logo

ملاحظات في أداء النصيحة


بتاريخ : الخميس ، 9 محرّم ، 1437 الموافق 22 أكتوبر 2015
بقلم : مدحت القصراوي
ملاحظات في أداء النصيحة

النصيحة من التعبدات العظيمة التي يتقدم بها العبد لربه تعالى، يدور معناها على الإخلاص العميق وتصفية الرأي وتصفية النفس لله تعالى في العبادة، ولكتابه في الاتباع، ولرسوله في التأسي، ولأئمة المسلمين وعامتهم بتصفية الخير لهم من الرأي والمشورة، وما تضمره نفسه لهم، وما ينطوي عليه صدره لهم.

وعلى المسلم أن يقبل النصيحة ممن صدرت منه، ولو رفضها أو أباها نقصت درجته، وقد يأثم في حال رفضها أو عدم الاستجابة لها، وعلى باذل النصيحة أمور نرى أنه قد اتسع فقدانها، ذلك أن هناك المكثرين في بذل النصيحة، لكن هناك المقلون في القيام بها على وجهها، تكمن عدة أمور تمنع من أثرها الصالح والفرح بها من المنصوح.

1- منها أن بذل النصيحة يجب أن يُبتغى بها وجه الله وهداية المنصوح، وتغيّر حاله للأحسن، ورجاء هداية قلبه وصلاح حاله، بينما نرى بعض من يبذل النصيحة يريد بها الارتفاع الشخصي لنفسه، بـ(التعليم) على المنصوح، وإثبات أنه قد أخطأ، وأنه قد نقصت درجته لهذا الخطأ، ويكمن قصد خفيّ بإيلام المنصوح وأذاه والاستعلاء عليه بأنه صار في محل المنصوح! بل وأحيانًا يكمن قدْر من قصد التشفي وشفاء نفسه من الآخر، ولهذا القصد شؤم يفسد النصيحة، ويمنع أثرها الإلهي في القلب.

بينما بذل النصيحة لا يعيب المنصوح؛ بل مما يرفع درجته قبولُ النصيحة ممن بُذلت منه، وقد نصح خير الناس خيرهم! فقال موسى لأخيه هارون {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف:142]، لكن فساد نية الناصح تظهر جليًا في أدائه ونبراته، ويلمسها قلب المنصوح الذي يشعر أنه محاصَر أو وقع فريسة تحت أنياب الناصح، فيأبى النصيحة ويصله الإيجاع لا الهداية، فشؤم فساد النية يفسد العمل وأثرَه، وقد نال الناصح ما أراد من العلو، وأخذه أجره المر عاجلًا بدلًا من أجر الآخرة.

2- ومما يعيب الناصح عدم فقهه ورفقه؛ فلا يقال كل شيء في نفس الوقت، ولا يُسرد للمنصوح كل ما يعيبه، فإنك إن فتشت النفوس لن تنتهي من عيوبها، وقال صلى الله عليه وسلم: «إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم» [صحيح ابن حبان (5760)]، ولما سأل ابن القيم شيخ الإسلام: «هل أبحث عن عيوب النفس وأنقيها منه؟»، فقال له: «لن تنتهي؛ فآفات النفوس كثيرة، ولكن ما بدا لك منها وعاقك فعالجه، وما لم يظهر فلا تفتش عنه»، هذا معنى كلامه رحمه الله.

فمن أرسل مجموعة من النصائح لشخص يشعر بالتتبع، وإذا شعر بالتتبع شعر أنه مقصود بالنقد لا النصيحة، حتى لو كان الناصح مخلصًا فيما يريد، لكنه أخطأ في تقديم حزمة كاملة، لا نصيحة بمفردها، يتلطف في إيصالها وإصلاح نفس أخيه بها، أو داخلت نيته رغبة أخرى.

كما أن النصيحة ثقيلة على النفوس بطبعها {وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:79]، فهذا طبع بشري، خاصة إذا انتقد الإنسان في عيوب دائمة، فإذا أكثر منها دفعة واحدة كانت قذيفة لا نصيحة، وقد تدمي ولا تشفي، وتوجع بدلًا من أن تبرئ صاحبها من عيب، ويعاني من أثر هذه القذيفة بدلًا من أن يفرح بأن أخاه أرشده إلى ما فيه خيره، ويحتاج فترة للنقاهة من الصدمة لا للتأقلم مع النصيحة.

