمادًا على شائعة أو اتباعًا لكلام حاسد.
ومن التجرد من الهوى الفرح بإصابة الغير للحق والحزن على مجانبتهم له، ولعل هذا الأمر من أصعب الأمور؛ لأنه يمثل قمة العدل والتقوى والورع، ومما يُؤسِف ويحزن أننا نرى الكثيرين من دعاة المسلمين اليوم، فضلًا عن عامتهم، إذا رأوا غيرهم قد أخطأ فإنهم يفرحون بذلك, حتى يحسبونه غلبة؛ بل إنك ترى الكثيرين منهم يتتبع الكتابات والمقالات التي قالها غيرهم, وهمهم الوحيد هو تتبع العثرات والفرح باصطيادها, في الوقت الذي لو وجدوا خلاف ذلك، من إصابة غيرهم للحق، فإنهم يحزنون لهذه الإصابة، وهذا، والعياذ بالله، هو الظلم والحقد والحسد، والذي لا يلتقي مع الإخلاص والعدل وحب الخير للناس.
وما أحسن الحكاية التي ذكرها ابن رجب رحمه الله حول هذا الأمر؛ حيث قال: «وقد استحسن الإمام أحمد ما حكي عن حاتم الأصم أنه قيل له: (أنت رجل أعجمي لا تفصح، وما ناظرك أحد إلا قطعته، فبأي شيء تغلب خصمك؟)، فقال: (بثلاث: أفرح إذا أصاب خصمي، وأحزن إذا أخطأ، وأحفظ لساني عنه أن أقول له ما يسوءُه)، أو معنى هذا، فقال أحمد: (ما أعقله من رجل)».
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
_______________
موقع: طريق الإسلام