logo

فدارها تعش بها


بتاريخ : الخميس ، 24 ربيع الأول ، 1441 الموافق 21 نوفمبر 2019
بقلم : إدريس أبو الحسن
فدارها تعش بها

مهما كانت حرارة المودة والعواطف حاضرة بكل ثقلها في البيوت فإن مساحة العلاقة الزوجية تشغل أمورًا حياتية عديدة غير العواطف والمودة، وبسبب تفاصيل تلك الأمور الحياتية يحتاج الزوج إلى رؤية موضوعية ثاقبة حتى يستطيع الحفاظ على دفء العلاقة والعشرة بالمعروف، حتى مع وجود منغصاتها من المشاكل والخلافات، وما يحتاجه تحديدًا هو امتلاك القدرة على فهم منهج التواصل مع أهله؛ مع عقلها وقلبها وعاطفتها ونمط تفكيرها، من حيث هي أنثى من جهة، ومن حيث شخصيتها وطباعها الخاصة من جهة أخرى، فخريطة الطريق هذه هي ما يحتاج إلى معرفته و(فقهه) ليحقق سعادته في بيته.

ومقارنة بكل مفردات الأخلاق الزوجية، التي يُبنى عليها صرح العشرة بالمعروف بين الزوجين، يعد خلق المداراة واحدًا من أهم تلك الأخلاق وأنفعها لبقاء المودة والحب والتفاهم في البيوت؛ بل هو الخلق الجامع لأسس الطمأنينة، ونجاح العلاقة الزوجية، وتجاوز كل العقبات أمامها، والمعني بهذا الخلق تحديدًا هو الزوج وليس الزوجة.

نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو من حث على هذا الخلق ودل عليه، ورسم به أبعاد السعادة في البيوت، وجعله محور طمأنينتها، وبقاء المودة والخير في أركانها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استوصوا بالنساء، فإن المرأة خُلقتْ مِن ضِلَع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لَم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء» [متفق عليه].

وعن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المرأة خُلقت من ضِلَعٍ، وإنك إنْ تُرِد إقامة الضِلَع تكسرها، فدارها تعشْ بها» [رواه أحمد، وصححه الألباني].

ففي الحديث الأول وصَّى النبي صلى الله عليه وسلم بالنساء، فكان كلامه عامًا بالتعامل معهن بالخير بعد أن أوضح أصل خلقتهن، وفي الحديث الثاني أيضًا أوضح أصل الخلقة ثم أرشد لخلق المداراة، فهذا الخلق إذن جامع لفحوى الوصية بالنساء خيرًا، كما هو حلٌ لجملة الخلافات الزوجية.

وأجمل ما قرأته في شرح ما دل عليه الحديث الذي في البخاري كلام الإمام ابن حجر رحمه الله؛ حيث قال: «كأن فيه رمزًا إلى التقويم برفق؛ بحيث لا يبالغ فيه فيكسر، ولا يتركه فيستمر على عِوَجه، وإلى هذا أشار المؤلف [يقصد البخاري رحمه الله] بإتْباعه بالترجمة التي بعده: (باب: قُوا أنفسكم وأهليكم نارًا)، فيؤخَذ منه ألا يتركها على الاعوجاج إذا تعدت ما طُبِعت عليه من النقص إلى تعاطي المعصية بمُباشرتها، أو ترك الواجب، وإنما المراد أن يتركها على اعوجاجها في الأمور المباحة».

وقال أيضًا: «وفي الحديث الندب إلى المداراة؛ لاستمالة النفوس، وتألف القلوب، وفيه سياسة النساء بأخذ العفو منهن، والصبر على عوجهن، وأن مَن رام تقويمهن فاته الانتفاع بهن، مع أنه لا غنى للإنسان عن امرأة يسكن إليها، ويستعين بها على معاشه، فكأنه قال: الاستمتاع بها لا يتم إلا بالصبر عليها».

وحين نتكلم عن حاجة الزوج إلى مداراة أهله، لتكتمل سعادته، فنحن نتكلم عن حل جذري لكل الهموم الزوجية، التي منشؤها من الخلاف في الآراء، فغالبًا ما يكون الحل في استعمال هذا الخلق، ويكون المعني به هو الزوج، كما جاء في الحديث «فدارها تعش بها».

والمداراة تقوم على أساس الرفق والتودد والتغاضي، فالمداري مع معرفته بخطأ من يداريه وما هو عليه حاله يتغافل عن حاله، حتى أن من يراه يظنه مغفلًا وهو من اليقظة في نهاية، ولكن لا يعني ذلك تأييد الخطأ والموافقة عليه، ولكن معالجته باللين وتطييب الخاطر، أو الإعراض عن ذكره بالكلية إن كان من الطباع والعادات التي يمكن تحملها، ولهذا كله ضوابط بينها الإمام ابن حجر في شرح حديث المداراة السابق، قال رحمه الله: «والمداراة هي الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله، وتركُ الإغلاظِ عليه؛ حيث لا يُظهِر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك» [فتح الباري (10/ 528)].

