لماذا لا ننتصر؟!
أحمدك ربي حمدًا يليق بجلال وجهك وعظيم سلطانك، وأصلي وأسلم على الهادي البشير، والسراج المنير المبعوث رحمة للعالمين.
صلى عليك الله ما جن الدجى وما جرت في فلك شمس الضحى
ورضوان الله على الصحابة الأخيار، والهداة الأبرار، الذين جاهدوا مع رسول الله حق جهاده، فما وهنوا لما أصابوهم في سبيل الله وما ضعفوا، وما استكانوا والله يجب الصابرين.
اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، وبعد،
فإن من سنن الله الجارية، أنه إذا عصى الناس أمره، واستباحوا محارمه، وبغوا وظلموا، وابتعدوا عن صراطه المستقيم، ومنهجه القويم، أن يجازيهم بسوء أعمالهم، وينتقم من كل جبار عنيد، {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر: 43].
ومن سنن الله أنه لا يغير نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، من الانحراف عن المنهج، وسلوك الطريق الخاطئ، وتضييع الأمانة.
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 53].
إلى الله نشكو:
في هذه الأيام تجد الناس في مجالسهم يخوضوا ويتحدثوا عن حال الأمة الإسلامية المنكوبة، ومآسيها، ونكباتها، وما أُصيبت به من الهوان والذل خاصة بعد أن رأوا وسمعوا في وسائل الإعلام المتعددة، صورًا لمآسي المسلمين تفت الفؤاد، وتجرح الخاطر، وتقلق القلب، وتهز البدن.
إنها صور ليست في قطر واحد من أقطار المسلمين؛ بل هي صور تتعدد وتتكرر كرات ومرات، ففي فلسطين وأفغانستان؛ صور ومآسي، وفي العراق والشيشان؛ صور ومآسي، وفي الفلبين وكشمير وبورما والسودان والصومال وأندونيسيا مجازر وجزائر.
في كل جزء من بلادي قصة تروي ضياع كرامة الإنسان؛ فصورة لرجل كبير السن في فلسطين وقد خط الشيب لحيته فلا تراها إلا بيضاء وهو يرفع يديه يناجي رب الأرض والسماء بأن يهلك الأعداء ويصب عليهم القوارع والفواجع، وأن يدمرهم تدميرًا.
وصورة لطفلة صغيرة في أفغانستان تبكي وتشهق من البكاء بحثًا عن والديها اللذين كانا تحت أنقاض البيت الذي هدم عليهما ففاضت روحهما وهما تحت الأنقاض، والطفلة المسكينة تصيح وتصرخ بحثًا عن والديها! وصورة ثالثة لطفل صغير قد أمسك خمسة من اليهود به فأحدهم يكاد أن يخنقه، وأحدهم قد شد شعره بكل ما أوتي من قوة وعنجهية، وآخر يركله بقدمه يريد أن يمشي على قدمه بكل سرعة، فهذا الطفل مجرم وإرهابي! والطفل يبكي ويصيح ولكن أين المغيث؟!
وصورة أخرى لأم تريد أن تدافع عن ابنها، وفلذة كبدها، بعد أن أمسك اليهود بتلابيب ثيابه، وهي تترجاهم بأن يفلتوه ويطلقوا سراحه، فما كان من أحد هؤلاء القردة إلا أن فقد صوابه وطار لبه فأمسك بهذه المسكينة بيديه الغليظتين ودفعها على الأرض بقوة فسقطت وهوت على رأسها ثم أطلق عليها عيارًا ناريًا من سلاحه فجندلها بالدم ثم قهقه ضاحكًا بسخرية قائلًا لها بكل خبث "ابنك لن تراه عينك".
