logo

صُنّاع الأبطال كيف تصنع بطلا يغير التاريخ؟


بتاريخ : الخميس ، 25 ربيع الآخر ، 1445 الموافق 09 نوفمبر 2023
صُنّاع الأبطال كيف تصنع بطلا يغير التاريخ؟

هل يولد «البطل» وهو يحمل بين أضلعه جينات البطولة والتميز؟ أم يكتسب صفاتها ويتعلم فنونها عبر جامعات التعليم ومدرسة الحياة؟ سؤال يشغل بال الكثير من الآباء والأمهات والمربين، كما احتل سابقا مساحة واسعة في نقاشات الفلاسفة وكتابات المفكرين، وخلاصة تلك المناقشات أن صفات وسمات البطولة تكون فطرية ومكتسبة في آن واحد.

فربما ولد إنسان وهو يحمل كل صفات الذكاء والشجاعة والقيادة، ولكن يسير في طريق خطأ ويظلم نفسه ويستسلم لهواه، فتكون عاقبة أمره غير محمودة. بينما يولد البعض ضعيفا ومن أصحاب الإعاقات، ولكنهم يتحدون ظروفهم الصعبة ويقدمون إنجازات غير مسبوقة ترفعهم إلى مرتبة الأبطال والعظماء.

ولما كان لكلٍ من الأب والأم دور هام في توجيه مسار حياة أولادهم، فإن طريق صناعة الشخصية القيادية يبدأ من حسن اختيار الزوج للزوجة التي سترضع أولادها أخلاقها وسلوكها، كما يجب على المرأة ووليها حسن اختيار الزوج الذي سيمنح أبناءه الكثير من صفاته الخُلقية والخَلقية.

ويأتي بعد ذلك جهد متواصل بالتعليم المتميز والتربية الطيبة التي تكسب صاحبها خبرة ومهارة وقوة الشخصية، بالإضافة إلى غرس الصفات القيادية من ذكاء وشجاعة وثقة وتواضع وصدق وأمانة وطموح وهمة عالية ونشاط، وغير ذلك من الصفات التي تجعل صاحبها واثقا بنفسه نافعا لغيره.

كل هذه الصفات جيدة، غير أنها لا تعمل عملها في النفس والحياة إلا إذا اقترنت بعظيم الصبر والأمل، وعدم اليأس والاستسلام، بأن تمنح صاحبها القدرة على مواجهة التحديات والصعوبات التي لا بد وأن يواجهها كل إنسان يعيش على ظهر هذا الكوكب، بغض النظر عن مستواه المادي أو التعليمي.

بل يمكن القول إن النجاح في تخطي العقبات ومواجهة التحديات هي الخطوة الأولى نحو غرس الثقة بالنفس، وأن الطفولة التي يحيط بها بعض الصعوبات تكون خير بيئة ينشأ فيها القادة والأبطال، وتكون خير معلم يُكسب صاحبه الإدراك الواعي بحقيقة الحياة وحجم ما فيها من تحديات.

وينبغي الإشارة هنا إلى أن هذه الصفات لا يكتسبها المرء بين عشية وضحاها، بل يرتقي الإنسان في مدارجها عبر مراحل عمره، وربما يبلغ الستين من عمره ولم يبلغ الكمال في إحدى هذه الصفات، ولكن الأهم أن يسير على طريق إصلاح نفسه والارتقاء بها عبر السنين.

وبالنظر إلى نماذج من «الأبطال» الذين غيروا التاريخ، ستجد أنهم يشتركون جميعا في صفات ومؤهلات أكسبتهم الإيمان الصادق والعلم النافع، ونشأوا في بيئة صعبة تعلموا منها الإصرار والكفاح، وأنهم كانوا نتاجا لتفاعل جيل كامل من العلماء والمربين والقادة والمصلحين.

الأم مدرسة.. من هند بنت عتبة إلى أم ابن حنبل

قالوا قديما إن وراء كل عظيم امرأة، وهي بالفعل كلمة تثبتها وقائع الأيام، فالمرأة إذا قامت بدورها المطلوب منها تكون خير من يربي الأبطال والعظماء. فكل عظيم من عظماء البشر خرج من رحم امرأة أثرت في شخصيته، وارتبط بامرأة سكنت قلبه ورافقته في طريق العظمة.

لم تكن هند بنت عتبة أم معاوية بن أبي سفيان تمزح حين كانت تأخذ ولدها لتربيته على معالي الأمور، فقد روى المدائني عن صالح بن كيسان قوله إن بعض متفرسي العرب رأى أم معاوية وهي تقوم بتربيته صغيرا؛ فقال: وكأني أراك تريدين هذا الغلام سيدا لقومه. فقالت هند: ثَكِلتُهُ إن كان لا يسود إلا قومه.

