logo

الحقوق والحريات في الشريعة الإسلامية


بتاريخ : الجمعة ، 21 جمادى الآخر ، 1436 الموافق 10 أبريل 2015
بقلم : محمد الغباشى
الحقوق والحريات في الشريعة الإسلامية

من أكبَرِ مَظاهر عظمة الدِّين الإسلامي: أنَّه راعى التجاذُبات والتَّنافرات النفسيَّة ما بين الإِنْسان من حيثكونُه إنسانًا له احتياجات عاطفيَّة وشخصيَّة وفطرية، وحُرِّيات يسعىلتحقيقها، وبين كونه ضلعًا وحجرًا أساسيًّا في بناء المُجتمع

وتشييدالحضارة، فلَمْ يبالغ هذا الدِّين في رسم الصُّورة النمطية للحضارة القائمةعليه، وتكليف الإنسان بِبِناء مجتمعه وتنمية بلاده، مهمِّشًا بذلك الفردوحقوقه ومتطلَّباته الأساسية، ولكنه اهتمَّ اهتمامًا بليغًا بحقوق الأفرادوكفالة الحريات المختلفة له ولأبنائه، وجعل ذلك مدخلاً أصيلاً وباحة رئيسةلِصَرح الحضارة والتنمية، حيث لا يشيد العبيدُ صروحَ الحضارات، وإنَّماالذين يشيدونها هم الرجال الأحرار، أربابُ العِزَّة والأنَفة، والثِّقة فيخير دينٍ ختَم الله تعالى به الرِّسالات، وأرسَل من أجْله خير الرسل.

لذا؛ فإنَّ كبْتَ الحريات، وقهْرَ الرجال،ومنْعَهم حقوقهم الأساسية هو أقوى مَعاول هدم المُجتمعات الإنسانيَّة بشكلعامٍّ، وهو أكبَرُ عوامل الانْحِطاط والتخلُّف الَّتِي تُقاسي منهاالبشريَّة المعاصرة؛ لذا فإنَّ الدعوة إلى الإسلام والالتزام به وتحكيمهبين العباد ليست دعوةً ساذجة بالصُّورة التي يُصَوِّرها معتنقو التصوُّراتالبشرية الزائفة، وإنَّما هي دعوة في صميم الإصلاح البشريِّ، ودفْع الظُّلمورفع التخلُّف والرَّجعية عن كواهل البشر.

لقد قاست البشريَّة العمشاءُ خلال عقودطويلة من أعمارها من تَجارب ومناهج بشريَّة قاصرة، كانت تولِي اهتمامًابأنواعٍ من الحقوق على حساب أنواعٍ أخرى، فهي حينًا تُقدِّس الفرد وتَعبُدهوتعطيه أكثر مِمَّا يستحقُّ، فيكون ذلك على حساب المجتمع، فتقع الشُّعوبفي أزمة فرديَّة، وتقديسٍ للذَّات، وتهميشٍ لبناء المُجتمعات، وحينًا آخرتُعْلِي من قدر المجتمع، وتَنْسى الفرد، فتَبْخسه حقوقه، فتتضاءل قيمةالفرد، ويصير مجرَّد ترس في عجلة الحياة، تنتفع منه الدَّولة وتَمَصُّدماءه ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، فإنْ مَرِض أو أعيق أُلْقِي في مزبلةالنِّسيان... وهكذا تظلُّ الأُمَم تعاني وتقاسي الأمَرَّين، ولا تصل فينهاية الحال إلى نتيجة تسرُّ الناظرين.

لقد راعى الإسلامُ النَّزعة الفرديَّة في الفطرة الإنسانيَّة،فلم يتَجاهلها ولم يُهملها، بل عزَّزها وأعلى من قيمتها، ولكن ليس علىحساب الجماعة الْمُسلمة، بل جعل توازنًا فريدًا بين كلا النَّزعتَيْن، عزَّنظيرُه في الأنظمة البشرية الوضعيَّة القديمة والمعاصرة، فمهما أوتِيَواضعو الأنظمة والمناهج والقوانينِ مِن علْمٍ فإنَّ علمهم هذا يظلُّ قاصرًامقارَنةً بعِلْم الله تعالى المُحيط، فقد يصيبون الفرد في مقتله،ويضرُّونه من حيث يظنُّون فيه النَّفع، فالتشريعات التي تأخذ جانب الرِّجالربَّما كانت على حساب نساء المُجتمع فتضرهن، وما كان منها في جانبالنِّساء ربَّما جاءت على حساب الرِّجال فتضرهم، وما كان منها في جانبالفرد أضرَّ بالمُجتمع، وما كان منها في جانب المُجتمع أضرَّ بالفردومَصالحه وحُرِّياته، وهكذا، فهي حالةٌ من الاضطراب وتضارب الْمَصالحوالمنافع بين المخلوقين، والضَّحية في النِّهاية هي الأُمَّة بأفرادهاوجَماعاتها، ورجالِها ونسائها، وهذا شأن التخبُّط لا يقرُّ له قرار، ولايستمرُّ على حال.