وصورة أخيرة لرجل شاب قد بلغ الثلاثين من عمره في إندونيسيا قد أسره أعداء الله النصارى فربطوه يديه مع رجليه، وشدوا الحبال الموثوقة على جسمه، ثم أهووا به إلى الأرض لتبدأ المجزرة حيث أنهم جاءوا بالدبابة تمشي رويدًا والشاب يصرخ ثم أمَّرُوا الدبابة على جسده الموثوق ببطء لكي يموت ألف مرة إلى أن وصلت الدبابة لرأسه فلم يبق له رسمًا ولا أثرًا، فقد اختلطت دماؤه بعروقه بلحمه فأصبح كتلة لحم، بل لا أثر له، إنه جسم أصبح لا يرى بعد أن هشمته جنازير الدبابة التي لا ترحم.
لا أريد أخي القارئ أن أستطرد فكأني بك قد استبشعت تلك الصور، ووقف الدم في جسمك، ولم تطق أن تسمع الباقي.
وبعد أن يرى القوم في مجالسهم مثل هذه الصور المبكية، فلن تسمع إلا أنين الزفرات، ولن تبصر إلا سكب العبرات وكثرة التأوهات.
حقًا إنها تبعث القشعريرة في الجسد، فالعين تفيض دمعًا، والقلب يشكو لوعة وهمًا، واللسان يتحوقل ويسترجع، بل تخنقه العبرة فيخرس عن الكلام ألمًا وغمًا.
أين الخلل؟
لا شك أننا في زمن كثرت فيه النكبات، وحلت به المصائب، والمدلهمات وانتشرت فيه المعاصي والموبقات، وكثرت الأمراض والآفات.
تلك قضية لا يناقش فيها إلا جاهل بواقع أمته، أو رجل مكابر!
إنه سيقرع سمعنا في مثل المجلس الذي ذكرته آنفًا أنه ما حل البلاء علينا إلا لتخاذل الحكام، وضعف الشعوب، وتقاعس العلماء.
وإني أقر وأجزم أن هذا الذي قيل هو جزء، بل سبب من الأسباب الهامة التي جعلت الأمة الإسلامية أمة ضعيفة ووصمت بهذا المثل.
ولكن هل هذا هو السبب الرئيس الذي جعلنا مهانين في الأرض وأصبحت أمتنا توصف بأنها أمة المصائب، أم أن هناك شيئًا آخر قد ضيعناه ونسيناه؟
هل سألنا أنفسنا أين يكمن الخلل، ومن أين انتشرت هذه الأزمات؟
- ثمت أمور يجب علينا أن نسألها أنفسنا ونجيب عنها بصدق وواقعية، لماذا تراجع المسلمون وهزموا، وتقدم غيرهم وانتصروا؟
لماذا تفكك المسلمون وانقسموا شيعًا كل حزب بما لديهم فرحون، وأعداء الله يرصون الصفوف، ويجمعون الجموع؟
لماذا حورب الإسلام وأهل السنة والجماعة، وفتح الباب على مصراعيه لأهل العلمنة والشر والفتنة وغيرهم؟
هل من الصحيح إذا سمعنا مثل تلك المآسي آنفة الذكر أن نصرخ قائلين:
وا مصيبتاه؟ أو يرفع أحدنا صوته قائلًا:
قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر وبيد شعب كامل مسألة فيها نظر
إنني لا أحقر من تلك الصرخات، ولكن هل هي الطريق الصحيح لتصحيح المسار، ومعالجة الأخطاء، والرد على الكفار أعداء الله؟
لا شكَّ أن الوقاية خير من العلاج، والسلامة لا يعدلها شيء، لكنَّ من المهم أن يعلم أنه ليست المشكلة بأن تجد المرض يدب في جسم إنسان، فإن الجسم معرض للآفات والأمراض، ولكن المشكلة، أن تجد ذلك المرض يدب في جسم الإنسان ويفتك بأعضائه، وينتهب منها السلامة، ومع ذلك فإنَّ الإنسان لا يشعر بذلك المرض، وإن شعر لا يقاومه، بل يندب حظه، ويرثي حاله، ويزعج الناس بأناته، ويوقظ أهله بآهاته، وزفراته.
مثلًا لمثل هذا حال كثير من المسلمين، فهم في الحقيقة لم يكتشفوا المرض الداخلي في أمتهم ولم يعالجوه، ومع ذلك فما تراهم إلا وهم يندبون تلك المصائب، ويبكون هاتيك الفواجع.
