مشكلة التطبيق عند المسلمين والحل المقترح
"نحن إلى قليل من العمل والتطبيق أحوج منا إلى كثير من القول والكلام"، مقولة تلخص مشكلة حال المسلمين هذه الأيام، حيث يكثر الكلام والقول بشكل كبير وعظيم، إلا أن التطبيق والعمل والتنفيذ قليل.
ولعله ليس من المبالغة في شيء القول: إن المسلمين لم يعانوا في تاريخهم من مشكلة كما يعانون اليوم من مشكلة ندرة التزامهم، وتنفيذهم لما يسمعونه من مواعظ في الدروس الكثيرة، المنتشرة على شاشات الفضائيات، أو من خطب الجمعة المتكررة كل أسبوع، أو غير ذلك من المحاضرات والمؤتمرات، التي تركز على الارتقاء بالفرد المسلم، من خلال حثه على تطبيق تعاليم الإسلام ومبادئه وأخلاقه، والذي من خلاله يمكن الوصول إلى الارتقاء بالمجتمع المسلم ككل.
لقد ذكرني موضوع ندرة تطبيق المسلمين لتعاليم الإسلام وفضائله، رغم كثرة المواعظ والتنبيه إليها، بسيرة السلف الصالح المغايرة تمامًا لهذا الواقع الأليم الذي تعيشه الأمة، فقد كان الواحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسارع إلى تطبيق وتنفيذ ما نزل من القرآن الكريم، أو ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة، دون تأجيل أو تسويف، ليستأنف الاستعداد لتوجيه آخر وتطبيق جديد.
فقد جاء في صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: لما نزلت {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92]، جاء أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، يقول الله تبارك وتعالى في كتابه: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، قال: وكانت حديقة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها، ويستظل بها، ويشرب من مائها، فهي إلى الله عز وجل وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، أرجو بره وذخره، فضعها أي رسول الله حيث أراك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بخ يا أبا طلحة! ذلك مال رابح، قبلناه منك ورددناه عليك، فاجعله في الأقربين»، فتصدق به أبو طلحة على ذوي رحمه(1).
إنه حقًا مثال رائع لسرعة الاستجابة والتطبيق، في أمر يثقل على النفس الإنسانية تنفيذه بهذه السرعة عادة، فالإنسان متعلق بماله، حريص عليه، ومحب له، وشحيح في إنفاقه، فكيف إذا كان الأمر لا يتعلق بإنفاق المال فحسب؛ بل بإنفاق أحب أنواع المال إليه، لا شك أن الإنفاق حينئذ يزداد صعوبة.
ولعل من أهم أسباب حالة قلة التطبيق مع كثرة المواعظ ما يلي:
1- ضعف الإيمان، الذي يشكل الدافع الأهم لتنفيذ وتطبيق تعاليم الله وسنن رسوله صلى الله عليه وسلم، ولعل هذا الأمر هو الذي يفسر لنا الفارق الشاسع بين ضعف وندرة تطبيقنا، مقارنة بسرعة استجابة الصحابة الكرام لتطبيق أوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فعن جُنْدُب بن عبد الله قال: «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فِتْيَان حَزَاوِرَةٌ، (2) فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانًا»(3).
وعن حذيفة بن اليمان قال: «ثم إنا قوم أوتينا الإيمان قبل أن نؤتى القرآن، وإنكم قوم أوتيتم القرآن قبل أن تؤتوا الإيمان»(4).
2- أما السبب الثاني فهو وجود الحماسة الزائدة عند البعض لاستكمال جميع الفضائل، والأعمال الحسنة دفعة واحدة، الأمر الذي يثقل على النفس تنفيذه وتطبيقه؛ مما يدفع بعد مدة من الإخفاقات إلى الإحباط وعدم الثقة في القدرة على تنفيذ أو تطبيق أي شيء.
فقد تجد شابًا يريد أن يحفظ القرآن كاملًا خلال أيام، أو يرغب في المداومة على أداء صلاة قيام الليل ساعتين أو ثلاثة في مدة يسيرة، أو أن يحصل العلم الشرعي خلال أسابيع أو أشهر معدودة، وهي غايات وأهداف لا تنال بهذه الحماسة والسرعة، فإذا ما أخفق في تحقيق ما يريد في المدة التي يتمناها، أسقط في يديه، وتوقف عن تنفيذ وتطبيق ما يسمع أو يقرأ أو يشاهد.
