مِنْ لوازم الحكم على الآخرين: (سَلَامَةُ القَلْبِ وَالتَّجَرُّد مِنَ الهَوى)
إن محاولة تقويم أي رجل من الرجال أو مؤلَّف منالمؤلَّفات بمقررات سابقة وخلفيات مبيتة تجعل الإنسان يميل عن الحق ميلاًواضحًا، فهو لا ينظر إلى المرء بمجموع أعماله, بل يتغاضى عن المحاسن, ولايقع بين عينيه إلا
الهفوات، بل قد يعطيها أكثر مما تستحق من النقدوالتجريح.
لذا كان التجرد في التقويم من الأسباب المهمة التي تجعل الحكم صوابًا أو قريبًا من الصواب. قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَلِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَإِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاتَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا}.
وكما يجب التجرد من هوى العداوة والبغضاء في النقد فإنه يجب التجرد من هوى الحب في المدح, وكما لا يجوز التحامل فإنه لا تجوز المحاباة. قال شعبة: "لو حابيت أحدًا لحابيت هشام بن حسان، كان ختني ولم يكن يحفظ".
وسئل علي بن المديني عن أبيه فقال: "سلوا غيري". فأعادوا فأطرق، ثم رفع رأسه فقال: "هو الدين".
وكان أبو داود السجتساني يكذّب ابنه.
وقال عبيد الله بن عمرو: قال لي زيد بن أبي أُنيسة: "لا تكتب عن أخي؛ فإنه كذاب".
وتدبروا أيها الإخوة وصية الله لنبيه داود عليه السلام: {يَادَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَالنَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِاللَّهِ}.
فلا ينبغي أن تكون المحبة لشخص أو البغضاء له دافعًا إلى إهمال العدل: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}.
والقلب إن لم يسلم من التأثر بهذه العواطف القلبية فلابد من الخطأ في التقويم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ومنالمعلوم أن مجرد نفور النافرين، أو محبة الموافقين، لا يدل على صحة قول ولافساده, إلا إذا كان ذلك بهدى من الله, بل الاستدلال بذلك استدلال باتباعالهوى بغير هدى من الله؛ فإن اتّباع الإنسان لما يهواه هو أخذ القول والفعلالذي يحبه، وردّ القول والفعل الذي يبغضه بلا هدى من الله".
وقال أيضًا رحمه الله: "وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه، فلا يستحضر ما للهورسوله في ذلك, ولا يطلبه, ولا يرضى لرضا الله ورسوله، ولا يغضب لغضب اللهورسوله, بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه, ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه،ويكون مع ذلك معه شبهة دين: أن الذي يرضى له ويغضب له أنه السنة، وأنهالحق، وهو الدين".
اقصد وجه الله والنصح للمسلمين
وبهذا يتبين أن التجرد في القول والعمل وسلامةالمقصد أصل مهم في تقويم الرجال وأعمالهم، حتى لو كان رأي الإنسان صحيحًا,لكنه لم يقصد به وجه الله تعالى ثم النصح للمسلمين؛ فإن عمله مردود غيرمقبول, وهو مأزور غير مأجور إذا لم يتجاوز عنه ربه؛ قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ}.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهكذا الردعلى أهل البدع من الرافضة وغيرهم, إن لم يقصد منه بيان الحق وهدى الخلقورحمتهم والإحسان إليهم لم يكن عمله صالحًا، وإذا غلظ في ذم بدعة ومعصيةكان قصده بيان ما فيها من الفساد ليحذرها العباد كما في نصوص الوعيدوغيرها.
وقد يهجر الرجل عقوبةً وتعزيزًا والمقصود بذلك ردعه وردع أمثاله للرحمة والإحسان لا للتشفي والانتقام, كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الثلاثة الذين خلّفوا في غزوة تبوك".
فعلى الإنسان المسلم أن يفتش في قلبه ويطهّره من جميع آثار الهوى قبل أن يبدأ في تقويم شخص من الأشخاص أو كتاب من الكتب؛لكي يكون متين الرأي منصفًا, بعيدًا عن الجور والظلم المذموم شرعًا، وذلكأن صاحب هذا القلب الطاهر السليم مطمئن البال, هادئ النفس, يحب الخيرللناس, ويبذل النصح لهم, وهذه هي صفات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلمالذين مدحهم الله عز وجل بقوله: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}.
ومثل هذا يُلقى له القبول بين الناس حتى وهو يرد على الأخطاء والانحرافات؛فإنه يصاحبه في ذلك شعور بالشفقة وحب الهداية للغير لا مجرد الرد والخصومةوالجدال كما هو الحال في كثير ممن يتصدى للمخالفين له أو لشيخه؛ حيث إنالأمر يصل به إلى الاعتداء في كلامه لمن يخالفه في الفروع التي يسعهاالخلاف, فضلاً عن الأصول, لا لشيء إلا لأنه خالفه أو خالف شيخه وكفى.
