5 خــلاصــات وعـبــر من دروس التــاريخ تـساعدك على فهم واقعـنا الآن
الخلاصة الأولى: التجربة التاريخية لا يقوم مقامها التفوق العقلي أبدًا
نستعرض فيها بعض دروس وعبر التاريخ لنري كيف يمكن أن نحل هذا الواقع ؟ التاريخ نستفيد منه جميعا كما أي تجربة شخصية وقد علمنا رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال : (لا يُلدغ المؤمن من جحرٍ واحدٍ مرتين) أي إنسان ناجح لا يكرر خطأه مرتين معناه أن التجربة التاريخية مؤثرة في حياة الإنسان، حتي الشركات تحب أن توظف ذوي الخبرات السابقة، الحياة الإنسانية بها تجارب أكبر من عمر الإنسان ( الثورات، سقوط الحضارات والنهوض وما إلي ذلك).
لذلك قيل: “من وعي التاريخ في صدره أضاف أعمارًا إلي عمره”، فيجب علي البشرية أن تنظر في تاريخ الأمة أو تواريخ الأمم السابقة لتخرج منها بخلاصات لمشاكلها الحالية، هنا سؤال
ألا نستطيع أن نحل مشاكلنا بالتفكير العقلي ونتجنب أخطاء بدون الرجوع للتاريخ ؟ ببساطة كان بإمكان الشركات أن تبحث عن الموظفين الأذكياء و ذوي النبوغ والتفوق العقلي بمرتبات أقل بدل أن تجلب ذوي الخبرات بمرتبات كبيرة !
فالتجربة التاريخية لا يقوم مقامها التفوق العقلي أبدا فالتاريخ يعطينا علمًا قد لا يمكن تحصيله بالنبوغ العقلي مثلا أمر خارج نطاق العقل البشري وقدراته ونضرب علي ذلك مثـال: لما النبي صلي الله عليه وسلم أرسل إلي هرقل رسالة تقول : من محمد رسول الله إلي هرقل عظيم الروم أسلم تسلم .. هذه الرسالة المشهورة، هرقل أرسل جنده كي يأتوه بأحد هؤلاء العرب الذين منهم النبي صلي الله عليه وسلم .. فأتوا له بأبي سفيان كان في تجارة وقتها للشام
هرقل ولأنه يدرك التجارب التاريخية للأنبياء .. سأل أسئلة محددة جدًا وبعد هذه الأسئلة استطاع أن يحكم هل هذا نبي فعلا مرسل من عند الله أم أنه غير صادق !
سأله 11 سؤال محددين، قال له : كيف نسبه فيكم ؟.. هل كان من آبائه ملك ؟ .. هل قال بهذا الذي قال به أحد قبله ؟ .. هل يكذب ؟ هل يغدر ؟ من اتبعه من الناس .. ضعفاؤهم .. أم أشرافهم ؟ .. يزيدون أم ينقصون ؟.. هل يرتد منهم أحد سُخطَة علي دينه ؟ هل قاتلتموه ؟.. كيف كان قتالكم إياه ؟ .. وبماذا يأمركم ؟
هذه الأسئلة المحددة لما أجابه عليها أبو سفيان .. أيقن هرقل أنها رسالة من رسول الله حقا
وقال لأبي سفيان : لو أنك صدقتني فيما تقول فإنه سيملك ما تحت قدمي هاتين مهما كان هرقل عبقري ونابغة لو لم يكن عنده هذا العلم بالتاريخ، ما كان بإمكانه أن يطرح هذه الأسئلة المحددة، وما كان بإمكانه أن يُدرك من الإجابات هل هذا نبي حقا أم ماذا؟
ففي هذه السلسلة سنجد أن التاريخ قد يبدو أحيانا ضد المنطق و ليس كل حل يبدو طبيعي ومنطقي هو حل صحيح بالضروري فـ الحل الخطأ تاريخيا و واقعيا قد يكون متوافقا مع المنطق .. و الحل المستغرب قد يكون هو الحل الصواب لذا لا نستطيع أن نقدم علي أي مشروع أو أو حل دون أن يكون لدينا وعي تاريخي.