دع النياحة وابدأ بالعمل:
إذا علمَ ذلك وأن الداء منا فلا بد أن نبحث عن الدواء، ورسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه أخبرنا أنه «ما أنزل الله داء وإلا وأنزل له دواء» (أخرجه البخاري)، وزاد ابن ماجة بسند صحيح: «علمه من علمه وجهله من جهله» ومن الجدير بنا أن نعقل هذه المصائب، ونحاول أن نعالجها.
وقد يتبادر إلى أذهاننا سؤال: هل ظلمنا الله عز وجل عند ما أنزل علينا المصائب؟
والجواب؛ لا، وحاشا ربنا، فإن الله عز وجل كما قال عن نفسه {إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: 44]، وقال تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46].
وأخبر سبحانه أنه حرَّم الظلم على نفسه، فقال: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا» (أخرجه مسلم).
وقال تعالى: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 108]، وقال تعالى: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر: 31].
إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث، فيقيننا بالله أنه صاحب العدل المطلق والبعيد كل البعد عن الظلم والجور.
ولكن الله عز وجل أنزل علينا قرآنًا يتلى إلى يوم القيامة وقد بيَّن فيه أنه ما من مصيبة تحل بالمسلمين إلا بسبب معاصيهم وذنوبهم وتضييعهم حرمات ربهم وأوامره ونواهيه، فقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، وقال تعالى: {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ} [لأنفال: 54].
وقال تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79].
فهذا أول العلاج الذي يجب علينا أن نعرفه حتى نعالج به واقعنا كي نعلم أنه ما من مصيبة وقعت علينا وحلت بديارنا إلا بسبب أنفسنا وذنوبنا وتقصيرنا في حق الله، ومستحيل أن ننتصر ونحن قد ضيعنا الله ونسيناه ولا غرابة بعدها أن ينسانا ربنا {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر: 19]، {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ}
[التوبة: 67]
إن سنن الله لا تتغير ولا تتبدل فالله عز وجل وعدنا بالنصر وأن يهزم عدونا ولكن إن نصرناه وجاهدنا لإعلاء كلمته، وربينا أنفسنا على طاعته، والفرار من معصيته، قال تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، وأخبر تعالى أنه لن ينصر إلا أهل الطاعة والإيمان لا أهل الفجور والخذلان فقال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].
وبين لنا سبحانه أنه إن تولينا عن نصرة دينه ورفع رايته، فإنه يستبدل قومًا يقومون بحق الله وبنصرة دينه {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}
[محمد: 38].
قال صاحب الظلال رحمه الله: لقد كتب الله عز وجل على نفسه النصر لأوليائه حملة رايته وأصحاب عقيدته، ولكن علق هذا النصر بكمال حقيقة الإيمان في قلوبهم، وباستيفاء مقتضيات الإيمان في تنظيمهم، وسلوكهم، وباستكمال العدة التي في طاقتهم، وبذل الجهد الذي في وسعهم، فهذه سنة الله، وسنة الله لا تحابي أحدًا، فأما حين يقصرون في أحد هذه الأمور، فإن عليهم أن يتقبلوا نتيجة التقصير، فإن كونهم مسلمين لا يقتضي خرق السنن، وإبطال النواميس، فإنما هم مسلمون، لأنهم يطابقون حياتهم كلها على السنن ويصطلحون بفطرتهم كلها مع الناموس .
ولكن كونهم مسلمين لا يذهب هدرًا كذلك، ولا يضيع هباءً فإن استسلامهم لله وحملهم الراية وعزمهم على طاعته، والتزام منهجه، من شأنه أن يرد أخطاءهم وتقصيرهم خيرًا وبركة في النهاية، بعد استيفاء ما يترتب عليها من التضحية والألم والقرح، وأن يجعل من الأخطاء ونتائجها دروسًا وتجارب تزيد من نقاء العقيدة، وتمحيص القلوب، وتطهير الصفوف، وتؤهل للنصر الموعود، تنتهي بالخير والبركة، ولا تطرد المسلمين من كنف الله ورعايته، بل تمدهم بزاد الطريق، مهما يمسهم من القرح والألم والضيق أثناء الطريق.