وتأمل في قوله: «لا سيما إذا احتيج إلى تألفه» لتعلم أن الزوجة أحق به من غيرها، فالحاجة إلى تأليف قلبها وكسب مودتها من المقاصد الهامة للسعادة في البيوت، فمن المداراة على هذا النحو تتفتق المحبة حين تغيب المحاسبة بكل تبعاتها، ويسود التسامح والتغاضي والغفران والتجاوز، لا سيما من قبل الزوج المعني بها، قال ابن بطال رحمه الله: «المداراة من أخلاق المؤمنين؛ وهي خفض الجناح للناس، ولين الكلمة، وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة» [ فتح الباري (10/ 528)]، هذا مع عموم الناس، وهو مع الزوجة أوكد؛ لأن خير الناس خيرهم لأهله، كما دل على ذلك الحديث الصحيح.

نعم، ليس كل الخلافات على وتيرة واحدة ولون واحد، فهناك ما يكون بسبب أخلاق سيئة قد ترتكبها الزوجة في حق زوجها، لكن حتى هذا النوع من الخلاف لا يخلو من حلول أقرب ما تكون إلى المداراة؛ كالرفق والتجاوز، لا سيما حين تكون نادرة أو من جملة الطباع التي يصعب إزالتها، ففي الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: «لا يفرك مؤمنٌ مؤمنة، إن كره منها خلقًا رضِي منها غيره» [رواه مسلم].

إن مقياس رجاحة العقل هو في قدرته على توظيف هذا الخلق الرفيع في سياسة بيته وأموره مع أهله، قال الحسن: «التودد إلى الناس نصف العقل».

وقد كان بعض السلف يَعُدُّون المداراة صدقة، قال حميد بن هلال: «أدركتُ الناس يَعُدُّون المداراة صدقة تُخرج فيما بينهم».

وفي هذا الخلق [المداراة] أمر عجيب يحدث بين عقل الرجل وعقل الأنثى، فظاهر ما يحدث أن الرجل حين يداري أهله يتجاوز نقصًا في سلوكها، إنْ في الفكر أو الخلق، لكن الحقيقة أن ما يحدث هو تكامل بديع بين عقلين، لكل منهما نمط خاص في التفكير، بمعنى آخر ما يحدث هو تفاعل لم تكن الحياة ليكون لها طعم السعادة والعيش بدونه، حتى وإن كان نمط التفكير الأنثوي هذا ينم عن نقص محتمل!

ولتقريب الصورة تأمل في نمط السلوك عند الأطفال؛ كيف يبعث على السعادة، بغض النظر عن حقيقة نقصه أو كماله؛ لذلك كان الأطفال بذلك النمط زينة الحياة الدنيا، ومنبع بهجة وأنس! فأي فسحة ومتعة للعيش لو كان الأطفال على حال عقلاء الرجال؟! والنمط هنا يعني تلك الوتيرة التي يشتغل بها العقل بطريقة معينة، فينتج عن التناغم معها، على طبيعتها، تناسق نفسي وعواطف محببة، والمرأة ليست بعقل الطفل، وإنما القصد تشبيه النمط الفكري لا العقل، ذلك النمط الذي تتولد منه المتعة في التفاعل معه! وكما أن هناك نفوسًا تجد حاجة ماسة إلى الأخذ، ومن يراعيها ويحنو عليها، فهناك أخرى تجد حاجة ماسة للعطاء، وتستمتع بإظهار الحنان والرعاية، وفي التناغم بين الآخذ والمعطي سعادة تغمر، «فدارها تعش بها».

ولا تتوقف المداراة على التغاضي عن الأخطاء، وعدم التدقيق في المحاسبة، وإنما تتعداه إلى سلوك طريق في أصله مشين، لكن في حال الزوجين استثناء تتحقق به مصالح أعظم، وتزول به مفاسد أكبر، إنه خلق الكذب، فعن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يَحِل الكذب إلا في ثلاث: يحدث الرجل امرأته ليرضيها، والكذب في الحرب، والكذب ليصلح بين الناس» [رواه الترمذي، وصححه الألباني دون قوله: ليرضيها].

قال النووي رحمه الله في (شرح مسلم): «وأما كذبه لزوجته وكذبها له فالمراد به في إظهار الود، والوعد بما لا يلزم، ونحو ذلك؛ فأما المخادعة في منع ما عليه أو عليها، أو أخذ ما ليس له أو لها فهو حرام بإجماع المسلمين، والله أعلم».