أمَّا دين الله تعالى فقد راعى الجميعَدون حيفٍ أو ضَيم أو ظُلم، ودون تقديمٍ لأحد الأطراف على الآخر، بل راعىمصالح الجميع بِما يتناسب مع المصلحة العامَّة للمجتمع، وهذا بناءً على علمالله تعالى المُحيط بالكائنات: ?أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ? [الملك: 14]، فوحْيُه ?لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ? [فصلت: 42]، والسُّنة النبوية المشرَّفة جزءٌ لا يتجزَّأ من ذلكم الوحي: ?وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى? [النجم: 3 - 4]، فهما وحْيَان من مشكاةٍ واحدة لا تُحابي أحدًا .

لقد آمنَتِ الأُمَّة الإسلامية بِحُقوق أبنائها منذ القديم،فكفَلَت لَهم حقوقًا تتضاءل بِجانبها الحقوقُ التي استحدثَتْها الأنظمةالوضعيَّة القاصرة، واستمدَّت من تعاليم الإسلام العظيم مبادئَ تُعْلِي منقيمة الفرد، وتعوِّل عليه في قيام النهضة، وتعتَمِد عليه في تشييد الحضارة؛لأجْل ذلك كان لا بدَّ لِهذا الكائن المكرَّم أن تُتاح له مساحاتٌ منالإبداع والبناء لَم تُتَح لأحدٍ قبْلاً، بدءًا من حُرِّية انتقاد إمامالمسلمين وخليفتهم، والإنكار عليه، وتذكيره بالحقِّ، ومقاومة فساده،وانتهاءً بِحُقوق الطِّفل بين أفراد أُسْرته وفي مُجتمعه، مرورًا بكفالةحُرِّيات الرَّأي والاجتهاد، والتملُّك والعمل، إلاَّ أنه - الإسلام - صيانةً لِهذه الحريات العامَّة أحاطها بسياجٍ من التقييد بِمبدأ المُحافظةعلى حقِّ الغير، سواءٌ أكان هذا "الغير" فردًا أم جَماعة، فما يؤدِّيهالفَرْدُ من تكاليفَ إزاءَ الآخرين فهي في حقِّه تكاليفُ وواجباتٌ، وفيحقِّ غيره حقوقٌ وحُرِّيات، فمنشؤها التَّكليف الذي يتنافى مع الإطلاق فياستعمالها؛ إذْ لا حرية مع الفوضى، ولا فوضى مع الحرِّية المسؤولة.

فالحريات العامَّة مَصُونة، إلا أنَّهملاحَظٌ فيها حقُّ الغير من الفرد والمُجتمع؛ صيانةً لَها وتحقيقًاللتَّوازن بين الْمَصالح الفرديَّة والحُرِّيات الْمُتعارضة، وهذا مِن أبرزخصائص هذا الدِّين عدلاً ومصلحة، فيما لَم تتمَكَّن بقيَّة الأنظمةالوضعيَّة من تحقيق هذه الْمُعادلة الصَّعبة على أرض الواقع، وإن كانتحقَّقت أحيانًا نوعًا من الإبْهار التنظيري في المؤلَّفات والأبحاثوالدساتير النظرية.

إنَّ الإسلام لا يستمدُّ قوَّتَه وعظمتهمن مُجرَّد تشريعاتٍ نظريَّة، أو مفاهيم ذهنيَّة مجرَّدة، أو مبادئفلسفيَّة يدعمها المنطق والعقل فحسْب، وإنَّما يستمدُّ قوَّته وعظمته منقابليَّة هذه التشريعات والْمَفاهيم والمبادئ للتَّطبيق على أرض الواقع،ومن كونِها في حدود الاستطاعة والطَّاقة البشريَّة المَحْدودة، وهذا ما لايُمكن أن يتحقَّق في أيِّ نظامٍ بشريٍّ قاصر إلاَّ حينما يستمدُّ منالإسلام روحه وتشريعاته ومبادئَه، فكثيرٌ من الأنظمة الغربيَّة أوالْمُغايِرة للإسلام التي تكفل الحرِّيات، وتُدْرِجها في دساتيرها، قدأفادت كثيرًا من التشريعات الإسلامية المتوازنة، ولكنَّها رغم ذلك لَمتَسْلم من الشَّطَط والشطحات المبنِيَّة بعضها على بعض؛ لأنَّها أخذَتْ منالإسلام وتَرَكت، وهذا لا يصحُّ في حقِّ هذه التشريعات الموزونة بميزانربَّاني دقيق، فالتَّشريع الإسلامي كتلة واحدة، غير قابلٍ للتَّفكيك وإعادةالتقسيم أو الانتقاء، ومِن هنا كانت الدِّقة في ضرورة الاستسلام لهباعتباره كُلاًّ لا يتجزَّأ: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً?}البقرة:208 .{

