ولدُك ليس أنت
أعزائي المربين، أهلًا بكم.
ينجح المربي في عمله إذا استطاع أن ينشئ جيلًا يحتفظ بأصالة القيم الدينية والخلقية، المستمدة من دين الإسلام العظيم، محتفظًا بقدر وافر من المرونة، التي تمكِّنه من مسايرة كل جديد في عالم التقنيات، والانفتاح على العالم دون أن يتأثر بسلبيات هذا الانفتاح وذلك التقدم، مع كامل الاحتفاظ بهويته الإسلامية، التي تجعله مؤثرًا لا متأثرًا.
والمربي الناجح لا يهدف إلى تربية جيلٍ على قالبه، وأبناءٍ هم في الحقيقة نسخة كربونية منه!
إنهم حينئذٍ يصبحون مسخًا لا معالم له، قد انمحت شخصيتهم مع سبق الإصرار والترصد من المربي!
إننا سوف نخسر كثيرًا إذا اتخذنا من التربية أداة لتوريث أبنائنا كل ما ورثناه من أسلافنا، دون تمحيص أو تدقيق أو اختيار أو تطوير.
إن أولادنا خلقوا ليعيشوا في زمان غير زماننا؛ ولذا فإنهم بحاجة إلى تربية أكثر تطورًا عن تلك التي تلقيناها.
لنكن منصفين:
إن من أهم التحديات التي تواجه المربين، حتى ينشئوا أجيالًا صالحة، أن يطوروا أنفسهم، ويتبعوا أسلوبًا جديدًا في التربية والإقناع، وبناء الحصانة الفكرية والخلقية لدى الأبناء.
ولا يصح أن نفترض أن كل الأساليب التربوية التي اتبعها أهلونا ومعلمونا في تربيتنا كانت صحيحة بنسبة 100% ، فهم قد اجتهدوا، جزاهم الله عنا كل خير، وفعلوا جُلّ ما في وسعهم، وإذا افترضنا أنهم اتبعوا أفضل الأساليب في تربيتنا فذلك لا يعني أن أساليبهم تلك تصلح لكل الأزمان وكل الأجيال؛ بل إن إيماننا بقدرة الوعي على التقدم يبيح لنا أن ننتظر من الجيل الحالي أن يربي أبناءه تربية أفضل من التي تلقاها من أسلافه، بعد أن استفاد من خبرات السابقين وأدرك مواطن الخلل؛ ومن ثم تتسع دائرة الرؤية التربوية لدينا كما تتسع لدى من يقف على كتفي عملاق!! [د. عبد الكريم بكار، معًا نحو طفولة سعيدة، ص177].
ابنك ليس أنت:
من أجمل ما يروى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قوله: «لا تقسِروا [لا ترغموا] أبناءكم على آدابكم؛ فقد خُلِقوا لزمان غير زمانكم».
فجيلك يختلف عن جيل أبنائك كما اختلف عن جيل آبائك، وبالضرورة فإن شكل الحياة سيختلف أيضًا، وثمرة تلك المعرفة ألا يكون اختلاف الأجيال مؤديًا إلى وجود فجوة في التواصل بينك وبين أبنائك، ولكن ليكن مؤديًا إلى حوار هادئ، يحركه الوعي والاحتواء.
ذلك الحوار بين عقول الآباء الناضجة وقلوب الأبناء المتفتحة، ومن قلوب الآباء المغمورة بالحب إلى عقول الأبناء المستعدة للفهم، عندها يصل حديث الأجيال بطرفيه، الآباء والأبناء، إلى بر الأمان، أما حين يأخذ هذا الحديث طابع الأوامر العلوية الأبوية المطلقة، والنظرة الدونية؛ فإنه يتحول إلى صراع بين العقول المسيطرة والمنغلقة للآباء، والعقول التابعة المتحجرة للأبناء، ومن القلوب القاسية الشديدة للآباء إلى العقول الرافضة للفهم للأبناء؛ ومن ثم لا يوصّل إلا إلى المجهول. [د. محمد بدري، اللمسة الإنسانية، ص464].
لا تفرح بتربية طفلٍ تابع:
الاستقلالية صفة يكتسبها الفرد من المجتمع الذي يعيش فيه، وقد تعزز في نفسه هذه الصفة أو تضمحل وتتحول إلى التبعية، بحسب الظروف الأسرية والبيئية التي نشأ فيها وأثَّرت فيه.