هناك أيضا السيدة «ليلى بنت عاصم» حفيدة أمير المؤمنين الفاروق «عمر بن الخطاب» رضي الله عنه، وأم الخليفة الراشد «عمر بن عبد العزيز»، كان لها أعظم الأثر في تربية ولدها «عمر» على التقوى والعلم، وورد في شأنها عدة أخبار تصفها بالمرأة المحسنة والتقية، وقد سجل المؤرخون سيرتها في سجل الأمهات الخالدات اللاتي أنجبن عظماء التاريخ الإسلامي.

ومثلها في الفضل السيدة «فاطمة بنت عبدالله» والدة الإمام «محمد بن إدريس الشافعي» الذي ولد يتيما، فلم تمضِ على ولادته غير سنتين حتى تُوفي أبوه، وبقي في كفالة أمه، التي ما انفكت تسعى جاهدة في تربيته وتعليمه بهمة عالية، فأخذته من غزة إلي مكة وهناك تعلم القرآن الكريم وهو ابن سبع سنين، ثم أرسلته إلي البادية ليتعلم اللغة العربية، ثم علمته الفروسية والرماية فكان يضرب مائة رمية لا يُخطئ منها واحدة، ثم نذرت الأم العاقلة ابنها للعلم، تنفق عليها بمغزلها، وتجوب به البلدان، وتقدمه إلى العلماء، وظلَّ الشافعي يقتبس من نبلها وأدبها وحسن فهمها حتى أصبح «كالشمس للدنيا، وكالعافيةِ للبدن»، كما أخبر عنه العالم الموسوعي «أحمد بن حنبل» رحمه الله.

ولبيان دور الأم في صناعة الأبطال والعلماء الأفذاذ، يكفي أن تقرأ رسالة والدة شيخ الإسلام «أحمد بن تيمية» بعد أن أرسل لها يعتذر عن إقامته بعيدا عنها بمصر، لأنه يرى ذلك أمرًا ضروريا لتعليم الناس الدين، فردت عليه قائلة: «والله لمثل هذا ربيتك، ولخدمة الإسلام والمسلمين نذرتك، وعلى شرائع الدين علمتك، ولا تظننَّ يا ولدي أن قربك مني أحب إليّ من قربك من دينك وخدمتك للإسلام والمسلمين في شتّى الأمصار، بل يا ولدي إنَّ غاية رضائي عليك لا يكون إلا بقدر ما تقدمه لدينك وللمسلمين، وإني يا ولدي لن أسألك غداً أمام الله عن بعدك عني، لأني أعلم أين ، وفيم أنت، ولكن يا أحمد سأسألك أمام الله وأحاسبك إن قصّرت في خدمة دين الله، وخدمة أتباعه من إخوانك المسلمين».

«محمد الفاتح».. تربية من نوع خاص على يد الوالد والشيخ

يتساءل كثيرون: كيف استطاع «محمد الفاتح» (835 / 886 هـ = 1432 / 1481م) فتح القسطنطينية في عمر صغير، وهي المدينة التي عجز عن فتحها الكثير من القادة والعظماء؟ بالرجوع إلى الوراء قليلا، وبالتفتيش فيما وراء الكواليس، ستجد أن هناك رجلا عظيما كان مربي ومعلم محمد الفاتح وهو الذي زرع فيه فكرة «فتح القسطنطينية» منذ نعومة أظفاره حتى امتلكت عقله وملأت وجدانه.

إنه الشيخ «محمد بن حمزة الروحي» الملقب بـ «آق شمس الدين» والذي كان له أعظم الأثر في تكوين شخصية محمد الفاتح، حيث كان يرافقه ويعلمه كل يوم، وأسس تربيته وتعليمه على مبدأين كبيرين، الأول: فضل الجهاد، والثاني: غرس في وجدانه أنه هو الأمير المقصود في الحديث النبوي الشريف «لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش».

وإضافة إلى هذه التربية الإيمانية، حرص شيخه على تعليمه العلوم والفلك والتاريخ والقواعد الاستراتيجية للحروب؛ فلا نجاح بدون علم وتربية، وكل هذا كان له الأثر الأكبر في صقل شخصية محمد الفاتح، فشبَّ طامح النفس، عالي الهمة، موفور الثقافة، مرهف الحس والشعور، أديبا شاعرا، فضلا عن إلمامه بشئون الحرب والسياسة.