3- ومما يعيب الناصح عدم تفريقه بين ما يملك المنصوح إصلاحه من الأعمال والأقوال والنيات والمقاصد، وبين ما لا يمكن إصلاحه لتلعقه بمواهب الإنسان وما خلق عليه أو جُبل عليه، فلا يقال للمنصوح: هذه إمكاناتك، لا نملك إصلاحها ولا حيلة لنا فيها، فهذا تحصيل حاصل، وهو موجع بلا فائدة، وإنما نفث الناصح عن معنى كان يجب عليه الاحتفاظ به، والمعاملة على أساسه دون التصريح للمنصوح بأنه مجبول على العيب الفلاني، فيؤلم أخاه ولا يفيده، وتأخذ نفسه حظًا تفسد به النية والعبادة، ويحول دون بركة النصيحة أن تؤتي أكلها.

4- ومما يعيب الناصح عدم تفريقه بين ما وُهِب هو وما حُرم غيره، وعدم تفريقه بين ما يجب عليه من شكر نعمة الله عليه وبين عيب من لا يملك هذه النعمة، فإنه إذا تساوى الناس فكيف سيدرِك ما عليه شكره؟ فلا تستطيع أن تحمل الناس على موهبتك أو مستواك؛ لأنهم كذلك لا يستطيعون أن يحملوك على ما أنعم الله تعالى عليهم وأنت لا تملكه، والكلام في ذلك ليس تناصحًا؛ بل هو لغو وتحصيل حاصل، يوجع النفوس ويدفعها للتنافس أو الازدراء على الغير.

5- ومما يعيب الناصح تقديم اليأس من الاستجابة قبل النصيحة، فيأتي ليقيم الحجة على المنصوح لئلا يعتذر، فيقول جئت لأقيم عليك الحجة! هذا قصد مصادم لما أمر الله، ولما كان عليه الأنبياء من رجاء الخير، وانظر إلى ما يقول ربك تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [الفرقان:57]، فاتخاذ الناس سبيلًا إلى الله تعالى أمر مرجو، ولم ينصح رسول الله قومه ليؤكد لهم ضلالهم! بل قال: «بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده» [صحيح مسلم (1795)]، أما قصد الإعذار إلى الله تعالى فهذا بينك وبين الله تعالى، وفي حال لم تجد إجابة وصرفك الناس عنها.

6- ومما يعيب الناصح دخوله النصيحة بقوته ومواهبه وإمكاناته فقط، وهذا نقص خطير.

فإن الدخول بإمكاناتك ومواهبك وعلمك جزء مما أمر الله، فهو التعبد والسبب المطلوب، لكنه غير كافٍ، فالنصيحة بلاغ، أما جعل الهداية في القلوب فهذا إلى الله تعالى، فيجب أن يرفق الناصح مع أداء البلاغ والأخذ بالسبب أن يُرفق معه التوكل على الله في هداية هذا القلب، وإصلاح هذه النفس، وعلاج عيبه وإصلاح خلله ورفعته الى أعلى الدرجات، وأن يثق في الله تعالى، ويفوض إليه ويعتمد عليه في نفوذ النصيحة إلى قلب المنصوح وقبوله لها وصلاحه بها.

كما يجب أن يتوكل على ربه تعالى في إصلاح نفسه هو، وقبول نصيحته عند الله تعالى، وقيامه بها على الوجه الشرعي المقبول عند الله تعالى، وأن يوفَق في أدائه على الوجه المُرضي عند الله تعالى، فبهذا التوكل فتح الصحابة الدنيا بلادًا وقلوبًا، كما قال شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله.

