logo

كيف تكون خطبتك مؤثرة؟


بتاريخ : الخميس ، 26 ربيع الأول ، 1439 الموافق 14 ديسمبر 2017
بقلم : الشيخ د. محمد بن عبد الله الخضيري
كيف تكون خطبتك مؤثرة؟

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله ومن والاه إلى يوم الدين؛ أما بعد:

فمضمون الخطبة هو الجانب الأهم في الخطبة، وهو الذي عليه مدار إصلاح القلوب والأعمال، والأخلاق والسلوك، تثبيتًا للصواب، وتكثيرًا له، وتحذيرًا من الخطأ وتقليلًا له، وهناك عدة معالم وأسس تنطلق منها الخطبة الهادفة وترتكز عليها:

الأولى: تقرير الأصول والأركان؛ حيث يكون للخطيب عناية خاصة بتقرير مسائل الإيمان والعقيدة، ولا يأنف من ذكرها والتأكيد عليها بين الفينة والأخرى، ولا يستبد به الولع بالمستجدات أيًا كانت، وتطغى عليه هذه النزعة، فيهمل تلك الجوانب العظيمة، ولربما تركها أو تساهل فيها بعض الخطباء؛ اعتمادًا على سبق معرفة المستمعين لها أو دراسته إياها، وهذا على فرض ثبوته، فإن لغة الخطيب تختلف عن لغة التعليم والدراسة، فهمًا وتأثرًا وتطبيقًا، إضافةً إلى أن في المستمعين ربما من لم يتعلم في التعليم النظامي، أو ليست هذه المسائل من ضمن فقرات المنهج، ولهذا كانت خطب النبي صلى الله عليه وسلم مشتملة على هذه القضايا الأساسية.

يقول ابن القيم رحمه الله، كما في زاد المعاد: «كانت خطبه صلى الله عليه وسلم إنما هي تقرير لأصول الإيمان، من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه، وذكر الجنة والنار، وما أعده لأوليائه وأهل طاعته، وما أعد لأعدائه وأهل معصيته، فيملأ القلوب من خطبته إيمانًا وتوحيدًا...»، ويقول أيضًا: «ومن تأمل خطب النبي صلى الله عليه وسلم وخطب أصحابه وجدها كفيلةً ببيان الهدى والتوحيد، وذكر صفات الرب جل جلاله، وأصول الإيمان الكلية، والدعوة إلى الله، وذكر آلائه التي تحببه إلى خلقه، وأيامه التي تخوفهم من بأسه، والأمر بذكره وشكره، الذي يحببهم إليه، فيذكرون من عظمة الله وصفاته وأسمائه ما يحببه إلى خلقه، ويأمرون من طاعته وشكره وذكره ما يحببهم إليه، فينصرف السامعون وقد أحبوه وأحبهم»(1).

القضية الثانية: التنويع، فالخطبة الناجحة النافعة هي التي ينوع الخطيب في موضوعاتها، كل خطبة بما يناسب مقامها، وظروفها الزمانية والمكانية، بحيث لا يكرر ولا يعيد؛ بل يرسم لنفسه خطًا بيانيًا علميًا، يحاول أن يأتي عليه جميعًا في فترة معينة يحددها؛ بحيث إن المستمع، الذي لا يكاد يفارق هذا الخطيب؛ يطمئن إلى أنه استوعب واستمع إلى جميع ما يحتاجه في أمور دينه، ولم يفته منه شيء.

وقد يعيد الخطيب بعض الموضوعات التي تتأكد الحاجة إليها، ولكن بأسلوب مغاير وعرض مختلف، وتهيئة الخطيب نفسه على تنويع الموضوعات، حسب ما تقتضيه المناسبات أو الظروف والأزمات، يقضي على الرتابة عنده والتكرار الذي ربما لا يحس به، كمن يأسره مثلًا موضوع معين، أو أكثر، أو تخصص معين؛ فتجده لا ينفك عن طرحه إلا قليلًا، وكان سيد الخطباء صلى الله عليه وسلم يراعي مقتضى الحال في خطبه، ويذكر عنه ابن القيم رحمه الله: «وكان صلى الله عليه وسلم يخطب في كل وقت بما تقتضيه حاجة المخاطبين ومصلحتهم».

ومن هنا فإن على الخطيب أن يتناول في خطبته القضايا الإيمانية والعبادية والأخلاق والسلوكيات.

القضية الثالثة: العلمية: فالخطبة الناجحة المؤثرة هي التي يعتمد فيها الخطيب على التأصيل العلمي؛ لأنه يتحدث من منبر شرعي، يحضره الناس لتلقي الطرح الشرعي المؤصل، وليس المنبر موقعًا خاصًا أو ديوانية أو وسيلة إعلامية تنسب للشخص ذاته، فعلى الخطيب أن يتقي الله فيما يطرح، فلا يخوض في القضايا بغير تأصيل وعلم وسبق تحر وبحث، وألا يكون طرحه للقضايا المهمة مبنيًا على وجهة نظر شخصية، عارية عن التنقيح أو التحقيق، ومهما كان للخطيب فصاحة وبلاغة وثقافة فلا يغنيه ذلك عن التأصيل العلمي، والرجوع إلى المحكمات دون المشتبهات، وإلى اليقينيات دون الظنيات، وإلى ما تَثَبَّت منه دون ما ظنه أو اشتبه عليه، يقول أحد السلف: «من أُعجِب برأيه ضل، ومن استغنى بعقله زل».