الخلاصة الثانية: قد يبدو التاريخ أحيانا ضد المنطق !
قلنا إن التاريخ قد يكون ضد المنطق، لمـاذا؟ لأن الحياة أعقد من مجرد مسألة رياضية، نضرب بعض الأمثلة تُثبت أن التاريخ أحيانا ضد المنطق، نبدأ بأشرف الأمثلة، مثال من سيرة النبي صلي الله عليه وسلم، عاش في قومه أربعين سنة.. لم يروى عنه قط ما يضر أو يُسيء، ولم يلحظوا منه طموحـا لسلطة أو زعـامة، وبعد هذه الأربعين وقف النبي صلي الله علبه وسلم وقال لهم : ءأرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا خلف هذا الوادي تريد أن تغير عليكم .. أكنتم مُصدقي ؟!!قالوا : نعم . ما عهدنا عليك كذبا قط ! فلما قال لهم انبي صلي الله عليه وسلم , (( فإني نذيرٌ لكم بين يدي عذاب شديد .. قولوا لا إله إلا الله تفلحوا )) تغير الموقف تماما، وكان أول الردود عليه : تبا لك سائر ايوم، ألهذا جمعتنا !!
في لحـظات، تحول الموقف !! فلو كان الأمر بالمنطق، لكان المتوقع أن يؤمن به قومه في هذه اللحظة.
نبي الله صـالح أرسله الله إلي قوم ثمود، فكان من معجزاته أن أخرج الله لهم من صخرةٍ ناقة، رأوهـا بأعينهم تخرج من الصخرة، كما أنها كانت ثروة اقتصادية، تشبه لو اكتشفنا الآن حقل غاز أو حقل بترول، ماذا فعل قوم نبي الله صالح .. (( فعقروها )) (( وقالوا يا صالح إئتنا بما تعدنا إن كنت من الصـادقين)) !! رغم إن كل الحسابات المنطقية والطبيعية تقول أنهم سيؤمنوا بعد ما رأوها تخرج من الصخرة.
المثال الثالث : من تاريخ اليهود والنصـاري: قبل الإسلام كان اليهود إذا عاشوا مع النصاري عانوا الظلم والاضطهاد، فإذا جاء عدوا للنصاري استعان النصاري باليهود علي الأعداء، ثم بعد ذلك يعودون للانتقـام منهم !! و لما جاء الإسـلام عاشوا عصرا ذهبيا .. بشهادة مؤرخيهم هم ، ومع ذلك قال الله تعالي : (( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصاري أولياء بعضهم أولياء بعض )) أي أنهم رغم ما بينهم من الخلاف الشديد و رغم التاريخ الكريه، إلا أنهم إذا تعلق الأمر بالإسلام اتحدوا معا ضد المسلمين.
يقول بن خلدون في كتابه الشهير ( مقدمة بن خلدون) (( بأن الدولة في أول أمرها بحاجة إلي السيف أكثر من حاجتها إلي القلم )) الطبيعي إن الدول تقوم علي فكر و هو القلم، وتقوم علي السيف وهو القوة، ورغم أن المنطق و التفكير الطبيعي .. إن الدولة في أول أمرها تكون متسامحة و رحيمة .. يبذلون التوافق و يسعون إلي تهدئة الأمور .. وتطيب الخواطر وجمع المختلفين معهم لكن سيرة الدول لم تكن هكذا .. فهاهنا، في هذه اللحظة التاريخ يخالف المنطق .
الخلاصة الثالثة: الشـعوب التي ذاقت الذل والقهـر لا تثور!
ليس كل ما يصح في الأذهـان قد يكون صحيحا تاريخـا .. أي أن التاريخ من الممكن أن يسير ضد المنطق، مثلا الشـعوب التي تثور ليست هي التي ذاقت الذل والقهـر بينما الشعوب التي ذاقت الذل والقهـر لا تثور! وضـرب الله لنا مثـلا علي ذلك بـ بني إسرائيل : وصلوا من الذل مرحلة بشعة لدرجة أن فـرعون كان يستطيع أن يُصدر أوامـر بقتل أبنائهم .. ومع ذلك لا يملكون أن يعترضوا ولا يملكون أن يثوروا !!