السلطان «مراد الثاني» سابع سلاطين الدولة العثمانية والد «محمد الفاتح» كان له أيضا الدور الأبرز في تشكيل شخصية ابنه، فقد أحضر له عددا من المربين والمعلمين لتعليمه أصول القيادة، وتعهّده بالرعاية والتعليم؛ ليكون جديرًا بالسلطنة والنهوض بمسئولياتها؛ فأتم حفظ القرآن، وقرأ الحديث، وتعلم الفقه، ودرس الرياضيات والفلك وأمور الحرب، وإلى جانب ذلك تعلم العربية والفارسية واللاتينية واليونانية، واشترك مع أبيه السلطان مراد في حروبه وغزواته.

ورغم أن محمد في البداية كان له ميل للترف واللعب واللهو شأن كل من ينشئون في القصور، إلا أن والده أتى بالمعلم «أحمد بن إسماعيل الكوراني» وأوصاه أن يضربه إن عصاه، فقد كان قلقا على ولده من حياة اللعب والترف، وكان حريصا على جعله قائدا منذ الصغر؛ فجعله أميرا على ولاية «مانيسا» وهو في الثانية عشر من عمره؛ وبعد أن رأى فيه كفاءة وذكاء كافيين ليتحمل عبء الحكم والدولة، قرر مراد الثاني التنازل عن العرش لولده محمد وهو في الرابعة عشرة من عمره فقط.

واشتهر محمد الفاتح بأنه راع للحضارة والأدب، وكان شاعرًا وله ديوان شعر، وكان يداوم على المطالعة وقراءة الأدب والشعر، ويصاحب العلماء والشعراء، ويصطفي بعضهم ويُوليهم مناصب الوزارة.

«يوسف بن تاشفين».. التربية في رباط «عبد الله بن ياسين»

بنظرة فاحصة إلى حياة «يوسف بن تاشفين» (400- 500هـ/ 1009- 1106م) قائد دولة المرابطين الذي وحد بلاد المغرب العربي وأخر سقوط الأندلس أربعة قرون، ستجد أنه لم يستطع أن يحقق هذه الإنجازات الكبرى التي غيرت مجرى التاريخ لقرون إلا بسبب تميز نشأته التي كانت تحيط بها التربية الإيمانية والجهود التعليمية من كل جانب.

فقد نشأ «يوسف بن تاشفين» على حب الرباط والجهاد، بعد التحاقه بدعوة الشيخ عبد الله بن ياسين، مؤسس الحركة المرابطية، في رباطه على نهر النيجر حتى أصبح أحد المقربين منه، نظرا لتميزه ونبوغه، حتى تحولت الحركة على يد «ابن تاشفين» إلى «دولة المرابطين».

فقد نذر «ابن ياسين» حياته للعلم والدعوة والعمل على عودة الناس للدين الصحيح وتطبيق الشريعة، وأسس «الرباطات» في كل مكان حل به وكان أول «رباط» أسسه في إفريقيا السمراء قريبا من نهر السنغال، وكان يوسف بن تاشفين أحد أبرز تلامذته.

ومعنى هذه «الرباطات» أن الشيخ عبد الله بن ياسين كان يأخذ تلاميذه في خلوة بعيدا عن ضجيج المدين لفترة من الوقت يرابطون معه على طلب العلم وتزكية النفس والتدريب على الجهاد حتى تقوى عزيمتهم ويشتد ساعدهم.

وبمرور السنين استطاع «ابن ياسين» أن يربي جيلا جديدا غيّر به واقع البلاد والعباد في بلاد المغرب ووسط إفريقيا وجنوب غرب أوروبا. وذلك عبر «دولة المرابطين» التي شملت كل المغرب وجزء كبير من الجزائر وبلاد غرب إفريقيا وأغلب الأندلس في عهد يوسف بن تاشفين.

«صلاح الدين الأيوبي».. تعلم الهمة العالية في مدرسة «نور الدين محمود»

لم يكن غريبا على «صلاح الدين الأيوبي» (532 – 589 هـ / 1138 – 1193 م) أن يشتهر عنه قوله «كيف أضحك والأقصى أسير» وهو قد تربى على يد الملك العادل «نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي» الذي طالما أعلن «إني أستحي من الله تعالى أن يراني مبتسما، والمسلمون محاصرون بالفرنج».