وقد أعجبني كلامٌ للشيخ الطنطاوي يرحمه الله، وهو يتحدث عن عيوب الخطبة في زمانه فيقول: «ومن أعظم عيوب الخطبة، في أيامنا، أن الخطيب ينسى أنه يقوم مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتكلم بلسان الشرع، وأن عليه أن يبين حكم الله فقط لا آراءه هو، وخطرات ذهنه»، إلى أن يقول: «ومن الخطباء من يأتي بأحكام غير محققة ولا مسَلَّمة عند أهل العلم، يفتي بها على المنبر، ويأمر الناس بها، ولو اقتصر على المسائل المتفق عليها فأمر بها العامة، وترك الخلافية لمجالس العلماء لكان أحسن».

القضية الرابعة: الاستدلالية: فالخطبة المؤثرة هي التي يزينها الخطيب بكثرة الأدلة، من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية؛ ليربط السامعين بمصادر التلقي الشرعية أولًا، وليثبت القضية المطروحة ثانيًا، ويحسن أن يكون الاستدلال بعد عرض المسألة وطرحها؛ لتتهيأ النفوس لسماع ما يثبت ذلك؛ فإذا سمعته بعد ذلك وعته وعقلته، وأحسنت ربط القضية بدليلها.

قال عمران بن حطان: «خطبت عند زياد خطبة ظننت أني لم أقصر فيها عن غاية، ولم أدع لطاعة علة، فمررت ببعض المجالس فسمعت شيخًا يقول: هذا الفتى أخطب العرب لو كان في خطبته شيء من القرآن»(2).

وفي قضية الاستدلال يجب على الخطيب أن يتحرى الأحاديث التي يلقيها في خطبته، فيتقي الله أن يأتي بأحاديث موضوعة أو منكرة أو ضعيفة، أو يتبع فيها غيره ممن يتساهل، من مؤلفي دواوين الخطب القديمة أو الحديثة ورسائل التخريج.

وتمييز الصحيح من غيره أصبح ميسرًا جدًا، بحمد لله، عن طريق البحث الموضوعي في أبواب كتب السنة عن طريق فهارسها، والحاسب الآلي والشبكة العنكبوتية سهَّلت ذلك أكثر وأكثر، فلا عذر في التقاعس والتقصير في التخريج أو في الحكم على الحديث.

خامسًا: الوعظية: ولا بد من اشتمال الخطبة الناجحة على عنصر الوعظ، كما كان هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، وليس الوعظ قسيمًا للعلم، أو مقابلًا له، كما قد يتصور الكثيرون ممن يقصرون معنى الوعظ على الجانب التخويفي أو الترغيب فقط، وهذا فهم قاصر؛ إذ الوعظ في اصطلاح القرآن أعم من مجرد الترغيب والترهيب؛ ولهذا جاء وصف القرآن كله بأنه موعظة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57].

وفي الأحكام قال تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:2].

ومن هنا يتضح أن الموعظة وعاء ومَرْكَب وقالب لجميع الموضوعات الإيمانية أو العبادية أو الأخلاقية أو الاجتماعية، فلا تكون الخطبة مجرد عرض بارد أو تقرير هادئ، أو أخبار مسرودة، وإنما لا بد أن تساق بسياق وعظي بالندب للفعل إن كان الموضوع علميًا، والتحذير منه إن كان يتعلق بمحرم ومعصية، والتحفيز على ما وراء الخبر إن كان الموضوع خبرًا أو قصصًا قرآنيًا، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمر وجهه، وعلا صوته، حتى كأنه منذر حرب، يقول: صبحكم ومساكم، وهكذا مفهوم اللغة الوعظية في الخطبة، لا يتصور أن يفضَّل عليها أي مضمون.

سادسًا: الاستباقية: لا بد، لكي تكون الخطبة ناجحةً ومؤثرةً، أن نناقش، إضافة إلى القضايا الحاضرة الراهنة، وما يحتاج إليه المسلمون في كافة أمورهم ومسائلهم، أن نناقش أيضًا القضايا التي يتوقع وقوعها وحدوثها، أو الأحداث والفتن التي يخشى وقوعها؛ وذلك توضيحًا لأحكامها إن كانت مناسبات ومواسم، أو تحذيرًا من أسبابها إن كانت مصائب وفتنًا ومنكرات.

وهاهنا قاعدة شرعية تقول: (الدفع أولى من الرفع)؛ لأن مدافعة الشيء قبل وقوعه تكون من حيث السهولة وقلة مفسدته.

يقول الغزالي رحمه الله: «إذا حدثت البدع الصارفة عن مقتضى القرآن والسنة فلفقت لها شبه، وثبت لها كلام مؤلف، صار ذلك المحظور بحكم الضرورة مأذونًا فيه»(3) وإذا تأملنا بعض خطب النبي صلى الله عليه وسلم وجدناها على هذا النسق في مثل قوله: «ويل للعرب من شر قد اقترب»(4)، وقوله: «أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر»(5)، وقوله: «والله، ما الفقر أخشى عليكم، إنما أخشى أن تُفتح عليكم الدنيا؛ فتنافسوها كما تنافسوها؛ فتهلككم كما أهلكتهم»(6)، وقوله: «إن بين يدي الساعة سنوات خداعات، يُصدَّق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق»(7).

______________

(1) الزاد (1/ 423).

(2) البيان والتبيين (1/ 77).

(3) إحياء علوم الدين (1/ 22).

(4) رواه البخاري (3168).

(5) رواه أحمد في مسنده (23680).

(6) رواه البخاري (2988).

(7) رواه أحمد (7899)، وابن ماجه (4036).

 

موقع: ملتقى الخطباء