تخيل : يدخل الشرطي يبحث هل المولود ذكر أم أنثي فإن كان ذكـرا قتله هكذا ببساطة، رغم ذلك بقي هذا الشعب ذليلا ولم يرفع وجهه في وجه الظلم و القهـر ، ولما أرسل الله سبحـانه وتعالي لهم نبيـا منقذا و مُخَلِصا لم يتجـاوبوا مع هذا النبي ! رغم أنه المنقذ والمخلص ! وقالوا : (( أوذينا من قبل أن تأتينا و من بعد ما جئتنا )) !!
ولما نجـاهم الله بقدرته من فرعون بمعجـزة ضخمة هائلة، تخيل قوم عبروا البحر بمعجزة ثم رأوا بأعينهم غرق فرعـون، وقبلهم مباشرة كانوا يقولون لنبيهم إنـا لمدركون فيجيبهم بثقة المطمئن لربه ( كلا إن معي ربي ) وأول ما يروا قوم يعبدون عجلا يقولون لموسي اجعل لنا إله كما لهم آلهة !!
وفي النهاية قال سيدنا موسى : (( ربي إني لا أملك إلا نفسي وأخـي )) هذا الجيل، رأي أبشع أنواع الظلم والقهـر ولم يتحـرك والأقسى أنه لما جاءهم نبي منقذ لم يتجاوبوا معه ولما نجـاهم الله لم يقدروا حياة العزة والكرامة ولم يستجيبوا لأمر الله تبارك و تعالي،و هنـا وقفة نتساءل لماذا ؟؟ لأنهم سمحـوا لهذا الذل أن يتسرب إلي نفوسهم فأشربت أرواحهم الذل والهـوان .. و هـانوا علي أنفسهم قبل كل شيء .
أمـا الإسـلام فإنه يجعل من يعتنقه يمتلك قوة العقيدة الهـائلة التي تجعل بلال بن ربـاح رضي الله عنه وأرضـاه يُـعذب تحت الصخـرة في لهيب الرمـال الحـارقة والصحـراء القاحلة .ثم هو لا يأبه بكل هذا بل يظل يردد : أحد أحد حتى إذا ما عجـز لسـانه، انطلقت سبابته تشهد بالوحدانية لخـالق الكون،عـقيدة يؤمن صاحبها إيمانًا حقيقيا أنه نحن قوما أعزنا الله بالإسـلام .. فيهون ما نفقد من أجـل عقيدتنا .
عقيدة يؤمن صاحبهـا أن (( لله العزة ولرسوله وللمؤمنين )) وأن الأمـر لا يُقاس بالقوى المـادية فأنشأ الإسـلام هذه الثنائية الرائـعة .. أنا ضعيف و أعذب .. لكني أمتلك القوة النفسية التي تجعلني قويا عزيزا بالله بينما ذلك الذي يعذبني لا شيء أبدا تلك العقيدة التي جعلت أبا بكر لجهره بإيمانه رغم العذاب .خيرٌ من مؤمنِ آل فرعـون الذي كتم إيمانه خوفا، وكلٌ كانوا صالحين.
الخلاصة الرابعة: الشعوب التي لم تعانِ الذل والقهر تثور !
ينمـا الشعوب التي لم تعان الذل والظلم والقهـر تثـور المثـال : بني إسرائيل أيضا ! لكن الجـيل الثـاني بعد ما دخل الجيل الأول في التيه ونشـأ الثاني هنـاك سيدنا موسي توفي وسيدنا هـارون عليهما السلام، في فترة التيه التي عـاقب الله بهتا بني إسرائيل عندما رفضوا اتباع أمره بدخـول الأرض المقدسة و قال تعالي : ( فإنهـا محرمة عليهم أربعين سنة يتيهـون في الأرض ) يقـول بن خلدون : كان لابد لهم أن يتيهـوا في صـحراء سيناء والشام لكي ينشأوا في جو ليس فيه لا تحكم الفراعنة في مصر ولا تحكم العماليق في الشام فينشـأ جيل لم يتعود علي التحكمـات (وجود نظام قاهر متجبر ) هذا الجيل قاده نبي الله يوشع بن نون وهو هذا الفتي الموجود في قصة سيدنا موسي عليه السلام مع الخضر.