وبهذا الوضوح والصراحة معًا يأخذ الله الجماعة المسلمة، وهو يرد على تساؤلها ودهشتها مما وقع، ويكشف عن السبب القريب من أفعالها: {أوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165].
فأنفسكم هي التي أخلت بشرط الله وشرط رسوله صلى الله عليه وسلم وأنفسكم هي التي خالجها الهواجس والأطماع، وأنفسكم هي التي عصت أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ} [آل عمران: 152].
فهذا الذي تستنكرون أن يقع لكم وتقولون: كيف هذا؟ هو من عند أنفسكم بانطباق سنن الله عز وجل حين عرضتم أنفسكم لها (في ظلال القرآن).
ولهذا ورد في الأثر عن العباس بن عبد المطلب: ما نزل البلاء إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة، فلنندب ذنوبنا قبل أن نندب مآسينا ولنحارب أنفسنا الأمارة بالسوء وننهاها عن المنكر عندئذ سيحصل النصر وينجلي الغبار والله لا يخلف وعده {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].
أي أُخي: تأمل وانظر إلى بلاد المسلمين:
كم يوجد فيها من ضريح يعبد من دون الله ويطاف عليه ويستغاث بصاحبه؟
كم هم الذين لا يحكمون بما أنزل الله؛ بل يتحاكمون إلى الطاغوت؟
كم من بدعة تقام في ديار المسلمين صباح مساء؟
كم من فاحشة تنتهك في ظلام الليل الدامس، وفي الصباح المتفتح الزاهر؟
كم من إنسان يبخس الكيل والميزان ولا يصدق في المعاملة مع ربه ومع الناس؟
كم من صَرْحٍ لبنوك الربا التي جاهرت الله بالمحاربة والمعصية؟
كم هم الناس المعرضون عن دين الله وحكمه وأقبلوا على الملاهي والخمور والأغاني والمسلسلات؟
كم هم الناس الذين لا يصلون ويدعون بأنهم مسلمون؟
انظر للشوارع والأسواق فلا ترى– ويا للأسف- إلا تخنث للرجال، وترجل النساء، والغيبة، والكذب، والنميمة، والغش، والظلم، وخفر العهود، وإخلاف المواعيد، وأكل حقوق الناس، والعصبية القبلية والعرقية المنتنة، والزنا، واللواط، والنفاق، وسوء الأخلاق، إلا قليلًا ممن رحم ربك ـ
ثم مع هذا كله نريد نصر الله، وأن يهزم عدونا ويكف شره ويكبت أمره!! عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال كنت عاشر عشرة من المهاجرين، عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل علينا بوجهه، وقال: «يا معشر المهاجرين، خمس خصال إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوها إلا ابتلاهم الله بالسنين، وشدة المؤنة، وجور السلطان، ولا منع قوم الزكاة إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولا خفر قوم العهد إلا سلط الله عليهم العدو فأخذ بعض ما في أيديهم، وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله عز وجل في كتابه إلا جعل بأسهم بينهم» (أخرجه البيهقي والحاكم بسند صحيح).
جزاءً بجزاءِ، ومثلًا بمثل، إذا نحن عصينا الله وخالفنا أمره سلط علينا الأعداء والوباء، والضراء {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].
إن الله عز وجل لما ذكر الأمم الكافرة التي عصت رسله، وخالفت أمره قال عنهم بعد ذلك: {فكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40].
فنفسك لم ولا تلم المطايا:
أخي القاري الكريم: قد ورد في الأثر: «إذا عصاني من لا يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني»، وقد قال نبي من أنبياء بني إسرائيل لما رأى ما يفعل بختنصر بقومه: بما كسبت أيدينا سلطت علينا من لا يعرفنا ولا يرحمنا.
وورد في المسند (2/ 362) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسند صحيح: «حد يقام في الأرض خير من المطر لأهلها أربعين صباحًا».