ولقد أثبتت الدراسات التربوية الحديثة أن الأطفال الذين يظهرون عنادًا وميلًا إلى الاستقلالية هم أكثر قدرة على مواجهة الحياة فيما بعد والنجاح فيها، بينما أثبتت أن الأطفال الأكثر خضوعًا يتوقع منهم أن ينقادوا بسهولة لرفقاء السوء، ويقعون فريسة سهلة للعصابات وأرباب المخدرات. [محمد سعيد مرسي، كيف تكون أحسن مربٍ في العالم؟، ص45].
التطوير لا يعني الإخلال بالثوابت:
إن كلامنا هذا لا يعني أبدًا أن نتساهل في تربية الأبناء، ولكنها الدعوة إلى تطوير الأساليب التربوية بما لا يتنافى أبدًا مع أصول التربية الناجحة في كل زمان، مثل انطلاقها من ثوابت الدين والقيم الخلقية، إلى جانب تماسك شخصية المربي وتوازنها بحيث تتحقق فيه القدوة الحسنة، وفي نفس الوقت يستطيع أن يسوس أبناءه بطريقة تجمع بين الشدة واللين، كلٌ في موضعه، مع كثير من الحب والرفق في معالجة الأمور.
وللمربين أيضًا نقول:
- ليعلم الآباء أن لكل إنسان شخصيته المستقلة التي تختلف عن الآخرين، وقد تتفق معهم في بعض الصفات، وعلينا أن نتقبل ذلك، فليس بالضروري أن يصير ابني مثلي؛ لأن له شخصيته المستقلة كما أن لي شخصيتي المستقلة تمامًا.
- لابد من معرفة الفروق الفردية بين البشر عمومًا وبين الأبناء داخل الأسرة الواحدة، وبالتالي بين الآباء والأبناء أيضًا، فقد يتفوق الابن دراسيًا بينما الأب لم يكن كذلك، وقد لا يهوى الابن العمل الحرفي بينما يكون الأب متميزًا في حرفة ما، أو مهارة من المهارات، وقد لا يتميز أحد الأبناء رياضيًا، وقد يكره شقيقه وربما توأمه ممارسة الرياضة أصلًا، فالاختلاف بين البشر شيء طبيعي.
- لو أجبرنا الأبناء على الأخذ بنصائحنا؛ فمن المتوقع أن نجده يعاند ليبرز ذاته، ويقاتل ليدافع عن استقلاله وتميزه، وانفصال كيانه عن كيان الوالدين، وأنه ليس تابعًا لأحد، وهذا، في الحقيقة، مظهر يدل على النمو الطبيعي لشخصية الابن، وعلينا حينئذ أن نصغي له باهتمام، ونعطيه الفرصة كاملة ليعبر عن نفسه.
- محاولة استيعاب الطفل، وتفريغ طاقته في اللعب، وتنمية المهارات والمواهب لديه، والرد على أسئلته، وتوفير مساحة واسعة له كي يتحرك، مع عدم تفضيل أحد إخوته عليه أو مقارنته بغيره، ومعرفة خصائص مرحلته العمرية، كل ذلك يسهم بشكل كبير في تدعيم شخصية الطفل بدلًا من كبته ومحو شخصيته.
- دع ابنك يتحمل نتائج أخطائه، طالما أنك ستترك له مساحة للتفكير الحر واتخاذ القرار، إذن علينا أن نتوقع منه صدور أخطاء، وألا تكون قراراته دائمًا صائبة؛ وذلك لأنه يفتقد الخبرة التي يمتلكها الكبار، والوالدان هما من يرسم للولد الحدود التي يتصرف داخل نطاقها، وتكون غالبًا فيما يتعلق بأموره الشخصية؛ مثل اختيار ملابسه، شراء أدواته المدرسية، تغيير نظام حجرته، وهكذا، ولكن من المهم هنا أن نُعلِّم الابن أن يتحمل نتيجة خطئه إن وقع، بهدوء وصدر رحب، وبشكل إيجابي، فالذي يفكر يمكن أن يخطئ، أما الذي يعطل ما وهبه الله من إمكانات عقلية فلن يتعلم أو يتطور للأفضل، فتحمل نتائج الأخطاء من سمات أصحاب الشخصيات القوية المستقلة، أما من تعودوا على التبعية فإنهم دائمًا يعلقون أخطاءهم على الآخرين .