هذه الكلمات تلخص منهج وهمة صلاح الدين الذي ورثها عن معلمه ومربيه، وتعكس كيف تأثر بكل صغيرة وكبيرة من أخلاق وأعمال وحتى كلمات الملك العادل، وأفضل من تولى الحكم بعد عمر بن عبد العزيز، حيث كان من القادة الأبطال الذين سخرهم الله لنصرة دينه، وتربية قادة وجنود أعدهم لمحاربة الصليبيين وإعادة المجد إلى الأمة الإسلامية التي كانت في ذلك الوقت مقسمة بين إمارات وممالك صغيرة وضعيفة.

فقد قام نور الدين محمود بتربية «صلاح الدين الأيوبي» على حب الجهاد منذ صغره، فكان بمنزله الوالد والمعلم يدربه على فنون القتال ويغرس فيه حب الجهاد ثم عينه بعد ذلك قائداً للشرطة، ثم أرسله بصحبه عمه «أسد الدين شيركوه» إلى مصر وتولى صلاح الدين الوزارة في مصر، وعمل على القضاء على الدولة العبيدية، وبالفعل نجح في ذلك وعادت مصر سنية مرة أخرى.

فقد كان نور الدين محمود يعمل على تهيئة الناس وإعدادهم للجهاد في سبيل الله وحثهم عليه في بيئة تواجه باستمرار خطر العدو الذي يحتل مقدسات المسلمين ويتربص بهم الدوائر، كما كانت له عناية خاصة بتعليم القرآن الكريم والحديث النبوي للشباب والفتيان، خاصة ضمن جهوده لمحاربة المد الشيعي الذي استطال في بلاد الشام خلال عهد سيف الدولة الحمداني (333-356 هـ / 944- 967 م).

وأخذ نور الدين في إنشاء المدارس التي تدرس المذاهب السني وخاصة المذهب الحنفي والشافعي، كما كان يعتني أيضا بفقهاء المالكية والحنابلة، وأثمرت جهود نور الدين وأمراؤه في تحويل حلب إلى مركز أساسي من مراكز التعليم والثقافة في ذلك الوقت، حتى أحصى المؤرخ عز الدين شداد مدارس حلب في أيام نور الدين محمود فوجدها أربعة وخمسين مدرسة موزعة بين المذاهب الفقهية السنية الأربعة.

كما كان نور الدين يوجه اهتماما خاصا بمدارس النشء، ويعمل على تربية وتعليم الأيتام مجانا ويجري عليهم وعلى معلميهم النفقات الوفيرة، وخصص نور الدين لهذه المؤسسات التعليمية – على اختلاف أنواعها – أوقافا كثيرة لتمكين طلابها ومعلميها من التفرغ للعلم، حتى أن ابن الأثير نقل عن خبير بأعمال الشام أن أوقاف نور الدين كانت تغل عام 608 هـ / 1211 م تسعة آلاف دينار كل شهر، وهو ما تسبب في تحويل الشام في عهده إلى قبلة للعلماء والفقهاء.

 

وبذلك وفر نور الدين محمود أجواء ملائمة تربى فيها الأبطال من نوعية صلاح الدين الأيوبي، فقد حرص على صبغ إدارته للبلاد بصبغة إسلامية مع تكامل القيادات السياسية والفكرية، ووفر أجواء الشورى وعدم الانفراد بالقرارات، وغلبة المصلحة العامة على الانفعالات والمصالح الشخصية، والتفاني بأداء الواجب بتعاون وتآخٍ، والزهد والتعفف وإنفاق المال في الجهاد والصالح العام، وتوافر الأمن والعدل واحترام الحريات العامة.

كل هذا إضافة إلى سمات نور الدين الإيمانية والأخلاقية والعلمية كان له أبلغ الأثر على رجاله ومعاونيه وقادة الجيش حتى أصبح بعضهم في مستوى نور الدين في العلم والأخلاق والورع مثل وزيره أبو الفضل محمد بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري وصلاح الدين الأيوبي.

فقد كان صلاح الدين الأيوبي فارسا شجاعا وبطلا مغوارا، وكان نور الدين يحبه ويُقربه منه حتى عينه على رئاسة الشرطة في دمشق، ولذلك كان صلاح الدين نعم الجندي في السمع والطاعة لقائده نور الدين زنكي.

وحين تقرأ كتاب «هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس»، ستجد كيف أن ظاهرة صلاح الدين ليست ظاهرة بطولية خارقة يصعب تكرارها، وإنما جاء ظهور صلاح الدين كنتيجة لعوامل التجديد ولجهود جموع الأمة المجتهدة، وأنه كان ثمرة مائة عام من محاولات التجديد والإصلاح، وأنه في نفس الوقت ظاهرة قابلة للتكرار إذا حدثت نفس الظروف.

 

المصدر: موقع تبيان