هذا المعنى موجود في كل ثورات الشعوب، ستجد الناس التي تثور هي فئة الشباب، الفئة التي لم تعاني الظلم والقهر ولم يزرع بداخلها بعد، لذلك تجد أنه من القواعد التاريخية المشهـورة أن الجيل الواحد لا يثور مرتين الاستفادة : أنه لما تحصل في أزماننا ثورة لابد أن نعض عليها بالنواجذ، لأنه إن لم تنجح هذه الثورة، شيء طبيعي أنه لن تقوم ثورة أخري إلا بعد جيل أو اثنين أو ثلاثة ، لأن الجيل الذي تفشل ثورته هو الجيل الذي يتعـود بعدها علي الظلم والذل والقهـر .
الخلاصة الخامسة: الرئيس التوافقي فكرة لا تصلح عند الصراعات الحضارية والفكرية
لما هاجر النبي صلي الله عليه و سلم إي المدينةمن الناحية الدينية كان هناك مسلمين .. مشركين .وأيضا بدأ يظهر فيها المنافقين، من الناحية الاجتماعية : أنصار(كانوا منقسمين قبل الهجرة بقليل إلي أوس و خزرج) و مهاجرين ( أتوا من كل القبائل ) اقتصاديًا : كانت فقيرة تعتمد علي الزراعة و تستورد أغلب المنتجات .. و يسيطر عليه اليهود، المدينة بهذا الوضع المعقد , وبهذا النمو السكاني المفاجئ مع قدوم المهاجرين كانت تحتاج إلي {رئيس توافقي}
وأهل المدينة فعلا كانوا علي وشك أن يختاروا ملكا لهم وهو عبد الله بن أبي بن سلول (قبل قدوم رسول الله صلي الله عليه وسلم ).
المهاجرون القادمون إلي المدينة الذين عانوا من الاضطهاد يمكة وخرجوا فقراء بغير أموالهم و لديهم مشكلة في التجانس مع أهل البد و عليهم أن يفكروا في توفير موارد نتيجة الطفرة التي أحدثوها ، القرار المنطقي أن يفكروا في أخذ حرية الدعوة و التصالح مع الطوائف الموجودة، تبدو فكرة الرئيس التوافقي فكرة جذابة و مناسبة مع وجود مثل هذه المشكلات خصوصا أنهم خرجوا أصلا يطلبون حرية الدعوة .
لكن ما فعله النبي صلي الله عليه وسلم لم يكن كذلك، لقد أنهي النظام السياسي الذي كان موجودا في المدينة و بدأ نظاما جديدًا كان فيه حاكما و وضع بندا حاسما يقول فيه : ( و أن ما يكون بين أهل هذه الصحيفة من خلاف فإن مرجعه إلي الله وإلي محمد رسول الله (
لماذا لم يُطرح خيار الرئيس التوافقي و نستثمر حرية الدعوة الموجودة إلي أن نصل إلي السلطة بعد تكوين القاعدة أو الكتلة الجماهرية الكبيرة ؟؟
لأن الصراعات الحضارية الكبري، الصراعات الفكرية لا يصلح فيها هذا النوع من التدرج بل لابد من البدايات القوية الحاسمة يعني دولة الإسلام في المدينة بدأت هكذا بقرارٍ حاسم وباختيار حاسم حتى لو سيترتب عليه كثيرٌ من العداوات مع أبي بن سلول وأتباعه ومع اليهود و مع قريش أيضا بينما تطبيق الأحكام و التدرج فيه و في نهضة الدولة .. هذا هو ما يحتاج إلي التدرج أي تغيير حاسم ( كالثورات ) لابد أنه يحمل فكرة ما و هذه الفكرة لابد أن يثبتها و ينفذها بخطوات جريئة و حاسمة ولا تدع فرصة لأعداء هذه الفكرة أن يعودوا مرة أخري.
المصدر: موقع تبيان