وقد علق الإمام ابن تيمية على هذا الحديث بقوله: وهذا لأن المعاصي سبب لنقص الرزق والخوف من العدو، كما يدل عليه الكتاب والسنة، فإذا أقيمت الحدود وظهرت طاعة الله، ونقصت معصية الله حصل الرزق والنصر.
وعليه فالنحيب على بلاد للمسلمين ضاعت دون عمل وتوبة صادقة، لا تحقق نصرًا ولا تعيد أثرًا.
وقد قيل في المثل (إيقاد شعلة خير من لعن الظلام) فلنبدأ في التغيير والعمل ولنترك لوم الزمان والدهر، فهو فعل الفاشلين العاجزين لا فعل الطموحين الناجحين، وقد قال الشاعر الإسلامي عدنان النحوي– في أبيات له جميلة قائلًا:
ما لي ألوم زماني كلما نزلت *** بي المصائب أو أرميه بالتهم
أو أدعى أبدًا أني البريء وما *** حملت في النفس إلا سقطة اللمم
أنا الملوم فعهد الله أحمله *** وليس يحمله غيري من الأمم
فإذا أردنا أن نغير فلنغير من حالنا ومن فساد قلوبنا وأنفسنا يغير الله حالنا، ويرفع ما بنا من مصائب أرقتنا أو بلايا أقلقتنا، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد: 11].
وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 53].
ومن أول الأمور التي نغير بها حال أنفسنا التوبة النصوح، فهي وظيفة العمر، وطريق الفلاح، والتي تفتح كل عمل خير وبر وصلاح.
ومن ثمَّ الأعمال الصالحة، التي تقرب من رضوان الله عز وجل وجنته، وتبعد عن سخطه وأليم عقابه، ورحم الله أبا الدرداء حيث كان يقول للغزاة: يا أيها الناس، عمل الصالح قبل الغزو، فإنما تقاتلون بأعمالكم، ولله در الفضيل بن عياض حين قال للمجاهدين عندما أرادوا الخروج لقتال عدوهم: عليكم بالتوبة، فإنها ترد عنكم ما ترده السيوف.
فابذل الجهد واستحث المطايا *** إن صنع النجاح ليس مزاجًا
ليس من يعمر البلاد بزيف *** مثل من يعمر البلاد نجاحًا
أي أخي: هذا هو الطريق الذي أراه يصلح حالنا ويسمو بكرامتنا، ويعيد عزتنا، ويرفع شأننا.
وإن التوبة والعمل الصالح ومحاسبة النفس ومراجعة الذات، وإعداد هذه النفس إعدادًا إيمانيًا وبدنيًا، والارتباط بالله والتعلق به، كل هذا مفتاح للطريق الذي يعيد لنا المجد بنصاعته.
ومن المتوجب علينا معرفته أن إقامة النصر في الأرض، وإعادة الخلافة الراشدة، لا يقدم ذلك لنا مباشرة على طبق من ذهب بل لا بد من الكلل والتعب، والوصب والنصَّب، حتى يأتينا نصر الله بعد أن علم منا الصدق في القلوب، والصلاح في الأعمال، والله لا يضيع أجر من أحسن عملًا.
عقد مقارنة:
من المعلوم قطعًا أن الكفار أعداء الله، ضيعوا أسباب نصرة الله المعنوية لهم من الإيمان بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم، ولكنهم أبدعوا في صناعة الصواريخ والمتفجرات وأسباب النصرة المادية.
ونحن نعلم كذلك كما قدمت سابقًا أن المسلمين- ويا للأسف- قد نسوا الله فأنساهم أنفسهم وزاغوا عن الصراط المستقيم- إلا قليلًا- وابتعدوا عن طاعة الله والقرب منه وعن أسباب النصرة المعنوية التي تكفل الله لمن فعلها من المسلمين بالنصرة والتأييد ولو كانت قوتهم العسكرية وأسبابهم المادية أضعف من الكفار.