لا تشغل قلبك بما ينالك من الأذى
فبسلامة القلب ـ إخوة الإسلام ـ يتم العدل في جميع الأمور, وصاحب القلب السليم لا يؤذي المسلمين ولو آذوه، ولا ينتقم لنفسه.
وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين أحد عشر مشهدًا فيمايصيب المسلم من أذى الخلق وجنايتهم عليه, نكتفي بمشهد واحد؛ حيث يقول رحمهالله: "المشهد السادس: مشهد السلامة وبردالقلب، وهذا مشهد شريف جدًا لمن عرفه وذاق حلاوته، وهو أن لا يشغل قلبهوسِره بما ناله من الأذى وطلب الوصول إلى درك ثأره وشفاء نفسه، بل يفرّغقلبه من ذلك، ويرى أن سلامته وبرده وخلوّه منه أنفع له وألذ وأطيب، وأعونعلى مصالحه؛ فإن القلب إذا اشتغل بشيء فاته ما هو أهم عنده وخير له منه،فيكون بذلك مغبونًا، والرشيد لا يرضى بذلك ويرى أنه من تصرفات السفيه، فأينسلامة القلب من امتلائه بالغلّ والوساوس وإعمال الفكر في إدراك الانتقام.
ولابن تيمية رحمه الله رسالة كتبها إلى تلامذته بدمشق تبرز فيها هذه الصفة ـ سلامة القلب ـ بجلاء, نذكر مقاطع منها:
يقول رحمه الله في رسالته لتلامذته: "وتعلمون من القواعد العظيمة التي هي من جماع الدين تأليف القلوب, واجتماع الكلمة, وصلاح ذات البين؛ فإن الله تعالى يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا}،ويقول: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}،وأمثال ذلك من النصوص التي تأمر بالجماعة والائتلاف وتنهى عن الفرقةوالاختلاف, وأهل هذا الأصل هم أهل الجماعة، كما أن الخارجين عنه هم أهلالفرقة".
إلى أن قال في الرسالة نفسها: "وأول ماأبدأ به من هذا الأصل ما يتعلق بي, فتعلمون ـ رضي الله عنكم ـ أني لا أحبأن يؤذى أحد من عموم المسلمين ـ فضلاً عن أصحابنا ـ بشيء أصلاً, لا باطنًاولا ظاهرًا، ولا عندي عتب على أحد منهم ولا لوم أصلاً, بل لهم عندي منالكرامة والإجلال والمحبة والتعظيم أضعاف أضعاف ما كان كلٌّ يحسبه, ولايخلو الرجل إما أن يكون مجتهدًا مصيبًا أو مخطئًا أو مذنبًا، فالأول مشكور،والثاني مع أجره على الاجتهاد فمعفو عنه مغفور له، والثالث فالله يغفر لناوله ولسائر المؤمنين، فنطوي بساط الكلام المخالف لهذا الأصل كقول القائل:فلان قصّر، فلان ما عمل، فلان أوذي الشيخ بسببه، فلان كان سبب هذه القضية،فإني لا أسامح من آذاهم من هذا الباب ولا حول ولا قوة إلا بالله، بل مثلهذا يعود على قائله بالملام إلا أن يكون له من حسنة، وممن يغفر الله له إنشاء الله, وقد عفا الله عما سلف".
إلى أن قال رحمه الله في الرسالة نفسها: "فلا أحب أن يُنتصر من أحد بسبب كَذِبِه عليّ، أو ظُلمِه وعدوانه؛ فإني أحبالخير لكل المسلمين، وأريد لكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي, والذين كذبواوظلموا في حلّ من جهتي".
انتهى كلامه رحمه الله، وهو كلام عظيم يستشعر قارئه فيه الصدق وقمة التجرد من الهوى، وقلّ من يكون كذلك..
وقد قال الإمام ابن ناصر الدين الدمشقي: "هيهات هيهات! إن في مجال الكلام في الرجال عقبات، مرتقيها على خطر،ومرتقيها هوىً لا منجى له من الإثم ولا وزر، فلو حاسب نفسَه الرامي أخاه ماالسبب الذي أهاج ذلك؟ لتحقق أنه الهوى الذي صاحبه هالك.
كلام الأقران بعضهم في بعض يطوى ولا يروى
ونظرًا لأهمية هذه القاعدة ـ سلامة القلب والتجرد منالهوى ـ في تقويم الأشخاص والكتب كان من منهج أئمة الحديث في تقويم الرجالأن كلام الأقران بعضهم في بعض يطوى ولا يروى، والأقران هم النظراء فيالمكانة والعلم أو المتنافسون في مجال ما، فهؤلاء الأقران كثيرًا ما يقعبينهم شيء من الاختلاف لأي سبب من الأسباب؛ فيؤدي ذلك إلى وقوع بعضهم ببعضدون عدل أو تأنٍّ، حتى إن الواحد منهم قد يصف صاحبه بأوصاف يعلم يقينًا أنهبريء منها، ولكنّ حبّ الذات والانتصار للنفس يزكي فيه روح الغيرةوالاعتداء.