فاستلهام هذه الكتلة الواحدة ضمانٌ منالوقوع في التَّناقضات والاضطراب، والحيرة والقلق، التي تسببهاالانتقائيَّة العشوائية أو المنظَّمة، وضمانٌ كذلك لتقدُّم المجتمع ونُهوضهوبقائه متحفِّزًا مشدودَ الأطراف بشريعته، والقضاء على ما يُخلخلهويُرَهِّلُه من الأمراض المجتمعية التي يتسبَّب فيها الإيمانُ ببعضالكِتَاب والكُفْر ببعض، فإنَّ ذلك باعثٌ على ردِّ الشريعة كُلِّيَّةً فيمراحِلَ متأخِّرةٍ بسبب تَمييع قبولِها في النَّفس البشريَّة؛ حيث إنَّحالة التحفُّز للتطبيق، والتهيُّؤ للانقياد، تضع النَّفْس في وضع الاستعدادالدَّائم للتنفيذ، فما مرَّ منها خلسةً في لَحْظةِ ضعف أو هوًى استدركَتْهفيما بعْدُ، واستقامت من جديد على الطريق.

وليس ذلك إلاَّ في حالة الانقياد للنِّظام الإسلامي العظيم،الذييسوق الإنسان من جانبَيْ التأثير فيه: الجانبِ العاطفيِّ الأخلاقيالتربوي، والجانبِ السِّياسي السُّلطاني، فهو حثَّ على الالتزام بالفضائلوالأخلاق والمبادئ، وربَّى عليها أتباعه، وجعل لَها ثوابًا أُخرويًّامتميِّزًا، وفي الوقت ذاته جعل للدَّولة سلطانًا على القِيَم والمبادئوالحقوق، وجعل لَها حوافِزَ وعقوباتٍ مادِّيةً دنيويَّة، لا يسع أحدًاالخروجُ عليها وإلاَّ عرَّض نفسه للمُساءلة والعقوبة.

إنَّ مَحاسن الإسلام ومظاهر عظمَتِهالتشريعيَّة والحضارية كثيرةٌ كثيرة، تحتاج إلى جهدٍ مؤسَّسي بحثيٍّ؛للوقوف عليها، والإفادة منها في بناء الحضارة الإسلاميَّة المعاصرة، وماذُكِر هنا هو مُجرَّد نُتَف من الفيضان الإسلاميِّ الذي لا يكفُّ خيْرُه،ولا ينقطع عطاؤه؛ فقد بنَى خيْرَ أمَّة، وأعظم قادة، وأغنَى حضارة مرَّتعلى صفحات التاريخ؛ بشهادة أعدائه قبل أصدقائه ومُحبِّيه.

 

 

كَذَلِكَ أَخْرَجَ الإِسْلامُ قَوْمِي

شَبَابًا مُخْلِصًا حُرًّا أَمِينَا

وَعَلَّمَهُ الْكَرَامَةَ كَيْفَ تُبْنَى

فَيَأْبَى أَنْ يُقَيَّدَ أَوْ يَهُونَا

دَعُونِي مِنْ أَمَانٍ كَاذِبَاتٍ

فَلَمْ أَجِدِ الْمُنَى إِلاَّ ظُنُونَا

وَهَاتُوا لِي مِنَ الإِيمَانِ نُورًا

وَقَوُّوا بَيْنَ جَنْبَيَّ اليَقِينَا

أَمُدَّ يَدِي فَأَنْتَزِعَ الرَّواسِي

وَأَبْنِي الْمَجْدَ مُؤْتَلِقًا مَكِينَا

وإسهامًا منَّا - في ملتقى الخُطَباء - فيالكشف عن بعض معالِم عظمة هذا الدِّين، وشيءٍ من خصائصه ومقوِّماته،ومبادئه ومَحاسنه، وأنَّه دين الفِطْرة البشرية، فقد رأينا أن نُسْهِم فيذلك بهذا الملفِّ "عظمة الإسلام"، وفيه توضيحٌ لِمَكانة الإسلام، وتنبيهٌللمسلمين على أهَمِّية الاعتزاز بدينهم، وإشعالُ جذوة اليقين في نفوسهمبأنَّ المستقبل للإسلام، معتَمِدين في ذلك على دراساتٍ وبُحوث إسلاميَّةوغَرْبية، وبالأرقام تظهر مدى سرعة انتشار الإسلام في العالَم لا سيَّماالغرْبِي منه؛ وذلك لافتقارِ أفراده وافتقادهم للمعاني الإيمانية العميقةالتي يَزْخَر بِها الإسلام، مشيرين في خِضَمِّ ذلك إلى أوضح الأساليب التييُمكن اتِّباعُها لِنَشره بين الناس: المسلمين منهم وغير المسلمين.

نسأل الله تعالى أن ينفع بِهذا المِلَفِّ خُطباءَنا ودعاتِنا في العالَم الإسلاميِّ كله،وأن يعجِّل بِنَصر الإسلام، وأن يستعملنا في خدمة دينه، إنَّه وَلِيُّ ذلك والقادرُ عليه.


المصدر: شبكة الألوكة