وكذلك فإن المسلمين ضيعوا أسباب نصرتهم المادية، فأين هي القنابل الذرية والمتفجرات النووية، وأين الأسلحة والعتاد والقوة والرجال، فلم نسمع لها صفيرًا ولا همسًا، بل علاها الغبار ولم تستخدم في قتال أعداء الله.
ولهذا فإن منطق العقل السليم أن يحكم بالانتصار لمن كانت عنده القوة والأسباب المادية؛ ولو كان مضيعًا للأسباب المعنوية على الذي ضيع أسبابه المادية والمعنوية التي تحق النصر والتأييد؛ ولذلك انتصر الكفار أعداء الله على المسلمين الذين ضيعوا أوامر الله فنساهم سبحانه وضيعهم، وقد روت لنا كتب التاريخ أنه في أعقاب معركة اليرموك الشهيرة، وقف ملك الروم يسائل فلول جيشه المهزوم، والمرارة تعتصر في قلبه، والغيظ يملأ صدره، والكآبة بادية على محياه: ويلكم، أخبروني عن هؤلاء الذين يقاتلونكم، أليسوا بشرًا مثلكم؟! قالوا: بلى أيها الملك، قال: فأنتم أكثر أم هم؟! قالوا: نحن أكثر منهم في كل موطن، قال: فما بالكم إذا تنهزمون؟!
فأجابه شيخ من عظمائهم: إنهم يهزموننا لأنهم يقومون الليل ويصومون النهار، ويوفون بالعهد، ويتناصفون بينهم (البداية والنهاية (7/ 15).
تلك هي صفات المسلمين؛ ولذلك نصرهم الله، ولاحت أمام أعينهم أقواس العزة والرفعة في سماء المجد.
فقم بالله أخي لنصرة دينك وأصلح ذاتك، فصلاح الذات قبل صلاح الذوات، ومن قاد نفسه قادم العالم، وردِّد:
قم نعد عدل الهداة الراشدين *** قم نصل مجد الأباة الفاتحين
قم نفك القيد قد آن الأوان *** شقي الناس بدنيا دون دين
فلنعدها رحمة للعالمين *** لا تقل كيف؟ فإنا مسلمون
يا أخا الإسلام في كل مكان *** اصعد الربوة واهتف بالآذان
وارفع المصحف دستور الزمان *** واملأ الآفاق إنا مسلمون
مسلمون مسلمون مسلمون *** حيث كان الحق والعدل نكون
نرتضي الموت ونأبى أن نهون *** في سبيل الله ما أحلى المنون
هذا هو الدواء لمن وقع في فخ الداء:
والذي أراه يحقق لنا النصر ويعز به هذا الدين بعد التوبة إلى الله أمور ثمانية وهي:
1- الاعتصام بكتاب الله تعالى وقراءته وتدبره والعمل بما فيه، والاعتصام بسنة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن نقدم كلامهما على كلام أي إنسان، ونبتعد عن كل هوى خالف القرآن والسنة.
2- الاهتمام والالتفاف على عقيدة أهل السنة والجماعة، وتطبيقها في أرض الواقع، واحذر أخي ممن يثبط عن تعلم العقيدة، أو يجعل تعلمها في مراحل متأخرة فإنه رجل سوء فلا تجالسه.
3- الإعداد البدني والإيماني، والجهاد في سبيل الله، فإن الجهاد ينبوع العزة، ومعين الكرامة، وهو المجد لمن أراد المجد، والعزَّ لمن أراد العز، و «من مات ولم يغز، ولم يحدث بها نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق» (أخرجه مسلم)، كما أخبر الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام، قال الإمام ابن تيمية: فإذا ترك العبد ما يقدر عليه من الجهاد كان دليلًا على ضعف محبة الله ورسوله في قلبه (مجموع الفتاوى (10/ 193).
4- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والغضب لدين الله عز وجل، وهذا أمر فرضه الله عز وجل علينا فقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر} [آل عمران: 110].
5- الدعوة إلى الله عز وجل وإلى كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، وقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108].