ومن أجل هذا كان النقاد الجهابذة من المحدثين يهملون هذا الجرح لأنه فيالغالب لا يسلم من التجرد من الهوى ولا يصدر عن سلامة في القلب.
قال الإمام الذهبي: "كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به, لاسيماإذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد... وما ينجو منه إلا من عصمه الله،وما علمت أن عصرًا من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين,ولو شئت لسردت من ذلك كراريس".
فإذا كان هذا كلام الذهبي في زمانه السالف وما قبله فكيف بحالنا اليوم؟!
وقال السبكي: "الصواب عندنا أن من ثبتتإمامته وعدالته وكثر مادحوه ومزكّوه، وندر جارحوه، وكانت هناك قرينة دالةعلى سبب جرحه مِن تعصب مذهبي أو غيره، فإنا لا نلتفت إلى الجرح فيه ونعملفيه بالعدالة، ولو فتحنا هذا الباب وأخذنا تقديم الجرح على إطلاقه لما سلملنا أحد من الأئمة؛ إذ ما من إمام إلا وقد طعن فيه طاعنون وهلك فيه هالكون.
فتأمل أخي المسلم كيف كان منهج سلفنا في تقويم الأشخاص, وكيف أصبحنا اليوم نقع في الأشخاص وننقدهم النقد اللاذع, ليس لأننا رأينا أخطاءهم بالعمل, ولكن اعتمادًا على كلام أقرانهم وقدحمنافسيهم فيهم, مع أن ذلك لا يصلح الاعتماد عليه في النقد والتقويم, بليطوى ولا يروى كما قال الأئمة.
ومن المهم أن ندرك أن صورة ذلك الاختلاف بين الأقران لا تقف عند المحدثينفحسب، بل تتعداه في عصرنا إلى العلماء والدعاة وشتى العاملين في حقل الدعوةالإسلامية.
ولذا كان المنهج القسط أن ينظر إلى الخلفيات التي تكمن وراء الجرح والنقد،ومن ثم يوزن الجرح أو النقد بما يقتضيه الحال مع التحري والإنصاف, حتى لايُتَّهم أحد بما ليس فيه، فليس كل جرح مؤثرًا، وليس كل اتهام مقبولاً.
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: "كل رجل ثبتت عدالته لم يقبل فيه تجريح أحد حتى يتبين ذلك عليه بأمر لا يحتمل غير جرحه".
فتأمل كيف ابتعد الناس اليوم عن معنى هذا الكلام المستقيم؛ حيث أصبحوايفقدون الثقة بعضهم ببعض اعتمادًا على شائعة أو اتباعًا لكلام حاسد.
ومن التجرد من الهوى الفرح بإصابة الغير للحق والحزن على مجانبتهم له،ولعل هذا الأمر من أصعب الأمور؛ لأنه يمثل قمة العدل والتقوى والورع، وممايؤسف ويحزن أننا نرى الكثيرين من دعاة المسلمين اليوم ـ فضلاً عن عامتهم ـإذا رأوا غيرهم قد أخطأ فإنهم يفرحون بذلك, حتى يحسبونه غلبة, بل إنك ترىالكثيرين منهم يتتبع الكتابات والمقالات التي قالها غيرهم, وهمهم الوحيد هوتتبع العثرات والفرح باصطيادها, في الوقت الذي لو وجدوا خلاف ذلك ـ منإصابة غيرهم للحق ـ فإنهم يحزنون لهذه الإصابة، وهذا ـ والعياذ بالله ـ هوالظلم والحقد والحسد والذي لا يلتقي مع الإخلاص والعدل وحب الخير للناس،وما أحسن الحكاية التي ذكرها ابن رجب رحمه الله حول هذا الأمر؛ حيث قال: "وقد استحسن الإمام أحمد ما حكي عن حاتم الأصم أنه قيل له: (أنترجل أعجمي لا تفصح، وما ناظرك أحد إلا قطعته, فبأي شيء تغلب خصمك؟ فقال:بثلاث؛ أفرح إذا أصاب خصمي، وأحزن إذا أخطأ، وأحفظ لساني عنه أن أقول له مايسوؤه. ـ أو معنى هذا ـ فقال أحمد: ما أعقله من رجل).
و الله تعالى أعلم ، و صلى الله و سلم على نبينا محمد و على آله وصحبه أجمعين.
موقع الشبكة الإسلامية