- إن ظهر على الطفل مبكرًا أنه يحب القيادة فينبغي ألا نحبطه أو نسخر منه؛ بل نفسح له المجال ونوفر له من الأعمال ما يكون فيها قائدًا، ونوجهه إن بدت عليه علامات عجب أو غرور، ونعلمه مبادئ القيادة الصحيحة وآدابها.
- لا تقوم بدور النائب عن ولدك وهو حاضر، فمن الخطأ الذي يرتكبه بعض الآباء أحيانًا أن ينوب عن ولده فيتكلم بلسانه، ويفعل ما يجب أن يفعله الابن؛ فمثلًا: عندما يقف الأب مع أصدقائه ويسألون ابنه عن اسمه يسرع الأب فيقول: اسمه فلان! وكان الأحرى به أن يقول مخاطبًا ولده: قل لعمك ما اسمك.
كذلك في أثناء النقاشات العائلية نحرص على سؤال الولد: وما رأيك أنت في هذا الأمر؟ حتى يتعلم الصغير ألا ينوب عنه أحد، وإلا فإن الولد لن يعرف الطريقة الصحيحة للتعامل والتفاعل مع الآخرين إذا غاب عنه والداه.
- ليس من الضروري، أيها الأب وأيتها الأم، أن يكون ما تحبه أو تمارسه صحيحًا؛ بل ربما تفوق الأبناء علينا في مجاراة أوجه الحياة المعاصرة وتقنياتها الحديثة، فلندعمهم بأسس التربية ورصيد القيم التي نمنحها لهم باستمرار، وبالقيام بواجبنا الدائم في النصح والتوجيه، هذا أفضل كثيرًا من أن يصيروا نسخًا كربونية منّا، ليس لها ملامح مميزة، ولا تستطيع أن تواكب عصرها.
- علينا أن نتجنب الرقابة المباشرة للأبناء، والمحاسبة على السكنات والحركات، والنقد والتجريح، ولنتعلم من أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم: «ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا؟» [رواه الشيخان].
- لنكن لأطفالنا كالطبيب الذي يداوي المريض بالمس الرقيق، وليس بمبضع الجراح، علينا أن نبحث لنجد لهم المبررات جنبًا إلى جنب مع التوجيه الحكيم؛ لأن مهمتنا أن نُعِد أبناءنا ليكونوا أفرادًا مستقلين، لكل منهم كيانه الخاص، لا ليبقوا تابعين لنا، يدورون في فلكنا إلى ما شاء الله. [هداية الله أحمد الشاش، موسوعة التربية العملية للطفل، ص425].
أعزائي المربين،
إن البيئات الجديدة تفرض علينا نعومة في التعامل، وثقة بالنفس، وقدرة على ضبط النفس، وفاعلية في الأداء التربوي، ودقة في الفهم، ومبادرة إلى الخير أكبر مما كان سائدًا لدى الجيل السابق، واستشعار هذه المعاني وتفعيلها يحتاج إلى خبرات وأساليب تربوية جديدة؛ مما يحدو بنا إلى المزيد من المعرفة التربوية التي تحسن من أدائنا.أأأاااا
وأخيرًا عزيزي المربي،
لا تنزعج أبدًا من هذه التغيرات الفارقة بين جيلك وجيل أبنائك؛ فإنهم محاطون بكم هائل من المؤثرات البرّاقة التي لم تتوفر لأسلافهم، وبدلًا من أن تمضي وقتًا طويلًا في الدهشة والتعجب من أمر هذا الجيل، وهذه النقلات التقنية السريعة، وتتذكر بالحسرة والأسى كيف كنت وكيف كان جيلك يرتعب من صوت حذاء أبيه، ولا يجرؤ على مخالفة أوامره...، ابدأ، من هذه اللحظة، في تطوير نفسك كمربٍ، وشارك أبناءك في عوالمهم الافتراضية، فأنت وحدك من يستطيع أن يمدهم بالقيم الدينية والأخلاقية، التي تجعلهم يستفيدون ويفيدون غيرهم في كل نشاط ينخرطون فيه، فقط إذا احترمت كيانهم، وأنهم مختلفون عنك.
____________
المراجع:
- كيف تكون أحسن مربٍ في العالم؟ محمد سعيد مرسي.
- أولادنا بحاجة إلى تربية غير تربيتنا، د. عبد الكريم بكار.
- موسوعة التربية العملية للأولاد، هداية الله أحمد الشاش.
- اللمسة الإنسانية، د. محمد بدري.