ومن ذلك قد تجد امرأة في الستين من عمرها، إذا أخبرها زوجها، معلقًا على زينتها في لحظة تأمل: «أنت تبدين فتاة في العشرين من عمرها، لا تكبرين أبدا!!» فإن هذه المرأة الستينية تفزع هرموناتها الأنثوية، من سائر غددها، لتشل فيها التفكير وعلم الحساب ومقاييس الطبيعة تمامًا؛ فيصمت عقلها، ويسخن قلبها، ثم يدق بنبض متسارع، وهو يوحي لها أن ما يقوله هذا الشخص حق لا مرية فيه، وهو أصدق الناس في وصفه! ثم ينطلق لسانها بعبارة مجاملة لا تتضمن التكذيب مطلقًا، وإنما تلمح للقبول مع استبعاد الأمر؛ كعبارة: «أنت تبالغ!»، فإذا أصر الزوج على رأيه انضمت بكل ثقلها إلى رأيه؛ بل وأعطته الأسباب التي جعلتها لا تكبر ولا يزول منها الجمال!! حتى إن الرجل ينتابه الوسواس في رؤيته!

لا يستطيع أحد تكذيب هذا، فالثناء بحسن البيان في الأخلاق والأعمال، وفي عامة الأمور، يسحر، فما بالك بعاطفة الأنوثة، التي هي أرق في تكوينها من ريح الصبا، وفي الحديث الصحيح: «إن من البيان لسحرًا».

وقد لا تنتبه أنت لفستانها الجديد الذي اشترته بعناية شديدة، ولبسته بعناية أشد، لكن خاب أملها في كلمة إطراء انتظرتها طويلًا؛ بل ربما لأجلها اشترت الفستان! وفيما أنت منشغل بما يعنيك فقط، تجدها تحكي عن إطراءاتك ومديحك للباسها لامرأة سألتها: هل أعجب زوجك؟! نعم، فأحيانا تضطر أن تصنع عالَمها الخاص المفترض حين تعجز أنت عن القيام بدورك فيه! صناعتها لذلك العالَم يتم بالطريقة ذاتها التي أجاز لك الشارع سلوكها إذا ابتُليت ببلادة العواطف وقلة الذوق، أعني الإطراء، حتى ولو بالمجاملة والكذب!

فليس تقبل المرأة لكثير من كذب الرجل في مجال العواطف بسب غباء يجعلها لا تنتبه؛ بل لأن تكوينها العاطفي يلعب دور العقل في عدم التدقيق في هذا النوع من التواصل بالكلام! إنه عقل آخر غريزي بطبيعته، يدفعها لسلوك التغافل والنسيان السريع! وليس هو معيب في حد ذاته؛ بل قيمة تعكس روعة جمال عقل المرأة وعاطفتها.

فحتى أكثر الرجال حكمة وعبقرية يستعملون التغافل طريقة للعيش؛ بل ويعتبرونها روح العقل والحكمة، والعقلاء يقولون: «ثلاثة أرباع العقل في التغافل»، لكن التغافل في النساء غريزي، يشكل جزءًا من التكوين النفسي العاطفي للمرأة، لا مجرد سلوك يمكن اكتسابه، ويفتح لها ولبيتها آفاق السعادة، هذا السلوك هو الأرضية الخصبة التي إذا زرع فيها خلق المداراة احمرت وأنبتت الحب إلى أبعد مدى، «فدارها تعش بها».

سمعتُ امرأة كبيرة تشكو للقاضي جفاء زوجها، بعد أن رفضت العودة إلى البيت، وزوجها يحاول أن يقنعها بالعودة، وحين سألها القاضي عن سبب عدم رغبتها في العودة قالت له، وهي منكسرة كالطفلة الصغيرة: «إنه لم يفكر حتى في أن يجلب معه وردة يرضيني بها لأعود، لو فعلها لكنت في البيت من أول مرة»! فتعجب القاضي، «فدارها تعش بها».

إن المداراة هي عماد المعاشرة بالمعروف في البيوت؛ إذ بها يستجلب الزوج حب أهله، ويسد خللها، ويجعل من الأخطاء الصغيرة؛ بل والكبيرة، سببًا لزيادة المودة؛ إذ العفو والرفق والتودد والإحسان مع التغافل مما له الأثر الكبير على القلوب، واستمالتها في عموم التعامل، فكيف مع المرأة المرهفة الإحساس بطبعها؛ ولذلك كانت أقوال المفسرين لآية المعاشرة قريبة من معاني المداراة، قال ابن كثير في تفسيرها: «أي طيبوا أقوالكم لهن، وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم كما تحب ذلك منها، فافعل أنت بها مثله، كما قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}».