قال ابن القيم رحمه الله: فمقام الدعوة إلى الله أفضل مقامات العبد (مفتاح دار السعادة (1/ 153).
ورحم الله من قال:
إن نفسًا ترتضي الإسلام دينًا ثم ترضى بعده أن تستكينا
أو ترى الإسلام في أرض مهينًا ثم تهوى العيش نفس لن تكونا
في عداد المسلمين العظماء (المنطلق للراشد (ص: 227).
6- الالتفاف على جماعة المسلمين الصادقة ولزوم غرزهم، وعلى رأسهم العلماء الربانيون والمجاهدون الصادقون، والدعاة المخلصون، فيجب الحذر من التكلم في أعراضهم أو سبهم وليعلم أن من تكلم فيهم فإنه قد شق الصف ولم يوحده وفرق الجماعة والقلوب.
وقد أورد مسلم في صحيحه في كتاب الجهاد حديث ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك» (أخرجه مسلم)، وكذا حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم، لا يضرهم من خالفهم، حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك» (أخرجه مسلم).
فصفة عصابة المسلمين وجماعتهم أنها قائمة بنصرة دين بالحجة والبيان، والسيف والسنان، وسيأتي أناس يخالفونها الرأي بتلك النصرة البيانية أو الجهادية، فأخبر عليه السلام أن تلك المخالفة وذلك التخذيل لن يضرهم لأنهم على هدى مستقيم، ومنهج قويم، ولذا ستبقى هذه الطائفة منصورة إلى قيام الساعة، وقد أورد الإمام مسلم في صحيحه حديث جابر بن سمرة مرفوعاً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: «لن يبرح هذا الذين قائمًا يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة» (أخرجه مسلم)، فعلى الثابت على هذا المبدأ، ألَّا يضره كلام مخالفيه وخاذليه، بل ينطق بكل علو وصمود:
ماضٍ وأعرف ما دربي وما هدفي *** والموت يرقص لي في كل منعطف
وما أبالي به حتى أحاذره *** فخشية الموت عندي أبرد الطرف
ماض فلو كنت وحدي والدنا صرخت *** بي قف لسرت فلم أبطء ولم أقف
أنا الحسام بريق الشمس في طرفي *** مني وشفرة سيف الهند في طرف
فلا أبالي بأشواك ولا محن *** على طريقي ولي عزمي ولي شغفي
7- محاسبة النفس، والنظر مرَّة بعد مرَّة إلى عيوبها، حتى لو تابت ورجعت إلى الصراط المستقيم، فإن «كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون» (رواه أحمد والترمذي عن أنس وحسنه الألباني (صحيح الجامع (2/ 831) وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وتزينوا للعرض الأكبر وإنما يخفف الحساب يوم القيامة على من حاسب نفسه في الدنيا.
8- رسم المنهج والتخطيط لنصرة دين الله، على تعاون بين المسلمين فلا يصح عمل بدون خطة، والتنظيم والتخطيط قانون النجاح ومن أجمل ما قرأت في ذلك ما كتبه الدكتور: عدنان النحوي في كتابه (حتى نغير ما بأنفسنا (ص: 10): إذا غاب النهج والتخطيط على أساس الإيمان والتوحيد والمنهاج الرباني في واقع أي أمة، فلا يبقى لديها إلا الشعارات التي تضج بها ولا تجد لها رصيدًا في الواقع إلا مرارة الهزائم وتناقض الجهود واضطراب الخطا، ثم الشقاق والصراع وتنافس الدنيا في الميدان، ثم الخدر يسري في العروق، ثم الشلل، ثم الاستسلام.
هذه نقاط ثمانية كاملة، أًرى إن تحققت في واقع المسلمين، فإنهم سيجنون بعدها الفلاح والعز والسؤدد في الدنيا والآخرة، وما ذلك على الله بعزيز.
{مَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 10].
هذا والله أسأل أن يوفقنا لما فيه صلاح أنفسنا وأمتنا وآخرتنا، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشدًا، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
وسبحانك اللهم وبحمد أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه إل يوم الدين.
المصدر: موقع صيد الفوائد