7- ومما يعيب الناصح عدم إدراكه لثقل النصيحة على النفوس، عندما يطلب منها تغيير هواها ومرارة هذا عليهم، فإذا بذل النصيحة وهو فيها مخلص، لكن استثقلتها النفس المتلقية للنصيحة غضب من هذا، ولا حق له في هذا؛ بل يجب أن يكون بصيرًا وصبورًا وفقيهًا ورفيقًا أيضًا في هذا الأمر، فالنفس تحتاج فيما تكرهه وما ترى ذوقه مرًا، تحتاج معه إلى التلطف بإرفاق ما تحبه من ثناء على ما فيها من خير، أو إرفاق شيء تحبه بحسب هذه النفوس.

فكان الأستاذ سيد قطب رحمه الله يقول: «إننا يجب أن ننظر فيما في الناس من خير ونخاطبهم به؛ لنبلغ بهم الارتفاع فيما يغيب عنهم أو ما يكرهون»، ويقول: نحن حينئذ لا نتملقهم أو ننافقهم، فإننا نبحث عن خير حقيقي فيهم، ولو بحثنا فلن نعدم خيرًا؛ فالفِطَر جُبِلت على الخير لا الشر. [راجع أفراح الروح].

ولإيضاح هذه النقطة ننقل ما قاله شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله فيما يجب على العبد، فيما يتولى عليه من أسرة أو أكثر إن كان عالمًا أو مربيًا، أو يملك سلطة ما، ولاية ما، على أي مستوى، يقول رحمه الله: «وإنما الإحسان إليهم فعل ما ينفعهم في الدين والدنيا، ولو كرهه من كرهه؛ لكن ينبغي له أن يرفق بهم فيما يكرهونه، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا كان العنف في شيء إلا شانه)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف).

وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول: (والله، إني لأريد أن أخرج لهم المرة من الحق فأخاف أن ينفروا عنها، فأصبر حتى تجيء الحلوة من الدنيا فأخرجها معها، فإذا نفروا لهذه سكنوا لهذه)، وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه طالب حاجة لم يرده

إلا بها أو بميسور من القول، وسأله مرة بعض أقاربه أن يوليه على الصدقات ويرزقه منها فقال: (إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد)، فمنعهم إياها وعوضهم من الفيء.

وتحاكم إليه علي وزيد وجعفر في ابنة حمزة، فلم يقض بها لواحد منهم، ولكن قضى بها لخالتها، ثم إنه طيب قلب كل واحد منهم بكلمة حسنة، فقال لعلي: «أنت مني وأنا منك»، وقال لجعفر: (أشبهت خَلْقِي وَخُلُقِي)، وقال لزيد: (أنت أخونا ومولانا)، فهكذا ينبغي لولي الأمر في قسمه وحكمه؛ فإن الناس دائمًا يسألون ولي الأمر ما لا يصلح بذله من الولايات والأموال والمنافع، والأجور والشفاعة في الحدود وغير ذلك، فيعوضهم من جهة أخرى إن أمكن، أو يردهم بميسور من القول ما لم يحتج إلى الإغلاظ.

فإن رد السائل يؤلمه، خصوصًا من يحتاج إلى تأليفه، وقد قال الله تعالى: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:10]، وقال الله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء:26]، إلى قوله: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلًا مَّيْسُورًا} [الإسراء:28]، وإذا حكم على شخص فإنه قد يتأذى، فإذا طيب نفسه بما يصلح من القول والعمل كان ذلك تمام السياسة، وهو نظير ما يعطيه الطبيب للمريض؛ من الطب الذي يسوغ الدواء الكريه، وقد قال الله لموسى عليه السلام لما أرسله إلى فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما لما بعثهما إلى اليمن: (يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا)، وبال مرة أعرابي في المسجد فقام أصحابه إليه فقال: (لا تزرموه)؛ أي: لا تقطعوا عليه بوله، ثم أمر بدلو من ماء فصب عليه.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين)، والحديثان في الصحيحين، وهذا يحتاج إليه الرجل في سياسة نفسه وأهل بيته ورعيته؛ فإن النفوس لا تقبل الحق إلا بما تستعين به من حظوظها التي هي محتاجة إليها، فتكون تلك الحظوظ عبادة لله وطاعة له مع النية الصالحة» [مجموع الفتاوى (28/ 364-366)].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: موقع طريق الإسلام