والحل في الحقيقة متاح ويسير في الإسلام، وقد نوه إليه القرآن الكريم، وشرحته لنا السيرة النبوية الشريفة، من خلال معالجة السببين السابقين:
1- تقوية الجانب الإيماني في نفس المسلم، من خلال كثرة ذكر الله واليوم الآخر؛ ليكون دافعه إلى تطبيق وتنفيذ أوامر الله ورسوله أقوى وأسرع، فقد تلازم ذكر الإيمان في جميع آيات القرآن بالعمل الصالح، وكان الإيمان سابقًا دائمًا على العمل؛ إذ كيف يمكن للمسلم أن يقوم بالعمل الصالح بدون وجود الدافع والمحرك لذلك، وهو وجود الإيمان القوي في نفسه، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف:30]، وقد وردت أكثر من 50 آية في القرآن الكريم بتلازم الإيمان والعمل الصالح.
كما أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت في نفوس أصحابه محبة الله وخشيته أولًا، من خلال آيات التوحيد، والترغيب بالجنة، والترهيب من النار، فلما ثبت ذلك في قلوبهم سهل عليهم تطبيق أوامر الله ورسوله في الحلال والحرام بعد ذلك، ولهذا ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما قوله: «ثم لقد عشنا برهة من دهرنا وإن أحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فيتعلم حلالها وحرامها، وما ينبغي أن يوقف عنده فيها كما تعلمون أنتم القرآن...، ثم قال: لقد رأيت رجالًا يؤتى أحدهم القرآن، فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته، ما يدري ما أمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يوقف عنده منه...»(5).
2- التدرج في حمل النفس على التزام الطاعات واجتناب المحرمات، وعدم تحميلها ما لا تطيق دفعة واحدة، قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286]، وقال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق:7].
فقد حرم الله تعالى الخمر على المسلمين باستخدام أسلوب التدرج، تعليمًا للمسلمين باتباع هذه الطريقة للوصول إلى الغاية المرجوة في الامتثال للأوامر والنواهي الإلهية، حتى قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: «إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء "لا تشربوا الخمر" لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا، ولو نزل "لا تزنوا" لقالوا: لا ندع الزنا أبدًا، لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وإني لجارية ألعب {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر:46]، وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده»(6).
وفي السيرة النبوية الكثير من الدروس، التي تؤكد اتباع النبي صلى الله عليه وسلم لأسلوب التدرج مع أصحابه في تنفيذ أوامر الإسلام ونواهيه، والنهي عن تحميل النفس ما لا تطيق دفعة واحدة، فقد ورد عن عبد الله بن عمرو قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بلغني أنك تصوم النهار وتقوم الليل، فلا تفعل؛ فإن لجسدك عليك حظًا، ولعينك عليك حظًا، ولزوجك عليك حظًا، صم ثلاثة أيام من كل شهر، فذلك صوم الدهر»، قال قلت: إن بي قوة، قال: «صم صوم داود؛ صم يومًا وأفطر يومًا»، قال فكان ابن عمرو يقول: يا ليتني كنت أخذت بالرخصة(7).
وفي حديث آخر مع عبد الله بن عمرو أيضًا قال: قلت: يا رسول الله، في كم أختم القرآن؟ قال: «اختمه في كل شهر»، قلت: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: «اختمه في خمس عشرة»، قلت: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: «اختمه في عشر»، قلت: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: «اختمه في خمس»، قال: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: فما رخص لي(8).
وفي موقف ثالث أكد النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أن أحب الأعمال إلى الله الدائم، ولو كان قليلًا، ونهاهم عن الحماسة التي قد تفضي إلى السآمة والملل، وعدم التنفيذ والتطبيق فيما بعد، فقد ورد عن عائشة أنها قالت: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصير، وكان يُحَجِّرُهُ من الليل فيصلي فيه، فجعل الناس يصلون بصلاته، ويبسطه بالنهار، فثابوا ذات ليلة، فقال: «يا أيها الناس، عليكم من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دُووِمَ عليه، وإن قل»(9).
إنه الأسلوب التراكمي، الذي يحث الإسلامُ على اتباعه في سبيل الوصول إلى التطبيق والتنفيذ المرغوب لتعاليمه؛ حيث يبدأ التنفيذ بسيطًا وقليلًا، لكنه مع المداومة والاستمرار ومرور الزمن يغدو عظيمًا وكثيرًا.
ــــــــــ
(1) صحيح البخاري (2758).
(2) من قارب البلوغ.
(3) رواه ابن ماجه (61)، والطبراني في المعجم الكبير (1678)، وهو حديث صحيح.
(4) رواه البيهقي في سننه الكبرى (5074).
(5) الحاكم في المستدرك (101)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين.
(6) صحيح البخاري (4876).
(7) مسند الإمام أحمد (6832)، وعلق الشيخ الأرنئوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
(8) سنن النسائي الكبرى (8065).
(9) صحيح مسلم (782).
http://www.almoslim.net/node/200050